رواية الطريق لنجيب محفوظ وكتاب هالة فؤاد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"طريق نجيب محفوظ بين الأسطورة والتصوف" (القاهرة، دار العين، 2006)
أليس لون منقار الطّائر في الحلم، أهمّ أحيانا من أحداث الحلم كلّها كما يقول لنا فرويد في أحد نصوصه؟ بصمة اليد العابرة على جدار بارد أليست أهمّ من الجدار وبنيانه لمن أراد
سئمنا التّحاليل السّرديّة البنيويّة والسّيميائيّة المتعاظمة التي لا تخلي القصّ من زمنه فحسب، محوّلة إيّاه إلى مجموعة من الوظائف أو البنى المجرّدة، بل تجرّده من تفاصيله الشّاردة، ومن ثغرات صمته، ومن عمقه التّراجيديّ الضّارب في أعماق الذّات البشريّة. إنّها إذ "تتسلّح بالمنهج"، تتّخذ المنهج سلاحا معبودا تقدّم له الكتابة والغرابة قربانا، في قدّاس من الطّلاسم التي لم يعد يفهمها إلاّ الرّاسخون في الشّكلنة.
وسئمنا مع ذلك انعدام المنهج وانعدام المعرفة، والانغماس في التّجريبيّة الصّمّاء التي تختزل النّصّ في مجموعة من القضايا والأطاريح السّاذجة.
القصّة نسيج من الأقاصيص والآثار، وكلّنا نسيج من الأقاصيص والآثار، والقصّة اقتصاص للآثار ووقوف على أطلال، والآثار مطموسة من حيث هي آثار، ولا أحد يملك مفاتيح حضورها. القصّة ليست صرحا شامخا نتأملّ هندسته التي لا تعتريها الشّروخ. بدل صور ومقامات الفتح والتّسلّح والامتلاك، لنكتف بنوع من "الدّندنة" حولها، ولنتّبع خطوطها المتشابكة، ولنتخيّل ما كان فوقها من بناء، ولنتخيّل حركاتها السّائرة في كلّ اتّجاه، دون تعاظم موضوعيّ.
لا تقدّم هالة فؤاد في هذا الكتيّب تحليلا ضافيا لرواية "الطّريق"، بل تكتفي بهامش، تقول إنّه صوفيّ، وهو بالأحرى أشمل من ذلك وأبعد أثرا: إنّه تناصّيّ، ميثولوجيّ تراجيديّ. بدل القضايا والأطاريح، وبدل البنى المجرّدة والبهلوانيّات المنطقيّة والسّيميائيّة، اتّّخذت الكاتبة التّناصّ الحرّ طريقا إلى "الطّريق". إنّها المعرفة الحالمة المرحة.
تستنطق الكاتبة اللّغة، وتشتغل على الدّوالّ في ترابطاتها العتيقة، فتدهشنا عندما نكتشف من جديد أنّ اللّغة ليست مجرّد أداة "نقول بها"، بل هي لسان كاهنة "تقول لنا": تقول لنا إنّ "الصّبر" من الحبس والأسر، وأنّ "البرد النّوم لأنّه يبرد العين بأن يقرّها" وأنّ "الحسرة" من التّعرّي والانكشاف، وأنّ "الصّرع" من القتل والغضب... وما أسعد الكتّاب الفلاسفة الذين استمعوا إلى هذه الكاهنة العجوز، فقالوا كالتّوحيديّ إنّ "الغريب من غربت شمس جماله"، أو قالوا كابن عربيّ إنّ العذاب من العذوبة...
وتتذكّر الكاتبة التّراجيديا اليونانيّة القابعة بعمقها الأوديبيّ في نسيج أقاصيص حياتنا وفي نسيج روايات نجيب محفوظ البديعة. ألا تقول لنا في التماعة تأويليّة ثاقبة إنّ الصّحفيّ الضّرير الذي كشف عن حقيقة والد صابر لا يعدو أن يكون تيريزياس، لسان حال القدر، ذلك الأعمى الذي أفقدته الآلهة البصر لتمنحه البصيرة؟
سلاح هالة فؤاد في هذا الكتيّب ليست سرديّة الوظائف والبنى المنطقيّة، بل سلاحها ترك السّلاح على طريقة أهل التّصوّف ربّما. ترك السّلاح واتّخاذ الذّاكرة الأدبيّة والصّوفيّة والميثولوجيّة معينا ومدادا، أو بالأحرى خيوطا. لكنّها غير خيوط العنكبوت التي تتربّص بالقنيصة، بل خيوط الطّرّازة التي تملأ الفراغات، وتسدّ البياض، تاركة للآخرين سبل الاستمرار في الملء والسّدّ المتجدّدين.
