مقارنة بين روايتي بركات وإيكو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"عبورُ البشروش" عبْرَ فضاءاتِ "إسم الوَردة" (1 / 3)
قراءة ومقاربة:
النص الروائي، المعاصر، بما أنه نوعٌ "طاريء" على الأدب، يُفارق سلفه القديم، الكلاسيكي، عند نقطة مفصلية؛ وهي إنفتاحه على القراءات المتعددة. هذه القابلية، وبوصفها كذلك، كان لا بد لها أن تنسحب أيضاً على تلك الآثار الكلاسيكية، الخالدة، الدائمة الجدّة، ومن منطلق لعبة الزمن تحديداً: فكل ما نخطه، الآن هنا، في عصر ما بعد الحداثة هذا، سيصطف في القرون التالية، هناك؛ على أرفف المكتبات وبين المجلدات الأثرية، المغبرّة الحائلة اللون. أما كاتب النص، الروائي، فلن يكون له وجودٌ في ذلك الوقت؛ ليس بمعنى حياته المنتهية حكماً آنئذٍ، أو بمجاز خلود نصّه: لا هذا ولا ذاك، فالكاتب منذ لحظة فراغه من التدوين ودفعه النصّ للنشر، يكون قد إغترب تماماً عما كتبه. شخصٌ آخر، إذاً، وفي أي ظرف وبيئة، هو المقدّر له أن ينفخ الروح في النصّ ويمنحه إكسير خلوده: " فالنص يتألف من كتابات متعددة، تنحدر من ثقافات عديدة، تدخل في حوار مع بعضها البعض، وتتحاكى وتتعارض؛ بيد أن هناك نقطة يجتمع عندها هذا التعدد. وليست هذه النقطة هي المؤلف، كما دأبنا على القول، وإنما هي القاريء ". (1)
إن تأكيد الناقد رولان بارت، في ما سلف، على " دأبنا على القول"، يحيلنا إلى مسألة الثوابت المترسخة، أيضاً، في ثقافتنا؛ خصوصاً لجهة القيمة التي يعطيها النقد الراهن - والمجتمع ككل - لمكانة المؤلف. فهذا الأخير، بحكم تلك الثوابت نفسها، على علاقة دائبة بنصه المنشور (ونحن نتكلم هنا، تحديداً، عن الروائي). ففي كلّ حوار مع هذا المؤلف وفي كلّ حديث بمناسبة وبغير مناسبة أيضاً، تجده خصماً للنقد أو مزدلفاً له، فيما يتعلق بأثره المنشور. لا مكان في ثقافتنا، والحالة هذه، إلا للقراءة الأولى، تقريظاً أو ذماً، سواءً بسواء؛ قراءة تعزل النصّ، غالباً، عن أيّ فضاءٍ غير فضائه، وبوهم الأصالة المفترضة. كأنما المؤلف عندنا، في مجتمع إسلاميّ لا يعرف التجديد والتعددية، هو بمعنى ما "ظل الإله على الأرض". بمعنى أن أحادية قراءة النصّ، هي كما لو أنها تجلّ لـ"وحدانيّة " الخالق. وقد عبّر عن ذلك محمد بنيس، بتأكيده على هذا التصوّر: "المتعالي للفاعل في الطبيعة والحضارة، المترسخ في وعينا ولا وعينا. نرى إليه ناسجاً إنتشاريته في عموم العالم العربي، يتجسد إجتماعياً في الأب، وسياسياً في القبيلة، وثقافياً في صدى القبيلة وإمتدادها، موشحاً بمستجد الألفاظ كالوحدة والإشتراكية، والحرية، والديمقراطية. ألفاظ تتحول في المعطى السوسيو ثقافي للعالم العربي إلى مجرد إستعارة للواحد الذي لا يتعدد ولا يتغير ولا يختلف". (2)
كل مقاربة جديدة للنص، هي في الآن ذاته "تجديد" له. ليس الأمر، كما يبدو لوهلةٍ، وكأنه تدخل في بنية النص، الأصلية، من لدن القاريء / الناقد؛ بل بما هو عليه هذا النصّ من قابلية الإنفتاح على قراءات متعددة. من جهة اخرى، فالنص لا يكون في أيّ حال من الأحوال أصلياً، ما دام "مصنوعاً" من كتابات سابقة عليه، كما سلف معنا من قول الناقد رولان بارت. لذلك إعتمد هذا الناقد إسماً طريفاً للكاتب المعاصر، وهو "الناسخ"، معلناً أنّ هذا الأخير: "حين يخلف المؤلف، لا يجد في نفسه إنفعالات، ولا بشائر، ولا مشاعر، ولا إنطباعات. ولكنه يجد هذا القاموس الهائل، فينهل منه كتابة لا تعرف أي توقف: فالحياة لا تقوم أبداً إلا بتقليد الكتاب، وهذا الكتاب نفسه ليس سوى نسيج من العلامات. وهذه إنما هي محاكاة ضائعة، وتراجع من غير حدود" (3). بناءً على ما سبق، تصبح أيّ مقاربة لنصّ ما مع نصوص اخرى، سابقة عليه، كما لو أنها متوالية متاهية لا تنتهي: لأنّ سلفه أيضاً، وبصفة بنيته كنص، محكوم بنفس المقاربة. لا غرو إذاً، أن يقول رولان بارت في أحد إستعاراته الظريفة، أنّ الكاتب الأصيل، الأوحد، في تاريخ الأدب، ليس إلا أبونا آدم (!)
