اليهودي العراقي ذاكرتي الممحية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أقام أمس الخميس، معهد الدراسات السامية العربية التابع لجامعة برلين الحرة، لقاء مع عبد القادر الجنابي، باشراف مديرة المعهد انجليكا نويفرت. وذلك بمناسبة وجود الجنابي كضيف لمدة أسبوع في معهد الدراسات العليا (برلين). وقد قدم الجنابي البروفيسور الإسرائيلي (العراقي الأصل) رؤوبين سنير بتعريف عن نشاطاته وعن علاقاته باليهود العراقيين. وبعد أن القى عبدالقادر الجنابي كلمته التالية، دار نقاش حيوي مع الحاضرين والطلاب حول التطبيع والصراع العربي الإسرائيلي وحرب تحرير العراق، وقد اختتم اللقاء بقراءة عدد من قصائده:
دون أن أدخلَ في تفاصيل صداقات طويلة مع مبدعين يهود مسقطُ رأسِهم هو العراق، أفضّلُ أن أحدد عددا من النقاط بصدد لقاءاتي مع يهود عراقيين: لم أُقِم يوما ما علاقةً مع أي كاتب التقيتُه في حياتي، على أسس اثنية أو إقليمية... أقصدْ لم أكتف بمقولة: "فلان عراقي إذن هو صديقي"... كلا! هذا المبدأ لم يكن له، في نظري، أيّةُ قيمةٍ...
مبدأٌ كهذا كنت أعتبِرُهُ، على نحو ما، عائقا يمنعُ التواصلَ المرادَ بين غريبين لهما ماض واحدٌ، بين مغامرتين حياتيتين الخلقُ؛ الخَلقُ بمعنى الاكتشاف؛ اكتشاف معنى المجيء إلى هذا العالم عبر الكلمة، هو الجوهري في هاتين المغامرتين.
في كل لقاء مع أي كان، ما إن تمرَّ العبارات الأولى (أهلا وسهلا، انت من محلة الشورجة، صحيح؟ أنا من شارع الرشيد أهلا وسهلا.. إلى آخر عبارات السلوك والآداب هذه)، أقول ما إن تمرَّ هذه العبارات حتى يتجلى السؤالُ الذي سيُحدِدُ جوابُه مصيرَ لقائكَ به / لقائِه بك:
مالذي سيُضيفُ / أُضيفُ...
أيُّ عَتَمةٍ ستُضاء وأيُّ عَتَبةٍ سيتُمُّ تجاوزُها...
وبالتالي وهنا بيتُ القصيد، أيُّ غرفةٍ فكرية، من بيت الصداقات العظيمة، سنفتحُ نافذتَها لنُطلَ على عالم كبير مشترك الدفاعُ عنه جزء من مسؤوليتِه / مسؤوليتي الأخلاقية.
هذا من جهة كائنات تلتقي في الطريق المؤدّي إلى غابة المصير.
***
أما من جهة اللقاء مع الآخرَ المطمورِ فيك، مع أناسٍ تاريخُكَ، خصوصا الحديثُ منه، في نزاع هستيري معهم لأسباب تفهمُها أو لا... فهذه مسألةٌ كانت آنذاك محفوفةً بالمخاطر وبقُشعَريرةِ انتهاكِ المُحرّم، والخروجِ على الضمير الجمعي. بعبارة أوضحْ: أن تحاوِرَ إسرائيليا في مطلع سبعينات القرن الماضي حيث الصراعُ العربي الإسرائيليُ كان في قمتِه، يعني أن تعيَ بالتأكيد فرديتَك، وتشعرَ أنك قمت بفعل هو من حقِكَ أصلا... لكن عليك أن تكتُمَهُ كأي مُراهِقَةٍ تكتم عن عائلتها لقاءا سريا بـ"منبوذ". نعم هكذا كان يدفع اللقاءُ مع يهودي ما، إلى الشعور بأنك "تجاوزت خطا أحمرَ.. بأنك خرجت على بيت الطاعة.. أي لم تعد واحدا من القطيع العام...
لكن... أحقا اللقاءُ بيهودي كان له كلُ هذه النتائج السلبية؟ السؤالُ دار في خَلَدي على نحو قاطع لايحملُ جوابُهُ، على الأقل ظاهريا، أيَّ نفي. بل نعم ونعم مرسومة بحروف كبيرة أمامك، فيك، وكل فكرة تطرأ لك...