أواصل تطريزها من حيث انتهت، فأترجم بعض ما كتبته إلى اللّغة التي أصبحت حبيبة إليّ، منذ أن اقتنعت بأنّ الأدب لا يمكن أن يكون موضوعا لعلم، بل مادّة لمعرفة، واخترت التّحليل النّفسيّ، معرفة وطريقا ومصيرا محتوما، كالمصير التّراجيديّ تقريبا، لأسباب يضيق عنها هذا المجال طبعا.
تقول الكاتبة: بسيمة أمّ صابر هي إيزيس، المردّدة: "أنا ما كان، وما هو كائن وما سيكون... وما إنسان بقادر على رفع برقعي."
بسيمة هي الأمّ العتيقة المتسلّطة التي لا تترك للابن فضاء للشّوق، ولا تترك للأب مجالا، لكي يحدّ من سلطتها ويقوم بإخصاء رمزيّ للابن، بل وللأمّ أيضا، ولذلك اشتقّ اسم صابر من الصّبر-الأسر، وكان صابر أسير أمّه وأسير اسمه: " كان صابر حبيسا داخل فضاء بسيمة عمران الأسطوريّ..."
تقول الكاتبة: "إنّ بسيمة وكريمة من سلالة آلهات الموت والجنس، أمازونيّات يقتلن الذّكور بعد مضاجعتهنّ، بل ويقتلن مواليدهنّ من الذّكور."
بسيمة لم تقتل ابنها واقعيّا، بل قتلته يوم اتّخذته قمرا معبودا لا يحتاج ولا يفتقر، ألم يقل نجيب محفوظ إنّها قالت لابنها: "أيّ أب في الدّنيا كان يمكن أن يهيّء لك من أسباب السّعادة بعض ما هيّأت لك؟" وبسيمة قتلت أبا ابنها بأن غيّبته وغيّبت اسمه: ألم يقل صابر في نفسه عن بسيمة: "ثمّ أحيت أباك لتحرمك نعمة اليأس". التي أحيت الأب قبيل موتها هي التي قتلته عند ولادة الابن، بل قبلها.
تقول الكاتبة عن صابر: "إنّه يوسف الجميل، صورة أبيه البهيّة، السّاقط في ظلمة الجبّ والذي ربّما يتحقّق ميلاده الجديد عبر غوصه في عمق هذه الظّلمة."
النّبيّ يوسف تركه أبوه، فأخذه إخوته إلى الجبّ، ثمّ عاد إليه الأب والتقى به بعد رحلة سعي طويل، وصابر متروك، تركه أبوه، إلاّ أنّه لم يعد إليه. أحلام الأنبياء كانت نبوءات متحقّقة، أمّا حلم صابر، في زمن نهاية النّبوءات، فكان عين الواقع: ما كان ممكنا، أي لقاؤه بالأب لم يكن، وما كان بإمكانه أن يكون، لأنّ الأب أرادته الأمّ بسيمة أن يكون منكرا لأبوّته، وهذا ما تحقّق في الحلم، دون أن يكون الحلم نبوءة. أو كان الحلم بالأحرى نبوءة تعكس الماضي السّحيق لا المستقبل القريب، ماضي العلاقة الأوديبيّة الأولى.
فات الأوان يا بسيمة ويا صابر، وصورة الأب التي تسلّمها الابن في آخر لحظات حياة الأمّ، تسلّمها بعد أن سلك صابر طريقه، ولم تعْد أن تكون وأن تبقى صورة شبحيّة. ألم يقل صابر في حلمه لأبيه المتخيّل الذي مزّق الصّورة ووثيقة الزّواج: "أنت تمحو وجودي محوا"؟
صابر هو يوسف الذي ظلّ فقيد الأب، فقيد الوجود، وطريق صابر طريق مسدود، مطبّة لا يمكن إلاّ أن يصطدم فيها بجدار القتل والجنون.
