وفاة القاص العراقي جليل القيسي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
جليل القيسي في ذمّة الأثر
علاينة عارف: علمت "إيلاف" عن طريق ابنته أمينةبوفاة القاص العراقي جليل القيسي مساء اليوم (الخميس)في كركوك (العراق)اثر وعكة صحية سببها مرض عضال إذ سبق أن أجرى قبل اسبوعين عملية جراحية في احدى مستشفيات انقرة. ولد عام 1937 في كركوك، لم يستنفدجليل القيسي انتماءه لجيل الستيناتبدونكيشوتيات وإنما بأعمالجعلتهواحدا من اهم قصاصي جيل الستينات، فمجموعته الأولى (1967)التي طبعتها دار مجلة حوار التي كان يشرف عليها الشاعر الفلسطيني توفيق الصايغ "صهيل
على أمل أن نعود بملف مفصل عنه، نعيد الآننشر نص الحوار الذي أجراه معه الصديق نوزاد أحمد أسود لإيلاف بتاريخ 27 سبتمبر 2004:
حوار مع القاص جليل القيسي
حاوره نوزاد احمد اسود: اضاف جليل القيسي الى لغة القصة نكهة جديدة و الى اجوائها نسيماً عطراً والى ثيماتها غرائبية مثيرة، ممزوجة كل هذه باساطير الشرق حاملاً معه النار الازلية المتوهجة التي تنير له دروب الحياة و الكتابة معاً. ترتبط نصوص القيسي بالسيرة الذاتية والنزعة الانسانية والمخيلة اللامتناهية والفنطازيا الجميلة والشهوات الناعمة مما تؤثر في ذائقة المتلقي تأثيراً بالغاً يجعل من قصصه فضاءاً دائماً للتأمل.
جليل القيسي (1937- كركوك) غني عن التعريف، فهو قاص مبدع ومعروف على مستوى الادب العربي كله، و هو كاتب مسرحي كبير له مكانته المرموقة في ساحة المسرح العراقي والعربي، وكان احد اعضاء "جماعة كركوك" الادبية التي تأسست في ستينيات القرن العشرين في كركوك حيث كان لها دور بارز في تجسيد وتفعيل الحركة الثقافية فيها، وتضم الجماعة ادباء من الكرد والتركمان والعرب والكلدواشوريين.
صدر له لحد الان ثمانية كتب من قصص ونصوص مسرحية لعل ابرزها "صهيل المارة حول العالم" و"جيفارا عاد افتحوا الابواب" و"زليخا، البعد يقترب" و"في زورق واحد" واخيرا "مملكة الانعكاسات الضوئية"، كما له مجموعة قصص اخرى معدة للطبع ومحفوظة عند معد هذا اللقاء حيث يبلغ عددها ثلاثين قصة بانتظار طبعها من قبل أي دار للنشر او في أي مؤسسة ثقافية.
منذ اكثر من عقد وانا اتابع قصص جليل القيسي واقرؤها بشغف واتذوقها بحماسة ادبية لا لكونها تعكس اجواء كركوك القديمة والحديثة وتأثيراتها السحرية باسلوبها الاسطوري الفذ فحسب، و لا لكونه ابن مدينتي حيث ينتمي الى جميع قومياتها واطيافها، بل لأن بامكانه ايضاً خلق الاجواء السحرية التي تضرب الاحاسيس والخيال في الصميم. من كثرة تعلقي به و امتزاجي بقصصه بدأت بترجمة بعض منها الى اللغة الكردية وتم طبعها في كتاب بدار سردم للطباعة و النشر عام 2002 تحت عنوان "مملكة الاضواء".
حينما اقترحت عليه ان اجري حواراً معه لمجلة سردم العربي، وافق على الفور لكنه اقترح علي ان اوجه له اسئلة عديدة مقسمة على عدة محاور، اجرينا الحوار و نتج عنه ما تقرأه هنا. لكن لسوء الحظ كانت اجواء كركوك حارة جداً و كنا في صيف قائظ بكركوك (24 اغسطس/ اب) دون ماء و كهرباء و كذلك كان جليل القيسي يعاني من الام في الساق و امراض اخرى، بصعوبة حاول الاجابة عن اسئلتي، لذلك جاءت اجاباته قصيرة مقتضبة رغم انه من عادته ان يجيب عن الاسئلة باختصار شديد و يكثف ما يريد قوله بعبارات ادبية و شعرية قصيرة يستقيها احياناً من اقوال مثيرة للكتاب والشعراء والفلاسفة والعباقرة الكبار.
البدايات
* انك من مدينة كركوك و عشت فيها زمناَ طويلاً -ومازلت-، و قضيت قسطاً من حياتك الادبية مع "جماعة كركوك" التي كنت من اعضائها. ما هي ذكرياتك مع هذه الجماعة؟ معظم اعضاء الجماعة كتبوا ذكرياتهم و سردوا جوانباً منها و كشفوا جوانب عديدة من علاقاتكم الشخصية و الادبية الاك -كما اظن- لم تكتب شيئاً..