نعم، ربما... والأمر هنا يخصني، على أنني لا أخشى هذه "النعم" فأنا أصلا منشق على العائلة، القبيلة، الوطن... فالفترة التي عشتها ما بين 1964 و1969 كانت في منتهى البوهيمية واحتقار تراث "الأنا" .. كان آنذاك ثمة جيل بوهيميٌ، عدميٌ، ربما لم يأت بالنص النموذج، وإنما فقط بشظايا لها تاريخيتُها... لكنه كان جيلا انتهاكُ المحرم (في الكتابة، كما في الحياة اليومية: في كسر تركيبة النحو كما في السلوك الشاذ في الملبس والعيش اليومي) كان في نظره هو المعيار على أنك حديث ومعاصر وأنك خائن بشكل ما في عين التقليد.
والحياة البوهيمية هذه كانت بقدر ما تبررُ عبثية كل فكرة، كانت أيضا تمنحنا القدرةَ على الجُنحَةِ: سرقة الكتب! ومن بين هذه الكتب كان كتابٌ صغيرٌ صادرٌ عن دار بنغوين الانجليزية ضم مختارات لأشعارِ واحدٍ من كبارِ شعراءِ اللغة العبرية المعاصرة يهودا عميخاي... شعَرْتُ، كما قلت في لقاء أجراه معي قبل سنوات صديقي رؤوبين سنير، "شعَرتُ وكأن صوتا سماويا قد اخترق كيانيَ كلَهُ ليستقرَّ في لا وعيي".. والصوت السماوي هذا، وهنا المُصيبة، إسرائيليٌ، آخرُ منبوذٌ!...
لكنه مقلق: هل يمكن لشعر قوي أن يُكتب بلغة هي في نظرنا "لغةٌ عدُوْ" وبالتالي يؤثر فينا. وبما أن فترة السنوات هذه كانت تتميز بغياب السلطة، كان كل واحد منا يبوح للآخر علنا إعجابَه بما يقرأْ.. وهكذا ينتشر سر الاكتشاف وسرَعانَ ما يُصادَر... نعم استولى على نسختي شاعرٌ عراقي له ميول قومية بعثية اسمه سامي مهدي مُوعدا إياي بأنه سيترجِمُه... وبالفعل ترجم عددا من قصائد يهودا عميخاي ونشرها في مجلة "شعر 69" لكن... مع مقدمة من باب "اعرف عدوَّكْ"! وهكذا حجب، بالانتقام من هُوية الشاعر الإسرائيلية، عن القراء قدرة هذا الشعر على إيقاظ ما هو كامن فينا أصلا.
وعندما وصلت لندن مطلع 1970، كانت السوريالية هدفي الشعري الأول والتروتسكية منطلقا سياسيا. كانت الأممية الرابعة تعمل من أجل خلق مجتمع شرق أوسطي اشتراكي... نظرة مثالية كنت أعتقد بامكانية تحقيقِها آنذاك. كان العمل مع قوى اليسار الإسرائيلي المناهضة للنظام الإسرائيلي، نقطة جوهرية على كل منتم للتروتسكية الإيمان بها. آمنت بها.
***
مع خلفية حياتية وذهنية وسياسية كهذه، لم أجد صعوبةً عندما عرفني مصطفى خياطي في منتصف 1973 على إسرائيلي من أصل عراقي إسمه شمعون بلاص... وبالتالي تكاثرت اللقاءات مع إسرائيليين آخرين معظمهم يهود عراقيون.
سأركّز هنا على اثنين، ليس لأن الآخرين أقل شأنا أبدا... فإن مكانتهم عندي جد كبيرة ومن بينِهم الروائي سيد العامية العراقية بامتياز في السرد القصصي سمير النقاش الذي زرته في إسرائيل، ساسون سوميخ الذي قام بترجمة عدة قصائد لي الى العبرية، نسيم رجوان صاحب مؤلفات عديدة بالانجليزية منها عن تاريخ "يهود العراق"، وطبعا رؤوبين سنير الذي توطدت علاقتي به منذ سنوات وكانت لها نتائج ثقافية مهمة كإصدار ترجمة عربية لقصائد شاعرين إسرائيليين معاصرين معروفينأمير أور وروني سوميك في منشورات فراديس، وكراس لأشعار نتان زاخ كما انجز لـ"إيلاف" أهم وأول انطولوجيا للشعر الإسرائيلي.