ربما أنّ ما سلف من تأكيدنا، عن علاقة نص ما بما سبقه من نصوص، قد يوحي للقاريء بفكرة إنتفاء الأصيل أدبياً بمعناها الفوضوي؛ أيْ تساوي الموهبة بالإدعاء قدّام النقد. إلا أنّ ذلك غير وارد البتة في قراءة الناقد للأعمال الأدبية، اللهم إلا أن يكون دعياً، بدوره. إننا إذ ننفض يدنا من أولئك الكتبَة المنتحلين، وبصفتهم كمنوّعين على أعمال غيرهم؛ فبالمقابل لا يمكن لنا إلا أن نحتفي بكل أديبٍ مثابر ذي موهبة خلاقة، مهما يكن رأينا بنصه. ومن هذا الباب، تحديداً، شئنا ولوجَ فضاء كاتبٍ ينتمي للشرق ؛ هو السوري سليم بركات، ومن خلال روايته " الفلكيون في ثلثاء الموت: عبورُ البشروش " (4). هذه الرواية المتداخلة بفضاءٍ غربيّ؛ متمثل برواية " إسم الوردة " للإيطالي امبرتو إيكو (5). وعدا عن رؤى وإشارات عديدة، في كلا الروايتيْن المعنيتيْن، تؤدي بتصورنا إلى مدلولات مشتركة؛ فإنّ إختيارنا لهما وفق تيمة المقارنة، متأتٍ خصوصاً لجهة تداخل فضاءيْ الشرق والغرب في أعمال مؤلفيْهما بشكل عام. وربما من المهم الإشارة، منذ البداية، إلا أنّ بركات بإشتغاله أساساً على النص الشعري، ما كان له إلا أنْ يكثف بلاغته، المميّزة، في نصه الروائي ؛ مما أوحى للقاريء / الناقد، بإشكالات ومغامض ومعميات، في كثير من الأحيان. الإيحاء نفسه، وإن كان لأسباب اخرى، يشكله إيكو بدوره، كروائيّ، خاصة عندما نعرف أنّه كان يشتغل، وما زال، في حقل أدبيّ، نظري بحت؛ هو السيميولوجيا (علم الرموز والعلامات).