- اجل ، انا ابن كركوك. ولدت و كبرت، و عملت، وبصبر رواقي سقراطي كتبت في هذه المدينة الناعسة الناعمة. لا يستطيع ان يفهم هذه المدينة الرائعة الا الكركوكي الحقيقي، لأن المدينة مثل آلة كمان الغريب عنها يمتلك العزف على وتر واحد فيها حسب، بينما الابن الحقيقي لها يعزف تلقائية على اوتارها كلها و يخرج لحناً هارمونياً جميلاًhellip;
جماعة كركوك.. هذه الجماعة التي ستبقى تاريخاً في دنيا ادب هذه المدينة لردح طويل من الزمن.. لم لا؟ وقد اعطوها الكثير .. ان الزمن يا عزيزي نوزاد هو الذي يوجد الانسان، لكن الانسان هو الذي يعطي الزمن قيمة.. و قد اعطينا هذه المدينة التي شاء القدر ان نرى النور فيها و ندفن في ترابها سرتنا القيمة.
سنة 1959 التقيت بأخي و حبيبي فاضل العزاوي.. اه، يالنور ذاكرتي الذي بدأ يضعف هذه الايام بحكم الزمن وعلى نحو دراماتيكي.. كان فاضل مليئاً بحماسة حارة، وثمة قوى وضاءة في روحه و مخيلته، و لديه احلام كثيرة، و اصرار على العيش على خبز و ماء الارادة.. انه مثل امير شعراء الكرد شيركو بيكةس عندما يقرأ الشعر تشعر كما لو انه ميرابو حقيقي يلقي خطابا نارياً.. و بعيدا عن الشعر، كان يجلس بوقار كهنوتي، و يستمع الى الاخرين، و هو للمناسبة مستمع جيد، و تؤثر فيه الكلمات المضيئة بقوة.. كان كشاعر يبحث عن سماء من اروع الكلمات.. انه احد الموهوبين النادرين من جماعة كركوك.
ثم التقيت بمؤيد الراوي، و هو طراز غريب من العناد، و الاصرار، و اللامبالاة، والعبث، يريد ان يستحوذ على كل شيئ. كان وكأنه حصل على جواز الاقامة في الوجود بتضحية سيزيفية.. في داخله منبع رهيب و خطر من الاضطرابات. رأيته اكثر من مرة لمجرد العناد يطفئ سيجارته في باطن يده بصمت فانكوخي.. كان من الصعب عليه ان يتلاءم مع الاخرين و لا حتى مع الحياة.. لم يفكر ولو لحظة واحدة بالشهرة، ورغم موهبته الجيدة التي حرقها عبثا كان لا يعير كبير اهتمام للعمل الابداعي.. كان يؤمن بالفن لكن ايمانه كان خالياً من الامل. كان محاورا جيدا، و صعباً، وفي الازمات واحتدام النقاش يعرف كيف يمضمض فمه بعدة كلمات بركانية وساحرة ويجعل الاخرين ان يستمعوا له بهدوء.. كان ستاليني الصلابة. اذكر عندما اعادوه الى الغرفة التي كنا فيها سوية في السجن و كان ظهره مدمياً من ضرب الكيبلات و كان وهذه شهادة للحقيقة، كان يغني.. كان كل العذابات تبدو له تافهة.. تنطبق على مؤيد هذه الكلمات للشاعر البرتغالي ريكاردو ريينس (مازلت على قيد الحياة/ غير مكترث بأحد. انا من يجبر الجميع على الصمت/انا الذي يتكلم).
قال لي ذات يوم: جليل اريد ان اعرفك على شاب اشوري وسيم طيب و موهوب يكتب الشعر يدعى سركون بولص.. تعال مساءً لزيارتي. في المساء قدمني الى شاب وسيم كثير الشبه بالممثل الامريكي الراحل غريغوري بك. كان رغم لكنته الاشورية يتكلم العربية بطلاقة و يستعمل مفردات غريبة على سمعي.. كان مليئا بالحب و مستعدا ان يموت لكي يبقى بثبات الى جانب عشاق الحياة. كانت عصارات شبيهة بنوبة حمى تجري بصخب في عروقه.. كان شديد الثقة بنفسه و بالحياة. كانت يداه تتكلمان بنفس وضوح لسانه، يعبر بهما عن قدرة ايحائية تبلغ حد الهذيان.. اما حماسته للشعر تصل حد الهوس الصوفي، عندما يتكلم عن الشعراء ييتس، باوند، اليوت، اودن، بودلير، د.هـ. لورنس، يتكلم بكلمات نارية تضرب القلب بضرب نادر من الاغواء.. كان هو الاخر يلتذ بالألم و يقول عنه انه مبارك سيما تلك الالام التي تمنح الهزات.. و امام الافكار التافهة، و النقاشات الامبيقية كانت تظهر غضبه متوثبة في حاجبيه و يغادر المكان.. كان سركون يمتلك روحاً متنامية، فياضة بالحماس، و القوة، و الارادة..