تقول الكاتبة: بسيمة "أعادت إنتاج النّموذج السّلطويّ الذّكوريّ في أقسى صوره، مرتدّة بهذه القيم إلى عصر ما قبل الدّين، ما قبل التّشريع والقانون".
بسيمة الأمّ المتسلّطة، امبراطورة الملاذّ اللّيليّة بالإسكندريّة، لم تترك فضاء لصابر حتّى يستبطن القانون الذي يحدّ من المتعة ويهيكل الذّات، لا لأنّها مومس وقوّادة، فكم من المومسات والقوّادات أنجبن أناسا عاديّين لا يلجأون إلى القتل، بل لأنّها جعلت ابنها يخلد إلى المتعة، ويطلب ما يشاء ويجد ما يطلب. ولذلك تتساءل الكاتبة: "أتراها (بسيمة) كانت تسعى لتأسيس استحالة عثور صابر على أبيه الرّحيميّ بعالمه وقيمه، قيم الحرّيّة والكرامة والسّلام؟"
تقول الكاتبة: "ولعلّ صابر شأنه شأن كافّة البشر، فقد ميثاق التّشابه القديم حين غاص في عمق هذا العالم مغتربا عن أصله، فأضحى مجرّد قمر على الورق، وحينما رأى صابر الصّورة، تذكّر ميثاقه الدّمويّ مبهما وشبحيّا، لكنّه وعى عبره مدى اغترابه عن الأصل..."
الميثاق القديم الضّروريّ لكلّ البشر، هو ضرورة الاغتراب والابتعاد عن الأصل الرّحميّ الأموميّ، لمعانقة المصير والسّير على خطى الشّوق الفاتح لفضاء الممكن. غاص صابر في اغترابه لأنّه عجز عن الاغتراب عن الأصل، وظلّ يسير على خطى المصير الذي صنعته له أمّه، عندما اختارت أن يكون "ابن بسيمة"، وأن لا يكون له أب حاضر أو غائب أو مسمّى.
ومن المفارقات التّراجيديّة العجيبة أن يكون اسم الأب الذي كشفته عند نهاية المطاف، وبداية القصّة، التي كانت قصّة نهاية المطاف، هو "الرّحيميّ"، وكأنّ اسم الأب نفسه يردّ إلى الرّحم، ويحيل إلى استحالة الاغتراب المخلّص.
حتّى لو التقى صابر بأبيه، فليس من الثّابت أن ينتشله من عالم الامتلاء بلا شوق، لا سيّما أنّه هو نفسه أسير المتع التي لا حدّ لها، وأنّ بعض ممارساته تدخل تحت طائلة القانون، تقول الكاتبة: "وهكذا لا يختلف فردوس بسيمة في هذا السّياق كثيرا عن فردوس الرّحيميّ، من حيث أنّه يقوم على مبادئ التّملّك و التّسلّط والاستئثار، وسطوة النّفوذ والمال."
لم يكن لصابر أب ولا اسم، ولذلك حقّ للكاتبة تشبيهه بسميرداكوف، الابن غير الشّرعيّ في أسرة كارامازوف، فقد كان بلا أب ولا اسم، وكان يصرع كصابر، والاثنان آل مصيرهما إلى القتل: كان كلاهما "هامشيّا مستوحشا ممتلكا بدرجة ما، وقرينا لليأس والعنف والقسوة التي تصل إلى حدّ القتل."
تتساءل الكاتبة: "هل كان صابر مولود اللّعنة أم الاكتمال المخيف، وكلاهما وجهان لعملة واحدة؟ إنّ زواج بسيمة عمران، والسّيّد الرّحيميّ انجب صابر الجميل المصروع".
نعم كلاهما وجهان لعملة واحدة، كلاهما "انعكاس صارخ لنرجسيّة مدمّرة لا تعتدّ بحضور الآخر ولم تأتنس به أو تؤنسه أبدا." ألم يقل صابر قبيل قتله زوج عشيقتة كريمة: "ولعلّي أشارك اللّه في بعض علمه بالغيب منذ قبلت أن أكون قاتلا."
