الأشكال لا تجيب (1/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
النصوصُ تُكتب لتنتمي إلى "قصيدة النثر". لا أنكرُ إصابتي بدهشةٍ من نصوص "الكتلة"، التي تنازع البياض، فتفلح في أن "تكونَ" حقلاً من لغةٍ نثريةٍ فيها بذورُ الشكّ واليقين الشعريّ معاً،؛ حقلاً يُرتّبُ دَهْشةً من مَظْهرٍ مُوحشٍ وشائكٍ في غالب الأحوال؛ دهشةً تثني لسانَ القارئ ناحيةَ سؤالٍ حياديٍّ وجادّ: هل هذه"قصيدة نثر"؟ ما أنْ "يحضر" الحيادُ - وهو بالمناسبة: حاضرٌ غائب، لا يحترم ذاته، حاضرٌ مَرِنٌ- حتى "تكون" دعوةٌ للدهشة، لأنْ "تصير" رماداً، أو شيئاً آخر، ربما ناراً!
هذا الرّمادُ، أو هذه النار، خَلْقٌ جديد، مكانـُه وزمانـُه: "مرونةُ" أو "زئبقية" المتلقي. إذ "المرونةُ" أيضاً بلا سياجٍ فيها اختلاط الشكّ مع اليقين؛ هذا الائتلافُ الفاجع، إنما هو بمثابة شكلِ ومضمونِ إشكاليةِ التلقّي. الشكّ واليقين يبزغان يتنازعان، في "برهةِ الانطباع"، لحظةَ احتكاك العينِين بـ"الكتلة"! ويفترقان كلّما بَطُءَ زمنُ العينين؛ حيث على النصّ، هنا، أنْ "يخلقَ" "الاستفزازَ" بوصفِ المخلوقِ مرئيّاً في الدهشة، الدهشة التي دعوناها، في التو، أن "تصير" رماداً، أو شيئاً آخر، ربما ناراً، وربما وميضاً، بوصفها "برهة انطباعية" سرابية أو ضبابية وفاجعة، تُدْلي أو تمتنع عن الاعتراف و الدحض. تُعطي أو تتلكّأ عن إبداء "الموقف" من فضيلةِ أو من إساءةِ "الكتلة"؛ "الموقف" من حَنانِ أو جهامةِ الكتابة. إنها لمُهمةٌ صعبةٌ، وأكثر من مُحْرِجَةٍ! إذ سيشكّلُ مصطلحُ "قصيدة النثر" "سلطةً" تدعو لأنْ "لا نكون" بهلوانيين ومُهرّجين، وجبريينَ؛ لئلا نَسقط من عين النزاهة. ولأنْ "نكون" حريصين على تَحمّل مسؤولية البتّ في شكل المشروع - "قصيدة النثر"- مشروعِ "سلطةِ" الإبداع التشريعية والتجريبية.
وهنا أبتغي، الآن، إلتفاتةً دقيقةً لتاريخ الأشكال والتسمياتِ، وما نجم عن ذلك من الالتباسات والتعميمات التي ثنتِ اللسانَ والبيانَ عن الدقّة؛ فثمة تسمية هي "التفعيلة" تُعَظِّمُ ظلَّهَا في "الشعر الحر"؛ ثمة تسمية هي "قصيدة النثر" تُعَظّمُ ظلَّها في "اللغة" = "الكتلة". سيكون، إذاً، اللبسُ في النظر إلى "قصيدة النثر" باعتبارها تسميةً بديلةً -فيما هي تعملُ بالمرادفة- لـ "الشعر الحرّ". وقد اعتبرت سوزان برنار- في كتابها الشهير، عن بودلير- أنّ: "قصيدة النثر نوع على النقيض من النثر الشعري، والموزون.. حيث بودلير يستخدم - للارتقاء بنفسه- نثراً خاماً غير إيقاعي". وقد كان جبرا إبراهيم جبرا في الدقةِ حين خَلَقَ الفَرْقَ بين قصيدة "التفعيلة" التي عَرّفتْها نازك الملائكة بـ"الشعر الحرّ". كان يقصد جبرا أنّ "الشعرَ الحرّ" شيءٌ آخرُ غير مقترح الملائكة؛ بأنه الذي تمتثل له "التفعيلة": من حيث حضورها الجغرافي على البياض. ولا تمتثل له، في الوقت ذاته، لكونِه أهملَ الوزنَ والقافية معاً. هذا هو مَظهرُ "الشعر الحرّ". وقد تَرتّبَ عن وصف شكلِهِ تمايز آخر بينَ "قصيدة النثر" باعتبارها "نثراً خاماً" أو "كتلة" من جهة. ومن جهة أخرى، بين "التفعيلة" باعتبارها أسطراً متذبذبةً في قِصَرِها، ومحكومةً بالعروض؛ و"الشعر الحر" باعتباره متذبذب الأسطر، من دون أن يعتنق العروضَ مِلّة موسيقية. ولنذْكرَ، أيضاً، في هذا الإطار، القصيدة "المُدَوّرة" بما هي استحداثٌ أقصى، يلتزم بالوزن، ويحترم أو لا يحترم القافية؛ تتذبذب وتتكتل وتتمطّى وتتحلزن(من حلزون) على يوتوبيا البياض، كيفما شاءت دفقاتُ الشاعر. هذه الفاعلية الوجدانية، متمثلة بالدفقاتِ الشعرية، من شأن مشيئتها أن تُطالبَ الوعيَ الشعريّ الجديد ، بالتدخّل في قصيدة "الكتلة"، تشذيباً لها وتفكُّراً بها ـ أي أنْ "تكون" له "سلطةٌ" على الكتابة في يوتوبيا البياض الورقيّ أو بديلِهِ الالكتروني! إنّ هذه "السلطة" هي نقيضُ اليوتوبيا. وهي، في الوقت ذاته، تُمَأْسِسُ الحرّيةَ؛ إذ علينا أن نَطّهّرَ بنار البياضِ والحكمة، وأنْ تُبادرَ "سلطةُ" العدل بإظهار الفَرْق بين حنانِ الوعي في قلبِ الخيال، بين جَهامةِ "الوعي" مُؤَسّسةِ "الكتلة"!