اما جان دمو، الذي كتبت مقالة عنه في جريدة (بهرا) بعد وفاته، كان اخر من استطاع الشفاء من كآبته. كان لاشك موهوباً، لكن لاأبالياً، عبثياً، لاادرياً، سكيراً اشراً، بوهيمياً لم يستطع الاستفادة من نعمة موهبته، و لا من غنى سهول روحه اللا متناهية، ولان خياله الذي فعلاً كان احيانا بلا ضفاف.. عشت معه اكثر من عقدين، عبثا حاولت ان اضعه في الطريق الصحيح لموهبته. رحل، و ترك بعد اكثر من ثلاثة عقود في دنيا الادب اسماله، كما لو تكهن انها فعلا اسمالاً حقيقية.
و دخل انور الغساني الشلة. شاب هادئ، رصين، عملي و برغماتي حقيقي في دنيا العمل. لم ار من هو اكثر صبراً في التعامل مع القضايا الفكرية. كتب عدة قصص جميلة، و كان بالامكان ان يصبح قاصاً رائعاً لولا مغادرته الوطن. كان مقلاً و من المؤمنين بان النفتالين الوحيد الذي بوسعه ان يحفظ كتابات الكاتب من عث الزمن، هو، قوة الموهبة.. و كان دائماً يقول الحقيقة بأسلوب مثالي. لم اسمعه يتحذلق و لم يعرض للمهاترات.. كان مولعاً برواية الحقيقة..
و تعرفت على الراحل و الطيب الذكر جدا يوسف الحيدري في نفس الفترة. زارني في دكان شقيقي الصائع الذي حكم عليه عام 1963 بخمس عشرة سنة لاسباب سياسية و اضطررت ان ادير امور المحل بنفسي، جاء يحمل بيده رواية لنجيب محفوظ.. قدم نفسه لي. اخذت يده بحرارة. و يوسف من النوع الذي يرفع الكلفة بعد عشر دقائق.. تكلم بهدوء و تناغم شهي عن قراءاته، و كتاباته.. استمر يزورني في الدكان. كان يوسف يمتلك روحاً مرحة، يتكلم بطلاقة و يطلق فرحاً فاضحة، و دعابات غزل معربدة.. يوسف انسان سلس العياده: مرحاً، عاطفياً جدا، و شهوياً. كانت عاطفيته الحارة تطغى على كتاباته و تفسدها احياناً.. لقد رددت عليه مرات عديدة نصيحة الروائي الفرنسي اندريه جيد (بالعاطفة الجيدة نصنع ادباً رديئاً) كان عناده الجاف احياناً، واصراره على رعي قطيع افكاره غير الدقيقة واحدة من سلبياته.. و رغم طيبته الشديدة، و روحه المرحة، و رصانته كان احياناً عنيفاً متطرفاً. كان يوسف واحداً من اطيب جماعتنا غادرنا مبكراً و قد كتبت عنه رثاء حار في جريدة الثورة. لقد تحمل الم الحياة الجميل بفروسية.. كان جان و كذلك مؤيد متحررين بطريقة غريبة و لا ابالية من عبودية الابتذال العائلي. كانا متحررين تحررا مطلقاً من الانشغال بشؤون الحياة اليومية و المادية، بينما كان يوسف اباً رائعاً و عاشقاً لأسرته. و اخيراً جاء صلاح فائق بعد فترة قصيرة قبل ان نفترق ايدي سبأ - كنا جميعاً باستثناء صلاح. و يوسف نجيد اللغة الانكليزية، و نقرأ الروايات و نتابع الادب الحديث الذي اثر كثيراً في كتاباتنا، و بدأنا نكتب الشعر، و القصة، و المسرح بطريقة جديدة لفت انتباه الوسط الادبي في بغداد، و راحوا يقولون عنا (هؤلاء يكتبون مثل الانكليز.. كتاباتهم غريبة، معقدة، و جديدة..) هؤلاء هم يا عزيزي نوزاد جماعة كركوكhellip; اما بخصوص مذكراتي، اعتقد سأضع برنامجاً اذا توفرت لدي الامكانات و انهمك بكتابتها..
- تسألني عن اجواء كركوك الثقافية ايام صهيل المارة، و جيفارا، اه، كانت متوترة، مضطربة و قد سيطرت الرجعية السياسية على الاوضاع، و بدأت الاغتيالات العشوائية، و ضاعت الاحلام الوردية التي بنينا النفس عليها في ثورة 58 تموز.. اجل كانت ايام صهيل المارة شديدة البؤس و التعقيد والكابوسية، من هنا جاءت المجموعة و كأنها شريحة كافكوية.. لا غرابة كتب الشاعر اللبناني الكبير و الراحل حين قال اشهد ان كافكا عربي اخر ولد في العراق..