كان صابر يصرع، أي يغيب عن العالم ويبتلع العالم، وفضاؤه الصّرعيّ هذا "يصل به إلى حدّ الشّعور بقدرته على الاستغناء عن أبيه، بل إنّها اللّحظة المناسبة تماما لمعاينة الأبديّة، معاينة الجمال في مجلاه الأكبر، مجلى العمى، أو لعلّه مقام المحق والفناء إذ تستوعب الذّات في عمق الدّفء، دفء الرّحم البدئيّ".
تقول الكاتبة: "ولعلّنا نقارب هنا تخوم الجنون الإلهيّ المقدّس، الذي قد تنطوي عليه الطّبيعة الصّرعيّة لشخصيّة صابر، والتي كانت تورثه أفكار الفناء. ولعلّنا لسنا في حاجة إلى التّذكير بالارتباط الأسطوريّ القديم بين الجنون والأمّ القمريّة الأنثويّة الإلهيّة. ولنتذكّر معا أسطورة سيبيل، الإلهة ألأمّ التي ضربت ابنها وحبيبها آتيس بالجنون فخصى نفسه تحت شجرة التّين وظلّ ينزف حتّى الموت".
نعم لنتذكّر معا أسطورة الأمّ المحرميّة سيبيل، عشيقة ابنها الذي أغرق في الجنون وخصى نفسه واقعيّا لأنّه لم يخص رمزيّا ولم يفصل بينه وبين الأمّ. بسيمة هي إيزيس، وهي سيبيل، ولكنّ الأسطورة تغالي وتبالغ، و"الغلوّ يفضح اتّجاه الحركة" كما يقول جورج باطاي. لا لم تكن بسيمة عشيقة صابر الفعليّة، ولكنّها كانت على أيّة حال مملكته الوحيدة وكان أسيرها. "إنّه لا ينتمي إلاّ إلى أمّه بسيمة" كما يقول نجيب محفوظ، متكلّما بلسان حال القدر.
لكنّ هذا الجنون غير إلهيّ، لأنّه ليس كجنون "عقلاء المجانين"، ولا يمرّ عبر تجربة الإعلاء والحبّ الإلهيّ، بل إنّه جنون مغرق في ظلمة العدم وفي الاكتفاء النّرجسيّ.
تقول الكاتبة إنّ بسيمة عاجزة عن الافتقار والإعلان عنه، تدافع عن نفسها "إزاء ذلك الحضور المغاير المهدّد الذي يخترق حدود السّيطرة الذّاتيّة، ويعرّي أوهام امتلاك المصير الزّائفة."
ترى لماذا طردت بسيمة الصّديق الذي جاءها ليلا، ثمّ أخلدت إلى البكاء؟ ربّما لأنّها هي أيضا حبيسة امتلائها النّرجسيّ وافتقارها إلى الافتقار، فلم تترك أيّ رجل يحلّ محلّ الأب أو العشيق، ويفصم اللّحمة بينها وبين ابنها. وربّما بكت عجزها عن الافتقار، وربّما بكت لأنّ كلّ مومس تبيع جسدها لا بدّ أن تبكي في لحظة من لحظات الوحشة، تبكي جسدها الذي لم يعد غاية في حدّ ذاته، لم يعد أغلى من كلّ شيء، بل أصبح وسيلة للعيش والرّبح. امبراطورة اللّيل لا سلطة لها على أدنى ما يمكن أن تكون لها عليه سلطة. تقول لنا الكاهنة العجوز-اللّغة-: سرّ المرأة فرجها، والمومس لا سرّ لها ولا جسد، أو سرّها مستباح وجسدها سلعة معروضة.
تقول الكاتبة: كريمة "بسيمة الشّابّة المولودة من نظرة صابر ومن عمق ذاكرته، وحلمه القديم في عطفة القرشيّ" وتقول عنها إنّها "الامتداد الحيّ لأمّه بسيمة فيما تهبه من متعة وجريمة، وما أعجب صيغ المبالغة بسيمة/ كريمة "
نعم كريمة آتية من عمق الماضي، كالقراديفا، "صاحبة المشية الرّشيقة"، بطلة رواية يانسن. تصوّر عالم الآثار أنّه يحبّ امرأة غريبة هي تجسيد للنّقيشة التي تحمل نفس الاسم، وتصوّر أنّ هذه المرأة انبعثت من خراب بومباي، المدينة التي أغرقها بركان الفيزوف، فيتبيّن له في آخر الرّواية أنّ هذه المرأة بنت جيرانه التي عشقها ونسيها، ولكنّه احتفظ في لاوعيه بصورتها، فهو يلتقي بالحبيبة القديمة، ظانّا نفسه أنّه يلتقي بامرأة غريبة.