روايتان ورؤيتان:
حينما نشر إيكو روايته الأولى هذه، بمستهل ثمانينات القرن المنصرم، ما كان يدور في خاطره حينئذٍ، على الأرجح، أنّ "إسمه" كروائي سيتواشج مع "إسم الوردة". وعلاوة ع
لعل شكل رواية " إسم الوردة "، المهيمنة عليه حبكة الجريمة الغامضة، والتحقيق المتقصي آثار الجاني وصولاً إلى كشفه؛ هذا الشكل، أوحى لكثيرين من النقاد أن كل الجدّة في عمل إيكو هذا، مقننٌ في كتابته "رواية بوليسية " بإسلوب مبتكر. لا ريب أنّ شيئاً من الصحة يتكلف هذا القول، ولم ينكره الروائي في حواراته الصحفية. آخرون من النقاد، إستأنسوا بما في رواية "إسم الوردة" من عودة إلى حقبة دقيقة، حاسمة، من التاريخ الأوروبي، المتصف بنزاعات الملوك مع بابا روما والإنشقاقات الكنسية ومؤامرات النبلاء ودسائس البلاط..؛ عودة، رأى فيها أولئك النقاد ما تتخلق به "الرواية التاريخية" من شروط مستوفية. فضلاً عن أنّ جدارية الأفكار، العريضة، التي عنوانها "إسم الوردة"، والمبنية من مداميك متعددة المشارب والأهواء؛ كالأسفار الإنجيلية - رؤيا القديس يوحنا، بشكل مركزي - والسفسطات الفكرية والمجادلات اللاهوتية..؛ كل ذلك، برأي آخرين، أسبغ على عمل إيكو سمة "الرواية الفلسفية". لن نغيّب هنا ما رآه البعض، في ذلك العمل، من شكل "الرواية الشعبية"؛ بكل ما فيها من مشاهد سوقية مبتذلة ومحاكاة ساخرة وأحاجي ومبالغات فنية. وأخيراً، لا بدّ من نقل رؤية غالبة على النقاد، بخصوص "إسم الوردة"، وهي المحيلة إياها لإسلوب الرواية "الواقعية الجديدة"، التي كان ألبيرتو مورافيا أحد روادها في إيطالية. إذ إحتفل محبو هذه المدرسة بعمل إيكو، بوصفه مزجاً بين المتخيّل والواقعي، كما بين التاريخاني والراهن المعاش، سواءً بسواء.
الحق أنّ جميع تلك الأشكال الأدبية، المختلفة، شكلت الرؤية الفنية لرواية "إسم الوردة"؛ الأشكال التي أذابها المؤلف في بوتقة عمله الكبير هذا. لا غرو، والحالة كما أشرنا، أن يحظى كل رأي من تلك الآراء، سالفة الذكر، بما يدعم وجهة نظره بخصوص الرواية. هذا ما يؤكده امبرتو إيكو في كتابه النظري "العمل المفتوح"، عانياً به النص المنفتح بوصفه جامعاً لعدة معاني: "إن كل عصر من العصور يعتقد فعلاً، أنه يمتلك المعنى الشرعي للكتاب، ولكن يكفي أن نوسع التاريخ قليلاً لكي يتحول هذا المعنى المفرد إلى المعنى المتعدد، ولكي ينتقل الكتاب من إنغلاقه إلى إنفتاحه" (6). وإذاً، فبدءاً بعنوان "إسم الوردة"، المستوحى من نص لاتيني يعود للقرون الوسطى، نلجُ إلى الأجواء التاريخية للقصة؛ هذه القصة، التي باشرها المؤلف بـ " حيلة " فنية، أضحت شائعة في الأعمال الروائية : إرجاع النص الأصلي، المزعوم، إلى مخطوطٍ قديم. ومن خلال هذا الزعم، يضعنا المؤلف مباشرة في مكان وزمان الرواية؛ وهي هنا، دير لطائفة الفرنسيسكان، يدعى " مالك "، وفي منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. ولم يسلُ إيكو، في ذلك المستهل، إخبارنا على لسان الراوي (الراهب ادسو)، بأنّ المخطوط الذي كتبه كـ " شاهد شفاف " على حوادث ذلك الدير ؛ هذا المخطوط منذورٌ لـ: " قصة كتب، لا قصة مشاغل يومية " (إسم الوردة: الصفحة 26). الإشارة الأخيرة عن " قصة كتب "، هي اللمعة الأولى من شيفرة الرواية؛ اللمعة التي ستفصح عن معناها خطوة فخطوة مع تعقبنا لمغامرة الفتى ادسو ومعلمه المخضرم، غوليامو، في ذلك الدير الغامض. ولكن قبل الخوض في تلك المغامرة، دعونا ننتقل إلى أجواء الكاتب سليم بركات، وروايته الموازية في خط مقاربتنا لـ " إسم الوردة ".