كركوك المدينة - كركوك القصة
* يقول ابن عربي "كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه"، نلمس في قصصك تأنيث المكان و هي هنا مدينة الارض و السماء معاً، عندها يجول القيسي كساحر او كطائر قطرس في طوباوية المدينة التي تكمن فيها ذاكرة المدن الاخرى (كما في قصة: نيدابة، و مممللو، و مملكة الانعكاسات الضوئية، و العودة الى اربخا..) و المدينة هنا كركوك القديمة و الحديثة. حيث تحظى مدينة كركوك في كثير من قصصك بكم وافر من الاهتمام و المتابعة الدقيقة و تكتب عن ادق تفاصيلها بحيث تعرف كل طور من اطوار حياتها و تتعامل معها كانها انثى حقيقية. يبدو ان هذه المدينة ترسخت في وجدانك و ذاكرتك بعمق. ما سر هذا التعلق الشديد بهذه المدينة التي تقبع فيها و تكتب عنها اكثر من ربع قرن دون مغادرتها؟ في حين تشبه مدينة اربخا في قصة (حجر المعشوق للاميرة شاشا) بمنفاك الازلي..
- لقد احببت، و مازلت، و سأبقى احب بهوس مدينة كركوك. احب كرده، تركمانه، اثورييوه، ارمنه، و صائبته.. عندما تعشق مدينتك عشقاً حقيقياً تفرق بسرعة آهه فيها عن آهه اخرى. ان زفرة حب مدينة كركوك تكون مثل النار.. كركوك مدينة سيمفونية من اللغات.. لقد كنت دائماً رومانسياً في تعاملي مع هذه المدينة، و الرومانسي يكون ازدواجياً في ذاته حيث ينقسم الواقع بالنسبة له الى عالم مادي Material و روحاني Spritual.. فحبي الروحي هو الذي اشعل عندي الحرية، و الجمال، و السعادة وحب الاخرين. صدقني كركوك قصيدة ضوئية، لديها دائماً القدرة على ان تنشر عبيراً روحياً، احتفالياً، ديونيزياً، و تحرض على التوهج. و بسبب غناها الكبير اقامت و مازالت للاخرين ولائم طوطمية.. فهل بعد هذا الحب لا تريدني ان اكتب عنها و عن ادق تفاصيلها. هذه المدينة التي عملت اربعين سنة من الكتابة لأجلها و لم تمنحني لحد الان أي شيئ بالمقابل.. اه، بطلات قصصي التي ذكرتها.. نعم يمتلكن روح نسر، ذاك النسر الذي وصفه اندريه جيد و قال عنه بأنه ضروري للحياة الروحية و الشعرية. ان هاتيك النساء الجميلات، الرقيقات، الكيسات، و العاشقات بحق شخصيات رائعة فتية.
* نجد في عدد من القصص و الروايات العربية الحديثة التي تتناول علاقة الانسان بالمدينة، نوعاً من الحرب المعلنة او الخفية على المدينة. لكننا نجد في قصصك التآلف والتطابق الحسي - وقد يكون الغريزي ايضاً- مع المدينة و التفاعل الحقيقي معها و الحنين اليها على الدوام. هل المدينة هي البديل؟
- للقلب يا عزيزي نوزاد مبررات يجهلها العقل.. انني منذ صغري احببت كركوك و بقلبي بالفطره عرفت شرائع هذه المدينة.. و لأن العقل مطواع قابل الميل الى كل اتجاه، لذلك يدفعه كل شيئ الى الخطأ.. اما قلبي مع كركوك فلم ولن يخطئ معي.. انا و كركوك (كحبتين من قشرة لوزة).. المجد لكركوك و لكل قومياته، و اطيافه.
* معظم ابطال قصصك -اقصد تلك تدور احداثها في مدينة كركوك- تنتمي الى القوميات المختلفة المتعايشة في كركوك. يقال عنك ان جليل القيسي صورة مصغرة لمدينة كركوك بكل قومياتها و اطيافها. ما مدى علاقتك بل تآلفك مع القوميات المتواجدة في مدينتك ارنجا او ارابخا؟
- اخالني اجبت على هذا السؤال.. ان حبي لمدينتي و القوميات التي فيها مثل الزواج الكاثوليكي، ابدي حتى النفس الاخير..
* ماصلة قرابتك بالقومية الكردية؟ و ما صلة قرابتك بالتركمان و العرب و الارمن؟..
- افتخر انني من اب عربي و ام كردية من عشيرة زنكنة.. كانت والدتي انزه قلب عرفته في حياتي و اصلب من عرفت في المواقف الصعبة. كانت لها ارادة صلبة لا تفتر ابدا.. اما والدي، فكان هادئاً، طيباً، وديعاً، مسالماً نزوع الى الانزواء، و حب الوحدة، و التأمل.. كنت حتى الثامنة من عمري لا اعرف سوى اللغة الكردية. و تعلمت التركمانية في الحارة التي عشت فيها و تعرفت في حياتي الدراسية على عدد كبير من التركمان الرائعين، و مازلت على صداقة حارة مع العديد من المبدعين منهم مثل قحطان الهرمزي، فخري جلال، عبد الرزاق شيخلر زاده، شكر البياتي.. انت تعرف ان زوجتي ارمنية و في حارتنا القديمة كانت ثمة العديد من الاسر الارمنية..
* ماذا ترجو لمدينة كركوك في الوقت الحاضر؟ وكيف ترى مستقبلها في ظروف كالتي نمر بها؟
- ارجو لها الامن/ السعادة/ التعاون بروح فروسية بين الجميع لأجل الجميع/ العدل الحقيقي في كل شيء/ الاتحاد..