بسيمة، آتية من الإسكندريّة، موطن صابر، وهي ملتهبة الوجه والجسد كبسيمة. إنّها لا تعدو أن تكون صنوا لبسيمة، التي لم يبرح صابر مملكتها وهو يسير نحو "المرأة الأخرى" أو الحبيبة.
وماذا عن إلهام؟ ألم يحبّها صابر محرّما إيّاها عن نفسه، ألم ير ذلك في حلمه، عندما بدا له أنّها أخته؟
إذن كريمة وإلهام صورتان للإيماجو الأموميّ المنشطر إلى شطرين بفعل الازدواج: شطر سلبيّ يمثّل الشّبق والدّعارة والقتل، وشطر ملائكيّ طاهر يمثّل الأمّ الأخرى التي تلتبس ببسيمة أو التي ودّ صابر لو كانت بسيمة هي. الشّطر السّلبيّ هو كريمة والشّطر الإيجابيّ هو إلهام. تقول الكاتبة: "فقد كانت بسيمة حريصة على إحكام قبضتها حول أسيرها الجميل حتّى إنّها أوصته بأن يعشق من النّساء من يشاء، ولكن لا يجعل لإحداهنّ سلطة عليه، أو لنقل لا يسلم صكّ ملكيّته لامرأة أخرى تغدو ندّا لها..."
ماتت بسيمة عند ابتداء الرّواية، ولكنّها ماتت مجدّدا، عندما قتلها صابر بقتله كريمة.
تقول الكاتبة: "إنّ صابر هو المريد الذي لا شيخ له إلاّ الظّلمة؟ ولعلّنا نذكر زيارته اللاّفتة للعارف سيّدي الشّيخ زندي بعطفة الفراشة قبل مغادرته للإسكندريّة... "
إذا لم يكن له من شيخ إلاّ الظّلمة، فهو ليس مريدا أو هو المريد المستحيل، كما أنّه ابن الأب المستحيل. والشّيخ في الظّلمة لم يبشّره إلاّ بالصّبر، أي بالأسر.
تقول الكاتبة: ..."وهكذا سقطت الذّات في حبالة الطّريق الفخّ، في بئر كبريائها الذّاتيّ الوهميّ، وقد وأدت حضور الآخر، وربّما التهمته، لا لتنفي وحشتها الهائلة، بل لتقرّها عبر نفي الغيريّة وقتلها".
هذا شأن بسيمة وصابر ابن بسيمة. والمقام ليس مقام محاكمة أخلاقيّة، وما أبعد أدب نجيب محفوظ عن هذا المقام، ما أبعد قارئته أيضا عن هذا المقام.
بسيمة المومس الباكية في الظّلمة ليست بريئة وليست آثمة، وصابر الباحث عن أبيه المتخبّط في أذيال مملكة أمّه ليس بريئا ولا آثما. بسيمة قتلت ابنها صابر من فرط الحبّ، وصابر قتل كريمة وبسيمة التي تلتبس بها، من فرط الحبّ أيضا، وانفتح أمامه باب القتل لأنّه أراد أن يعاقب وأن يقدّم نفسه قربانا للقانون وللأب الذي حرم منه.
إنّهما من سلالة سيبيل وأوديب الملك، ونجيب محفوظ رسم طريق لعنتها بحكمة عالية، وحسّ تراجيديّ مرهف، فجعلنا أسرى لهذه الرّواية بعد قراءتها، متحيّرين متسائلين عن نسيج الأقاصيص التي صنع بها مصائر شخصيّاته وصنعت منها مصائرنا.
كاتبة المقال باحثة من تونس
التعليقات
الطريق من اروع الروايات
khadiga -روايه الطريق من اروع الروايات التي قرأتها و التي اعتقدت انها كانت طفره فجريه عظيمه في زمنها