"عبور البشروش"، هي الرواية الخامسة للكاتب، كما أنها الجزء الأول من ثلاثية بعنوان "الفلكيون في ثلثاء الموت"؛ وقد نشرها في منتصف التسعينات المنصرمة. في حوار
هذا الإشكال، في واقع الحال، هو قدر رواية التجريب عربياً؛ بصفة خلخلتها للبنى الأدبية التقليدية، المترسخة السيادة ؛ بتماهي الواقع في السرد مع الفانتاسيا، لدرجة إستحالة الفصل بينهما غالباً. وبهذا المعنى، يأتي قول شعيب حليفي في إطروحته النقدية، التي تناولت نماذج من الرواية العربية الجديدة، ومنها " فقهاء الظلام " لسليم بركات: " أما ظهور الرواية الفانتاستيكية العربية، فإن الأمر يصعب تأطيره ما لم تتحوط بالخلفيات المتعددة التي كانت وراء تشكيل هذا المحكي، فليس بالضرورة أن تجيء ظروفه متشابهة لظروف ولادته في الغرب. من هذا المنطلق فإن الفانتاستيك في الرواية العربية، يطرح إشكالاً شائكاً لا يناقش إلا في إطار المتخيل العربي " (10). إذ كانت " المعرفة مرجحة على العلم "، برأيْ الصوفية، فإنّ لسان حال التجريبية تفصحُ عن هوىً مماثل؛ أيْ إستخلاف الفانتاسي للواقعي، وإحلال الماورائي بمكان الطبيعي. سنجدُ هنا أنّ بركات - وبمحض الإتفاق، ربما - يتقمص معرفة الصوفية تلك، كخيار أدبي، بقوله في ذلك الحوار سالف الذكر: " إنتمائي، بحسب معرفتي القاصرة المحدودة، إنتماء إلى " الواقعية المعرفية "، ذات الخصائص المشمولة بعلوم المجهول والخفاء، والمعلوم والظاهر، فأنا أستعير لغة المعلوم والظاهر لإستقصاء الغامض كي أكمِلَ به وجوداً " (11). عودة إلى التجريبية الروائية، لنرى أنها تختبر اللغة، ليس على مستوى تجديدها حسب، بل وخاصة لجهة تحرير مفرداتها من المعنى الواحد، القاموسيّ، إلى المعنى المتعدد، الأدبيّ؛ أو ما يسميه رولان بارت " غموضاً متعدداً " (12). توكيد النقد الجديد، على أن العمل الأدبي في بنيته يحتوي على معنى متعدد، غامض؛ هذا التوكيد، يُضارعه إشتغال كاتبنا، بركات، على نصه الروائي وبسياق ٍ فانتاسيّ مشحون بلغةٍ شديدة التكثيف، إنْ في بلاغتها أو في شعرية صورها. على أنّ مسألة الإشكال في نصه، ليس في مثل هذه المُساهلة؛ إشكال غير ممكن تمحيصه، بحسبتنا، إلا عبر " مَطهَر " الرموز والمدلولات الكامنة وراء المعاني.
إذا كان عنوان رواية " إسم الوردة "، قد إقتبسه إيكو من نص لاتينيّ قديم مثبتاً إياه في هامش المتن؛ فها هو عنوان ثلاثية " الفلكيون في ثلثاء الموت "، يبدو وكأنه، على الأقل ظاهرياً، لاعلاقة له بأي إقتباس. إنه وبعرف بركات ذو دلالة مقتصدة على لفظة " الموت " (إنظر ما سبق من حوار مع الكاتب). ولكن ما المغزى في إختيار هذا اليوم بالذات - الثلاثاء - من أيام الإسبوع الاخرى، كمستقرّ أبديّ لفلكيي / أشخاص الرواية؟.. لن نعثر في متن الرواية أو هوامشها على إحالة لنص أو مصدر ما. فـشيمة بركات الكاتب، كما نعاينها في أعماله جميعاً، لا تحبذ مثل هكذا هوامش. بيد أن مراجعة جائزة للتراث، يوفر علينا مشقة الغوص في مدلول ذلك اليوم المنحوس: ففي عُرف العرب الأقدمين، وبحكم إنابتهم لمسار الكواكب بكل ما يتعلق بأحاجي حيواتهم وحظوظها؛ هذا العرف، أعطى لكل يوم من أيام الأسبوع مدلولاً معيناً؛ فكان يوم الثلاثاء، كناية ً للموت والشؤم. جدير بالتنويه هنا، أن كناية كهذه نقرأها في " إسم الوردة "؛ عندما يلاحظ غوليامو - بصفته ضالعاً في التحقيق بسلسلة الجرائم الغامضة، المتواترة في الدير - أنّ القاتل يتعمّد إرتكاب جرائمه بحسب أيام الأسبوع: فالأحد هو اليوم الأول، المستهل بالقتل (من حقيقته كأحديّ واحد: الرقم 1)، ثم يليه يوم الإثنين، (الرقم 2)..