العزلة و الهاجس الابداعي
*طوال مدة الكتابة الابداعية لدى جليل القيسي نجد الانشغال الدائم بكتابة القصص و المسرحيات دون الرواية. ما هي اشكالياتك مع كتابة الرواية التي لم تكتبها لحد الان؟
- حاولت ذات مرة و كتبت قرابة اكثر من ثمانين صفحة، لكنني ذات ليلة اعدت قراءتها بهدوء فذكرتني بطرفة، وهي، ان الكابتن الانكليزي توماس اخذ ذات مرة بيانو الى قرية الشطرة فدعا شيوخ منطقته للاستماع الى سوناتا - باثيتك - و سألهم في النهاية عن رأيهم في الموسيقى، فأجابه احدهم (و الله خوش دكه).. و انا عندما انتهيت من قراءة العمل قلت مع نفسي (و الله خوش نكته) مزقت العمل و اكتشفت انني لا امتلك موهبة كتابة الرواية.
* كان لديك منذ وقت مبكر هاجس فني وحلمي تجربيي الذي قد يكون هو الدافع وراء تغيير اسلوبك القصصي نحو امتزاج الحلم بالواقع و الاسطورة بالمعيشي و اليومي، من خلال اختراقات الزمن (كما في قصة: اللازمني، فوبيا، توهج بلازما الخيال، ومضات في اقاليم اللاوعي، الالهة عناة، امم من الفرح، الهيتروتوبيا) و قصص اخرى كثيرة.. سؤالي هو كم هي نسبة الواقع و الحلم عندك، اقصد في حياتك الشخصية و في قصصك معاً و في انٍ؟ لأننا نجد ان اسم معظم ابطال قصصك هو جليل القيسي..
- قال افلاطون ذات مرة، ان الفنانين انصاف مجانين و انصاف الهة. الجانب الجنوني، هو انهم يعانون من الكرب، والتهيج النفسي، و المشاعر الغاضبة المهتاجة، و عندهم بالمناسبة يا كاك نوزاد الخلايا العصبية تندمج في الجملة العصبية فتولد موجات من الذبذبات و الاشارات ترسم لهم صورا سمعية و بصرية، و نغمية. لذا تراهم غير طبيعيين و يسمون فوق الحياة الطبيعية و يستطيعون بحرارة روحية الالتقاء بمن يحبون و يدخلون معهم في حوار روحي.. دائماً لديهم رؤية بنا روحية للحياة. صدقني، اكرر صدقني، في قصتي (توهج بلازما الخيال) كنت بأم عيني ارى دستويفسكي جالساً امامي يكلمني، و كذلك مع اسكندر المقدوني في قصتي (اللازمني) ومع الشاعر رامبو في قصتي (كبير ملائكة الشعر).. كانوا يسألونني عن اسمي، فكنت ببساطة اقول لهم اسمي الحقيقي.. حسن تسألني عن نسبة الواقع و الحلم. يا عزيزي ابان الكتابة يندمج الوعي كما يقول فرويد باللاوعي، يلتحم الحلم بالواقع و العكس صحيح ايضاً.. قال تولستوي ذات مرة، لكم اتمنى ارى نفسي و انا اكتب..
* يقال انك انسان منعزل و حساس جداً في علاقتك و تبتعد عن الاضواء قابعاً داخل اسيجة خيالاتك الخاصة التي تنبض فيها ابداعاتك. و كل من يعرفك يقول ان جليل القيسي لديه نوع خاص من النرجسية و من حقه ان يكون نرجسياً. هل حقاً انك نرجسي؟
- حسن.. واحدة من سيئات النرجسية يا نوزاد هي الـ Exhbitionism، أي الاستعراضية، و التمظهر، و النفاجة، و الاكثار من استعمال كلمات (انا) - (انني)، الان لاحظ كلماتك بالذات (يقال انك. انسان منعزل، و حساس جدا في علاقتك، و تبعتد عن الاضواء، قابعاً داخل اسيجة خيالاتك الخاصة.. الخ) لاحظ كم بعيد انا عن النرجسية.. الانسان المنعزل لا يستطيع ان يكون استعراضياً، و نفاجاً لأن ببساطة يعاني من الكآبة، الحزن، الانقباض.. هناك العديد من الكتاب النرجسيين. اوسكار وايلد. سافر ذات مرة الى امريكا بالباخرة، و عندما وصل ميناء نيويورك قال له ضابط الجوازات: جوازك من فضلك/ اجابه انا اوسكار وايلد.. سأله الضابط بدهشة: من هو اوسكار وايلد؟.. اجابه بغضب: ماذا؟ الا تعرف من هو اوسكار وايلد.. و هناك كتاب يتكلمون عن انفسهم بهذيان و يدعون في مناسبة و اخرى انهم الفوا الكثير من اربعين كتاباً..
* الا تنوي كتابة سيرتك الذاتية؟ و بالأحرى قد تكتبها بصمت اضافة الى كتابة يومياتك كما الاحظ..