قلت سأركّزُ هنا على يهوديين عراقيين هما شمعون بلاص وروني سوميك. الأول هُجَّرَ من العراق وهو في سن الرشد، بل كان في بداياته الأدبية ومتطلعا إلى مستقبل أدبي عراقيا. الثاني ترك العراق مع أهله وهو في سن الثالثة، طفلا غير عارف أنه سيكون واحدا من كبار شعراء العبرية المعاصرة.
لقائي بشمعون بلاّص تم، كما ذكرتُ أعلاه، في ظروف سياسية، روني سوميك بدأ حواري معه في أوجِّ نقاشات التطبيع – اللاتطبيع مع إسرائيل، في مطلع تسعينات القرن الماضي.
***
علاقتي بشمعون بلاّص أضاءت جزءًا من تاريخي الذي كان محجوبا عني تحت طبقاتِ الصراعِ العربي الإسرائيلي. شعرتُ عبرَ لقائي به، بأنّ ما هي "أنا" هي في نهاية الشوط "آخرُ". ذلك أنه هو أيضا كان يُعرّضُ نفسَه، عند الالتقاء بيّ، لمخاطرِ انتهاكِ محرماتٍ فرضها الصراعُ عليه. الخوفُ نفسُهُ ربما بدرجاتٍ أقل. فهو أيضا ملفوظُ ربما ليس بسبب عبثيةٍ أو عدميةٍ هامشيةٍ كما كنا ندفعُ ثمنَها في ستينات العراق، لكن بسبب عبثيةٍ "تمييزيةٍ" منظمةٍ ينتهجُها الاشكناز وبحكمِ سطوتِهم على مؤسسات المجتمع الإسرائيلي، ضدَ اليهودِ الشرقيين. اتضحَ لي أن "العدوَ" الإسرائيلي لا يغمطُ حقوق الفلسطينيين فحسب وإنما كذلك يغمطُ حقوق جزءٍ من ذاكرتي...
إذن علاقتي بشمعون كانت حافزا ضروريا لفهم الآتي: ماذا لو كنت يهوديا وأُقنلعتُ من مسقط رأسي ملقى في فضاء جديد يرفضني لأن لا تاريخَ مشابها معه، رغم اننا من انتماء ديني واحد. ما الذي كنتُ سأفعله غير ما فعله شمعون بلاّص نفسُه: التحصّن بالكتابة كبحث عن الطفولة الأولى مُستقبَلا دون التواطؤ مع مغريات تقلبات الواقع... على كا، ربما حاول شمعون ان يعبر شعريا عن هذا الضياع لكنه فضّل السرد الروائي الموثق بوقائع، كبطاقة عودة إلى الجذور لاكتشاف المخرجْ.
صحيحٌ أن شمعون بلاص باحثُ أكاديمي وله مقالات وكتب تدلُ على سعته الأكاديمية، لكن أهميتَه تكمن في مشروعه الروائي. للأسف لا أستطيع أن اتحدثَ عنها لأنني لم أقرأها إذ ليست هناك ترجمات لها... لكن عبر تلخيصات لها وكثرة النقاشات معه عنها، وجدت شمعون بلاص منغمرا في نفس التساؤلات الوجودية لمصير فرد عندما يعود مجرد آخرَ في نظر المجتمع. فمنذ رواياته الأولى، كان يجمّع الوثائق اللازمة لمعرفة شخصيات قلقة منبوذة منفية جاعلا منها شخصيات شبه أسطورية رغم أنها واقعية. رواية "الشتاء الأخير" مثلا، أنا واحد من أبطالها العبثيين. العفيف الأخضر أيضا موجود وهناك عدد من منفيي باريس في سبعينات القرن الماضي.