السؤالُ الشَّهمُ المهيبُ: أينَ الشعرُ من كلّ الأشكال؟ أين الشعرُ؟ إنّه في كلّ محاولات الأشكال السابقة تُوجد بُطولاتٌ بلاغيةٌ واجتماعيةٌ للغة؛ تجريبيةٌ كذلك. و"يكون" دَورٌ خافتٌ ونادرٌ للشعر. هناك، دائماً، الاستيهامات التي تَجِدُ ربيعها وهزيعها في الأشكال. في النصوص التي تكتب لتنتمي لـ"قصيدة النثر" تحديداً، هناك بطولة اللغة، هناكَ شحّ الماءِ في "الكتلة"، ومؤامرةٌ بين الذهنِ والجملة. أينَ الشعرُ من كلّ هذا وذاك؟ إنه لسؤالٌ يهمُّني فيما هو يبكّتني، ويَهُمّ، فيما هو يبكّتُ، عِلْيَة القرّاء؟
أين الشعر؟ قد يكون ساذجاً وغيرَ مُجدٍ أن نسأل هذا السؤال، مثلما هي السذاجة واللاجدوى عندما نطالبُ بأن تجيب النظرية والأشكال عن سؤال الاستحالة: ما هو الشعر؟! لقد، عُرِفَ أنه من الأجدى عدم الاستغراق، وأن "يكون" التعاملُ عملياً، لا ميتافيزيقياً، مع ظهوراتِ الشعر في اللغة، بوصف اللغة مكمناً وحقلاً؛ لا أن "تظهر" شروطُ تعبئة اللغة، بوصفها-اللغة- مجتمعاً يحتاجُ التحرّرَ من الهوى والشوائب، والحشود؛ حتى "تصير" اللغة سماويّةً فاضلةً! لا ليس كذلك!
إن البشريَّ - حتى النبويّ- من السذاجةِ حين يقصدُ إعلاءَ اللغة لصقلِ ماهية الشعر وكسب النبوة. الحقيقة هي أنّ الشعرَ كائنُ نفسِهِ؛ لكنه ليسَ مُفارقاً. وأنّ "اللغة الشعرية" ليست لها امتيازاً ميتافيزيقيا في ذاتها، مثل كائنِ نفسِه. إنما امتيازها الوحيد الموجود فيها، هو من كائنِ نفسه الحاضر؛ والذي يقيم فيها لتمجيدِ ذاته. هذه "اللغة" حين تُقْرَنُ بالشعرية "لا تكون" لها صلة قرابة "اجتماعية"، إنما هي "تصير" "ذاتاً كلية".
يُدارُ الاهتمام، الآن، لقراءة "اللغة الشعرية"، بعد أن سلّمنا بلا إمكانيةِ كشف مكانِ مجيء وماهية الشعر. فإذا كانَ "الشعرُ" روحَ "الذات الكلية"؛ فـ"اللغةُ الشعرية"ُ -ما أمكن- هي مادّته. هذه "المادّة"، يمكن أن نشبّهها بـ جسدٍ من خليطٍ من معادن مصهورة؛ في يدِ تاجرٍ. وقد أطْرَبَ التاجرُ المتلقي وشدَّه مِنْ سمعِه وبصره وفُضُولِهِ؛ ليقنعَهُ بأنَّ: هذا الجسدَ من ذهبٍ، فيما الحقيقةُ أنّ الذهبَ يُشاركَ نخبةً من المعادن، في الانصهار، أو الطِلاء. الجسدُ هو القصيدة، وشاعرُ الأيام يمكن مقاربته بالتاجرِ الذي أضفى على الجسدِ الذهبَ واحتفلَ، لرَفع القيمة. الجسدُ، الذي من نخبةِ المعادن، يلمعُ- إذاً- يُغري الذوقَ، في "برهةِ الانطباع"؛ أما في "بطء زمن التلقي"، بالممارسة والاستعمال، فيكشف الجسدُ عن حقيقة ذاته.