- لقد دونت يومياتي في عدة دفاتر مع ملاحظات كثيرة عن كل ما عرفت من الادباء العرب مثل الشاعر ادونيس، يوسف الخال، انسي الحاج، ابراهيم اصلان و العديد من الادباء العراقيين و الكرد و التركمان.. انا الان متعب جدا، و الكهرباء صيفا و شتاء لا يشجع على الكتابة.. و هناك لا استطيع التغلب عليها، و استسلم لها رغماً عني مثل الام ساقي في الشتاء.. اجل استسلم لها كما يستسلم الجندي المحاط من كل مكان باعدائه. و انت تعرف كم عانى جيلنا، و بالذات نحن الذين لم نغادر الوطن و عذابات و كوابيس ثلاثة عقود و نيف من حكم بوليسي فاشي.. اجل نعاني من كسل غريب يسميه الشاعر الانكليزي ييتس بـ(الكسل المجتهد) رغم كل هذا مازلت اكتب..\
حول القصص
* في قصة (فوبيا) بينما يفكر بطل القصة -جليل القيسي- في الاكثار من استعمال كلمة خوف في واحد من اقصر فصول رواية (انا كارنينا) لتولستوي، فجأة يدخل الغرفة صرصار بحجم الارنب و يعتريه رعب و خوف مريعين.. نكتشف بعد ذلك انه غريغوري سامسا بطل قصة - المسخ- لكافكا.. و تبدأ العلاقة الحميمة بين بطل قصتك و غريغوري سامسا. سؤالي هو: لماذا غريغوري سامسا؟ و ما علاقتك من الناحية السايكولوجية بسامسا؟
- قبل ان اجيب على سؤلك دعني اعترف لك بهذه الحقيقة، حقيقتي انا. كان شيكسبير، دستويفسكي، كافكا كل بطريقته الخاصة، و عبقريته قديساً شفيعاً لي. عبرهم عرفت نفسي، و الاخرين، و الحياة، و ظلوا حتى هذه اللحظة بالنسبة لي في دنيا الادب بمثابة الملاك الحارس.. لقد اجبت على سؤالك هذا عندما تكلمت عن زيارة دستويفسكي لي عندما تكلمت عن الكرب و التهيج النفسي.. الخ. يقول روجيه غارودي في كتابه "واقعية بلا ضفاف" (كافكا ليس يائساً و لكنه شاهد على عصره، و هو، ليس ثورياً و لكنه يفتح العيون) عندما قرأت رواية المسخ لكافكا، شعرت فعلاً كان بصري اصبح اكثر قوة بكثير كما وشعرت ان الام و عذابات غريغوري سامسا نعمت روحي و جسدي، و حلمت به لفترة طويلة.. حسناً، يقول كافكا (اعيش غريباً اكثر من الغرباء انفسهم) يوم كتبت قصتي و هي بالاصل (Antho phobia) أي الخوف من لقاء الغريب. كنت اعاني من الوحدة، و قد فكرت بكافكا، و رواياته، و اخذني اجنحة خيالي بقوة اليه و الى عالمه الخرافي.. فجأة شعرت ان غريغوري سامسا يدخل صالون بيتي تماما كما تزورني احيانا انت يا صديقي نوزاد.. اه.. الخيال، المعاناة، الحياة، الكتابة هي جنرالات الروح.. كم اشعر بحزن احيانا عندما لا أفهم.
* في قصة (الميثوبي) وهي من القصص الجميلة جداً و ذات اسلوب متميز، تكتب اليك فتاة رسائل عديدة مثيرة و جميلة تعبر عن اعجابها بك و احساسها العميق بشخصك و قصصك. لكننا نفاجيء في قصة (متعة غامضة) - التي نشرتها بعد قصة الميثوبي - تصرفك غير اللائق مع تلك الفتاة التي كتبت لك بعمق، حيث تتصرف معها ببرود قاس و بلا مبالاة. في نهاية القصة اخرجت الفتاة من حقيبتها مسدساً و قالت لك: لو ان انساناً اخر غيرك انت عاملني كما عاملتني لأفرغت ست رصاصات في رأسه. عجيب.. لماذا تصرفت معها بلجاجة.. خاصة بعد ان عرفت انها هي التي كتبت لك الرسائل و وصفتك بالميثوبي.. الست نادماً من فعلتك هذه؟
- بسبب حبي الشديد لها.. ذاك الحب الذي كنت اعانيه لها بصمت، لأنها بدت كنمرة حقيقية واثقة من نفسها.. للمناسبة، هل تعرف نحن البشر احيانا نحب الحيوانات الشرسة..؟ النمر مثلاً.. النسر.. احببت فيها بصمت لهجتها العنيفة. و العنف احيانا وسيلة لتعريف الذات. كانت تريد اثبات ذاتها بطريقة مفترسة.. اجل، عاملتها ببرود، لكنني كنت في داخلي متهورا لأخذها بين يدي.. من يا نوذاد مثل الانسان كائن متناقض.. ربما حججي لا تقنعك. لكن عجزي عن تحقيق الحجج يجعلني اكثر منطقياً..