***
أما روني سوميك فعلاقتي به تكشف عن الوجه الآخر من المرآة: ما ضيرَ أن تُقتلَع.. أن يَحدُثَ انزياحٌ في ذاكرتِك... ويكون لك وجودٌ آخرَ في مسار ذاكرة أخرى.. لم تكن ذاكرةُ سوميك مُحمَلةً بعبء كما كانت ذاكرةُ شمعون بلاص. فهو ترك العراق طفلا لايتجاوز الثلاث سنوات. ترعرع في سيرورة أخرى وفي لغة عليه أن يتعلَّمَها أن يُدافع عنها كتراث في أغلب الأحيان ضد تراثِ مسقطِ رأسِه.
هنا كانت أهمية اللقاء بروني سوميك. فمن خلاله، أكتشفت أن للغة، اقصد للشعر، طاقة الحوار. فروني أصله عراقي، وهذا يعني أنه على نحو ما جزء من ذاكرتي. لكنه الآن في الجهة الأخرى. وما علي إلا أن أجد وسيلة حوار مع هذا الجزء الآخر (المُعتبر كعدو) من ذاكرتي .
شعرت أن الحوار مع روني سوميك يرمي إلى تجسير الفجوة بين ذاكرتين، لنقُلْ بشكل أعم، بين ماضيين شعريين (العربي والعبري) تطورا في الوقت نفسِه كمتصارعين في ذاكرة المنطقة وكقطبين متلازمين لها. الكلمات حتى البريئة منها ولا أعرف أيّةَ كلمةٍ يمكنها أن تكون بريئةً في عالم مضطرب بالصراعات،.. أقول الكلمات كلُها تحمل على جبينها نُدبةَ الصراع العربي الإسرائيلي. فمثلما كانت إسرائيل في طفولتنا بُعبعا، بغض النظر عن الأسباب، كنا نحن أيضا بُعبعا في ذاكرة الإسرائيلي. كلُّ منّا كان ينامُ وفي أعمق أعماقه يفكر بالآخر.
هذه المشاعر جعلتني أعتقد أن لي جزءًا من ذاكرة تراودني في الأحلام والكوابيس، لكنني لا أعرف عنها أي شيء... مما قررتُ لكي أفهمَ ذاكرتي أنا كفرد عراقي، عربي، علي استحضار ذلك الجزء المفقود من ذاكرتي وأحاوره، أتوغل فيه... وعندها تأتي قصائدي مكتملة من المنبع كلّه.
من هنا كان اللقاء بروني سوميك مهما جدا... فقد ساعدني على فهم التجارب الشعرية للنصف الآخر من ذاكرة المنطقة.. كما أنه علمني بأن ما قاله ذات مرة الفيلسوف مارتن بوبر: "تنعدم القصيدةُ حيث ينعدمُ الحوار الأصيل"... يجب أن يُؤخذ هذا القولُ بعين الاعتبار إذا أردنا أن نكون جديرين بلقب شعراء. وهكذا وجدتُني أولا أضع هذه الفقرة عنوانا لكتابي الشعري الذي صدر بالفرنسية في أوائل كانون الثاني عام 1991... وليس من باب الانبهار بتركيبة بلاغية، بل من باب الإيمان المفيد أن الشعراء ليس لهم سوى سلاح واحد هو رؤاهُم.. رؤى واحدةٌ رغم اختلاف اللغات، يفهمها "الفؤادُ الشاعر"!
وثانيا: لم أتردد في قبول فكرة صاحب دار نشر فرنسي في باريس اصدار كتاب مشترك لنا بثلاث لغات عربية، عبرية وفرنسية. وبالفعل صدر الكتابُ تحت عنوان "ولدنا في بغداد" مع مقدمة بقلم مدير اليونسكو آنذاك فدريكو مايور.
اللقاء مع اليهودي العراقي إذن، لم يكن لقاء عائليا وإنما كان مدرسة تعلمت فيها مفهوم الحوار الذي يساعدك على الفَهم، وإذا حدث أنك تكتب الشعر، سيخلص الحوار هذا لغة القصيدة من عكازاتها السياسية وجعلها تمشي بذاتها، متغذيةً على كل ما يمكن لذاكرةٍ مُشرَعةٍ أن تُقدِمَهُ.
باختصار: لم أسعَ إلى عقد علاقات وكأني أقيم صفقات ولائية... كنت أبحثُ في ذاك الآخر الذي أحاورُهُ عن التجربة الموازية: ما فاتني مما هو لا يزالُ متّـقدا في الذاكرة.