، وهكذا، حتى تكتمل أيام الأسبوع (إسم الوردة: الصفحة 125). لكأنما " ثلثاء الموت " في رواية بركات، هو إسترجاع ما، لـ " أسبوع الموت " في رواية إيكو: ولا ننسى أنه في رواية " عبور البشروش "، أيضاً، شاء السردُ أن يبنى على حبكة الجريمة، ولو أنها شديدة التماهي في السياق؛ حتى أن القاريء ينتهي من قراءة النص حائراً، بالكاد يُدرك من القاتل ومن المقتول. أياً كان الأمر، فهذا ما لدينا من مقاربة لعنوان الثلاثية، العريض. أما بالنسبة لروايتنا - وهي الجزء الأول من تلك الثلاثية - فعنوانها " عبور البشروش "، مستوحى من عِبْرَة النص. فالبشروش، بحسب كلمات المتن، هو طائر من فصيلة اللقالق والكراكي: " له ميّزة الصبر على الجوع، يعبرُ ثلاثة جبال ويأكل وجبة " (عبور البشروش: الصفحة 117). هذا الطائر، كان على مدى زمن الرواية حبيسَ قبو سريّ، يهتدي إليه الراوي، كما لو أنه على موعد مع قدره: ثمة سيلتقي ذلك الكائن المُعرّف بـ " الغريب "، فيطلق عليه النار من بندقية صيد. هناك أيضاً، سيكون البشروشُ أحد عناصر خاتمة الرواية، لا بصفته كـ " بطل " لعنوانها، بل لأنه أحد رموز النص. فما أن يغلق الراوي دفتيْ الكتاب، حتى يتحرر الطائر ويرتفع: " إلى القبة الأبعد خلف حجاب المكان، حيث الظاهر، وحده، يعتقُ الأبدية من كمالها " (ص 248). تلك العمارة، الموسومة بـ " القبة "، تذكرنا مع شقيقتها " المتحف "، بالأبنية الملحقة بالدير، في رواية " إسم الوردة "؛ كالكنيسة وقاعة الكتب..، وغيرهما من الأماكن التي كان أشخاص الرواية يتنقلون عبر حجراتها ومسالكها وممراتها ويواجهون مصائرهم الغامضة فيها. علاوة على أنّ إنتهاء رواية بركات بإغلاق الراوي لـ " دفتيْ الكتاب "، يوحي بحيلة فنية، إجتسناها في حديثنا عن إستهلال رواية إيكو بحكاية الإهتداء إلى مخطوط قديم. إذ يعثر الراوي في " عبور البشروش "، أيضاً، على مخطوط قديم، يُدعى " التأسيس الكبير "؛ حيث نعلم من خلال السياق أنّ أصله مستل من مخطوط آخر، نقل مصحفاً، كان قد أتلف من قبل العامّة، لسبب ما (ص 77). هذا الأمر، يُعيدنا إلى مخطوط آخر في رواية إيكو، هو " الضحك " لأرسطو؛ سيلقى أصله نفس مصير أصل مخطوط " التأسيس الكبير ". هنا وهناك، كان كلّ من المخطوطيْن مدوناً بلغات أربع: يونانية، سريانية، عربية ولاتينية. هذه الأخيرة، إستبدلها بركات باللغة الفارسية، ربما لمماهاة مُفترضة لدينا، أو لسبب اخر؟
هوامش ومصادر:
1 - رولان بارت، درس السيميولوجيا - الطبعة العربية في الدار البيضاء 1986، ص 87
2 - محمد بنيس، حداثة السؤال - بيروت 1985، ص 58
3 - رولان بارت، نقد وحقيقة - الطبعة العربية في حلب 1994، ص 22
4 - سليم بركات، الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش - بيروت 1994
5 - امبرتو إيكو، إسم الوردة - الطبعة العربية في تونس 1992
6- نقد وحقيقة، مصدر مذكور، ص 82
7- ناصر مؤنس وصلاح عبد اللطيف، حوار مع سليم بركات - مجلة " تافوكت " العدد الأول 1998: إستقيناه من مجلة " حجلنامة " العدد الأول 1999، ص 39
8- المصدر نفسه، ص 34
9- جمانة حداد، حوار مع امبرتو إيكو - ملحق " النهار " الثقافي، ليوم 18 كانون الثاني 2004
10- شعيب حليفي، شعرية الرواية الفانتاستيكية - مجلة " الكرمل " العدد 40 / 41 لعام 1991، ص 107
11- حوار مع سليم بركات، مصدر مذكور، ص 40
12- نقد وحقيقة، مصدر مذكور، ص 87
يتبع