-انا عاشق مهووس للمرأة الجميلة.. المرأة الجميلة عندي مقدسة.. احب ان استمتع بجمالها عن بعد.. اعشق الصداقة العذرية.. و لان من الصعب جدا تفسير الجمال لذا عندما ارى الجمال اقع تحت رحمة امواج من العواطف و المشاعر و يضيع المنطق.. طلب الشاعر العظيم و هو في ذروة الحب من حبيبته ان تهديه خفين من خفيها لكي يقبلهما في الليل.. اما المرأة الجميلة و المثقفة فهي بمثابة الخلاص بالنسبة لي اشهد انني لست زير نساء، لكن هدوء طبعي و رقتي، احياناً ذرابة لساني، و ثقافتي و تمكني من عدة لغات ساعدتني ان اعرف نساء كثيرات، فيهن القبيحات، و فيهن البارعة الجمال، و فيهن الهلوله الخليعة. عرفت المانيات، امريكيات، تركمانيات، كرديات، ارمنيات، و يهودية شابة في صدر شبابي. اجل عرفت نسوة من كل لون و طعم , لذا تجدني اجسدهن في قصصي بسهولة و نعومة و اروح معهن في حوار فكري .اصورهن جريئات، مقدامات، غير هيبات. انا لا اتحمل المرأة المهمشة، الخائفة، المضطربة.. مع المرأة القوية اشعر بحالات من النشوة الكثيفة.. تخيل نفسك و انت مع صديقة رائعة، هل تستطيع ان تقيس حالتك النفسية المتجلية؟ مستحيل، لأن الثانية الواحدة تكون ابدية.. اسمع، جاء في الاصحاح العاشر من انجيل يوحنا هذه الجملة الرائعة (لن يكون يومئذ زمان)، مع المرأة الجميلة و المثقفة، و الجريئة لن يكون ثمة زمن ابداً. تسألني، هل اعزو هذا الاحساس الستيني الى احلام غير المتحققة؟ ربما نعم، و ربما لا.. الكاتب دائماً يحاول ان يحقق الاحلام غير المتحققة للاخرين.. و تسأل (اقصد احلام الجنس.) يقول كارل غوستاف يونغ عالم النفس: (ليس الجنس او طاقة المركز الجنسي هي التي كانت تحث كازنوفا الى غواية النساء، بل نوعا من حب النفوذ و السيطرة و لأقناع نفسه بأهميته الشخصية.. انا و هن كنا نقنع انفسنا بأهميتنا ككائنات..
توظيف الاسطورة
* كثيراً ما توظف في قصصك الاساطير السومرية و البابلية بل و الاساطير اليونانية القديمة ايضاً.. ما هي اهمية هذه الاساطير عندك و كيف توظفها في قصصك؟ هل تقرأ الاساطير اولاً و من ثم تحاول كتابة قصة بحيث تنسجم معها، ام بالعكس لديك ثيمة تذكرك بأسطورة ما و تمزجهما معاً لتنتج في الاخير قصة؟
- للمناسبة انا عاشق مهووس لتراث اجدادي من السومريين، و البابليين، و الأكديين، و الاشوريين. لقد صوروا التاريخ تصويرا مسرحياً، و ادخلوا فيه المعجزات، و الشعائر، و النذر، و خلقوا الاساطير و الملاحم، و ملأوا الهواء بالملائكة و الشياطين، و مارسوا السحر، و تلاوة الرقي و التمائم، و كتبوا اعظم و اروع ملحمة - ملحمة كلكامش التي توضع سوية حتى اليوم مع الملاحم العظيمة مثل الالياذة و الاوديسه، و المهاراته، و سنوا اروع القوانين، و اخافوا انفسهم و ابناءهم بالحديث عن الساحرات او الاغوال، و اضاءوا ظلمة النوم و غموضه بما وضعوه من تفسير للاحلام، و ثبتوا في الكتابات اسرار خفية باطنية، و نحتوا اروع التماثيل مازالت تدهش علماء الاثار.. انا عندما قرأت العديد من الكتب المترجمة عن هذا التراث الثري تعجبت بل دهشت كيف لم يهتم و لا قاص واحد بتناول هذا التراث , اجل وجدت امكانيات كثيرة في توظيف شرائح جميلة من المواضيع و الاساطير في قصصي قاربت العشر قصص و انت لا شك تعرفها كلها بدءا من (مملكة الانعكاسات الضوئية) وصولاً الى قصتي الاخيرة التي سوف تنشر في مجلة بانيبال الغراء تحت عنوان (صباح مشرق مع الاميرة مي - سي)
المسرحيات
*تصوغ افكارك و رؤاك في نص مسرحي حيناً، و في نص قصصي حيناً اخر. كيف تختار في الاخير هذا الجنس او ذاك؟ أي لماذا تصوغ ثيمتك في نص مسرحي قصير و ليس في القصة؟ هل الثيمة هي التي تفرض عليك اختيار اسلوب الكتابة المسرحية او القصصية؟