النصوصُ التي تُكتب لتنتمي إلى الشعر، باسم "القصيدة" على وجه العموم، وباسم "قصيدة النثر" على وجه الخصوص، تلمعُ -إذاً- تثيرُ عِنايتَنا. وlt;ليس كلّ ما يلمع ذهبgt;. المرآةُ في عينِ الشمسِ تلمع. المرآةُ ذَهَبُ المعنى، ووظيفتها السّارّةُ أنْ "تكون" تَكْشِف. المرآةُ فضّةٌ أو فضيحة. المرآةُ ليستْ هي "بُرهة الانطباع"، التي تؤلّفُ بين الشكّ واليقين. إنها، بالأحرى، مرآةُ البُطْءِ؛ "بطءِ زمنِ التلقي". الزمن الذي يَفصلُ الشكَّ لبناء "الموقف" دون تأثير اليقين، ويَفصِلُ اليقينَ لبناء "الموقف" دون تأثير الشكّ. إنّها مرآةُ الزّمنِ بطيءِ المُرور والتقادم. هي مِرآةُ العَراقةِ والمستقبل التي تكشف. مُهمتنا أن نطرْدَ، قدر الاستطاعة، الأحداثَ والايدولوجيا والتعبئة الآن من داخل الجمال، بما هو "الذات الكليّة".
دعونا نتحدّث حول بناءات اللغة الشعرية، سيان، أكانت اسمية أو فعلية؛ لكن جدير بالذكر، بمناسبة حدثِ التحدّثِ والتحديثِ في بناءات اللغة الشعرية؛ أن نذكر رأياً عشوائياً لـ د. كمال أبو ديب، حول "قصيدة النثر"[ سُجّلِ الرأيُ في حوار لمجلّة: "عشتار" الفلسطينية، عدد10/ربيع1997،ص14] وقد رأي أبو ديب أنّ: "الفاعلية تكاد تختفي من قصيدة النثر الآن، الفاعلية بمعنى الفعل الحدث، والفعل اللغويّ، الأفعال أقل بكثير من الأسماء في قصيدة النثر"
إنّ صيرورة تشكّلِ "اللغة الشعرية"، لهي حدثٌ في حدّ ذاتها، إضافةً إلى أنّ التجدّدَ، عينَهُ، كفيلٌ، دائماً، بأن "يصير" يَدحضَ هذا الرأيَ العشوائي، الذي يُصيبُ جانباً من مظهر البناء. في كلّ الأشكال، لا يمكن التحقّقُ من رصدِ اختفاء الفاعلية؛ ذلك الملمح الذي يُعظّمُ أبو ديب ظهورَه بتيقُّنِيّةِ وتَشَكُّكيّة الشروع (تكاد)! من الممكن أنه قد رأى الشروعَ في نصوصٍ، لكن أمام الأشكال والتجريب في "قصيدة النثر"، ليس له، مطلقاً أن يطلقَ الرأي السابق على سبيل تعميم الظاهرة، حتى وإنْ كانَ الرأيُ يُعالجُ مشهداً في راهنٍ معيّن.
أنْ "يكون" الجسدُ هو القصيدة، هذا يعني أنّ الجسدَ حاملٌ ومحايث وظاهراتي، إذ نحن نقرأ: اللغة، الكتلة والشكل. القصيدة هي الجسد. تعالوا نقرأَ جملاً ثلاثة، ندّعي بأنها مرايا للبرهنة؛ حيث المرآةُ ليستْ هي "بُرهةُ الانطباع"، التي تُؤلّفُ بين الشكّ واليقين. إنما، بالأحرى، مِرآة العَراقةِ والمستقبل، مِرآة البطءِ؛ "بطءِ زمنِ التلقي"؛ الزمن الذي يَفصِلُ الشكَّ لبناء "الموقف" دون تأثير اليقين، ويَفصلُ اليقينَ لبناء "الموقف" دون تأثير الشكّ:
1. تَتَفَقّدُ نهديها:
هي، مشرروطة بالحسي والذهني الحركي معاً، فبالنظر في الفعل "تتفقّد"؛ نجد أنّ هذه الإشارة الفاعلية العضوانية تنطوي على عزيمة وحرص الإدراك العقلي على تفقّد النهدين، في حين أنّ النهدين يشكّلان مع الفعل ثنائية جماليّة عَقْلِحسيّة. وبذلك، تكونُ الجملة الأولى. في درجة لغةٍ شعرية صُغرى.
2. تَتَحَسَّسُ نَهديها:
هِيَ من الحسيّة الحركية. وغير مشروطة؛ ذلك لأن الشرط ذهنيّ تامّ، وهو كذلك نقيض اللاشعور؛ الذي يمكّننا من أن نعتبر: "تتحسس نهديها" لغة جسدٍ شعرية أنبتتها فاعلية عضوانية لاشعورية. فهي، إذاً، جماليةٌ جسديّة حسيّة. حيث اللغة الشعرية في درجة قصوى.
3. تُدَلّكُ نهديها:
هي بمثابة فاعلية عضوانية حركيّة تعظّمُ الانفعالية المشروطة بالرغبة، حيث اللغة الشعرية، هي، هنا، في ذروةٍ حسيّة شهوانية.