- دعني قبل كل شيء ان اتكلم عن المسرح.. لا يخفى عليك ان القصة و المسرحية و الرواية دخلت عالمنا العربي بعد الحرب العالمية الاولى.. و المسرح هو ابداع اوربي . قرأت بحب و استغراق شديدين مئات المسرحيات.. و لما كان مسرحنا العراقي في اوج تطوره ابان السبعينيات وضعت كتابة القصة جانباً، بل هجرت كتاتبها لسنوات و انهمكت في كتابة المسرحية.. في هذه الفترة اوشك مسرحنا ان يصبح ملكية مشتركة لأمم اخرى لأنه بطريقة غاية في الابداع عمل على تكنيك الاحداث الصعبة و يتلاءم مع فوضى الواقع، و خاطب بعمق تراثه الفكري، و الحسي العاطفي، و الاجتماعي، و المستقبلي.. لقد كان مسرحنا مثل جهاز (الكاليدو) اسكوب في هذه المرحلة يحتوي على جزئيات عاكسة للضوء ينظر فيه المرء فيرى اشكالا رائعة نتيجة تحلل الضوء على روعة الجزئيات المتحركة.. صدقني كاك نوزاد كنا على وشك بناء مسرح باروكي كما بنينا في اواخر الستينيات قصة باروكية ساحرة وانا هنا استعمل كلمة باروك، وهي، للمناسبة كلمة برتغالية و صارت من ثم عالمية ليس بمعناها العادي (أي اللؤلؤة غير منتظمة) بل بمعناها الادبي العميق، و اقصد هنا باستعمالي كلمة باروك، الغرابة المذهلة، الاصالة، الانغماس، الوفرة، و الخصب، السخاء، و الامتلاء المفرط.. وحدث الشيء نفسه في كردستان سيما في السليمانية بقيادة نخبة من اروع الموهوبين و الموهوبات.. اتعرف كم صعب كتابة المسرح ؟ لاحظ عدد الروائيين في بلد مثل فرنسا.. العشرات.. لكن بعد رحيل جان جينيه، و جان انوي، و يونيسكو لم يظهر لحد الان كاتب مسرحي بارز واحد. بعد رحيل تنسي وليمز، و ارثر ميلر لا يوجد في بلد مثل امريكا سوى كاتب مسرحي واحد وهو ادور اولبي، و قد توقف هذا عن الكتابة.. في انكلترا شاخ جون اوزبرن و شاخت شيلا ديلوني.. في هذه البلدان المتقدمة يوجد عشرات الروائيين، و كتاب القصة و الشعراء.. في هذه المرحلة كتبت اكثر من ثلاثين مسرحية من فصل واحد.. لكن فجأة جاء المسرح التجاري و سيطر التهريج و العبث السخيف، و بدأ باستنزاف العقل، و الاخصاء الذهني، و استمر هذا المسرح المتشرد في تهريجه مدعوما من قبل النظام الفاشي، و اضطررنا ان نتوقف مرغمين لان العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة و منذ الثمنينيات لم اكتب سوى ثلاث مسرحيات قصيرة فقط وعدت الى عالم القصة من جديد.. تسألني (كيف تصوغ ثيمتك في نص مسرحي قصير و ليس في قصة؟) غريب جدا امر الكاتب.. انه ينطلق من لحظة الهام.. ان تلك اللحظة الغريبة بعيدة عن العمليات العقلية العادية للوعي، و كذلك بعيدة عن السيطرة و الارادة، تأتي بشكل غير متوقع و غريب. اسمع قرر دستويفسكي ذات مرة ان يكتب بحثاً عن ادمان الشعب الروسي للكحول و اذا بالبحث يتحول الى رائعته الخالدة (الجريمة و العقاب..) ابداً احيانا بكتابة قصة فاذا بها تتحول الى مسرحية و العكس صحيح ايضاً. الفنان سمو روحاني، انطلاق في الكون، انسجام و لاانسجام مع كل شيء، نشوة همجية، اخذ و عطاء ببذخ..
* من الطبيعي ان يكون ثمة حوار في النص المسرحي، لكننا نجد الحوار بشكل متزايد في قصصك ايضاً. لماذا كل هذا الاهتمام بالحوار؟ هل اعزو ذلك الى الصمت و الانعزال اللذين تمارسها في حياتك اليومية؟ ثم هل يملي عليك حسك المسرحي او حبك الشديد للمسرح ادخال الحوار في قصصك بكثرة؟ ارى ان أي مخرج مسرحي بامكانه عرض قصصك على خشبة المسرح بسهولة، و بامكانه ايضاً تحويل بعض من قصصك الى نص مسرحي..
- لقد تعلمت فن كتابة الحوار من دستويفسكي العظيم.. لاحظ انك عندما تقرأ روائع هذا الكاتب تتعرف بعمق الى ادق تفاصيل افكار و مشاعر و عذابات، و هذيانات، و هلوسات، و انفعالات شخصياته عبر الحوار.. و كتابة الحوار فن.. ان كتابة الحوار الجيد، و العميق و الفلسفي احياناً و بطريقة تلقائية، و عفوية امر غاية في الصعوبة.. مثلما يبحث الشاعر المبدع عن كلمة غير موجودة في المعجم و يصعب اكتشافها، ابحث انا الاخر عن هكذا كلمة احيانا لاضعها في فم هذه الشخصية او تلك.