الجريمة والعقاب: طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
(1/3)
"نحن نكتب على أمل أن نجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة علينا" / أندريه جيد
مقدمة: في دلالة المحاولة
كثيرة هي الدراسات النقدية، المكرسة لإبداع نجيب محفوظ. فهو ولا شك، الكاتب العربي الوحيد الذي شهدت أعماله، طيلة نصف قرن، سجالات لا تنتهي بين النقاد. فعالم محفوظ الروائي: "بمستوياته المتعددة، وعلاقاته المعقدة، ورموزه المراوغة، يثير جدلاً لا يفض، ويطرح مشكلات لا تحد، ويغذي جهداً نقدياً لا يتوقف في الكشف عن عناصر هذا العالم" (1). غالباً ما إقتصر إهتمام نقاد محفوظ على العناية بالجانب الفكري في إبداعه، ومحاولة إستشفاف موقف الكاتب، الإيديولوجي، من خلال تسليط الضوء على حركة
بالرغم من الأهمية التي يمحضها النقد المعاصر، خصوصاً، لثيمة المقارنة الأدبية، فقد فضل نقاد محفوظ تجاهلها، بإنشغالهم عموماً يالإعتبارات الإيديولوجية. لا بل إن بعضهم حشر هذه الثيمة ضمن قانون "العيب"، بوهم أنّ مقاربة نصوص الكاتب مع نصوص سابقة عليها، لا بد أن تنتهي إلى الحط من قيمته ككاتبٍ، أصليّ. لعلنا نجد مثالاً لتلك العقلية النقدية، التقليدية، في سياق حديث الأديب يحيى حقي، عن "ثلاثية " محفوظ: " التي تذكرنا برواية "الأخوة كارامازوف لدستويفسكي". إلا أن حقي يخلص من هكذا " ذكرى" للقول أن نجيب محفوظ: "إبتكر هيكل روايته من عصارة قلبه وذهنه، إستمداداً من بيئته وتاريخه، لا شأن له برواية دستويفسكي ولا أثر لها عليه". (2)
وفي أحسن الأحوال، مرّ ناقدُ محفوظ مرورَ الكرام أمام مسألة المقارنة الأدبية. كما في إشارة رجاء النقاش، الذي لاحظ أن: " أبطال روايات مثل " للص والكلاب" و "السمّان والخريف" و"الطريق"،يذكروننا بشخصيات دستويفسكي" (3). ومحاولتنا النقدية هذه، تهدف تحديداً إلى مقاربة روايتيْ "الجريمة والعقاب" لدستويفسكي، الأديب الروسي الكلاسيكي، مع رواية كاتبنا المصريّ، "الطريق". محاولة ٌ منطلقة ٌ من ثيمة المقارنة، كما سلف القول، وفقا لما رأيناه من تميّز النصَيْن بإشاراتٍ عديدة، خفية، تربط بينهما؛ مما سنحاول هنا تركيز الأضواء عليها، وبأكبر قدر ممكن من الإيجاز والتكثيف.
بنية القصة: تفكيك وتركيب
1 ـ البوابة:
رواية دستويفسكي، الموسومة آنفا، تقودنا سلفا، من خلال عنوانها، إلى أنّ ثمة جريمة ما وأنّ عقاباً محتملاً، سيكون من نصيب المجرم. أما عنوان رواية محفوظ هذه؛ " الطريق "، فتحيلنا إلى معنى المفردة قاموسياً. ففي اللغة العربية، تعني مفردة " الطريق " السبيل الذي يمرّ عليه الناس: وفي هذه الحالة، تقرر روايتنا، من معنى عنوانها، أنّ ثمة رحلة تنتظرنا كقراء. العنوان، إذا، يُدخل القاريء، عبْرَ بوابته، إلى النصّ ويحمل دلالته. لنلاحظ أيضاً، أنّ مفردة " الطريق "، لها معنىً آخر بالعربية؛ وهوَ المذهبُ أو الطائفة المنشقة. وإسم " راسكولنيكوف "، بطل رواية دستويفسكي هذه، مشتق من الكلمة الروسية ( راسكول )؛ وتعني طائفة منشقة. غير أننا نسارع إلى التأكيد بأنّ العلاقة ما بين إشتقاقيْ المفردة الأخيرة ومفردة " الطريق "، إن هيَ إلا محض مصادفة. لا نعلم ما إذا كان محفوظ قد أراد لروايته هذه، أن يحمل عنوانها ذلك المعنى الآخر ؛ الطائفة المنشقة. بالرغم من أن إسم " صابر "، بطل الرواية، يحمل بدوره معنىً مماثلاً: لأنه مشتق من كلمة " الصَبْر "؛ وهيَ بالعربية طباقُ " المتمرد "، الموحي به إسم " راسكولنيكوف "، كمنشق. في كل الأحوال، فإن لهذه المصادفات، على رأينا، مغزاها: فهيَ تحيلنا، منذ البداية، إلى التأمل ملياً في مسألة الرمز، فيما يخصّ أسماء أبطال دستويفسكي ومحفوظ. وسنعود إلى هذه المسألة في مكان آخر.
2 ـ المغامرة:
يعلّمنا النقدُ، أنّ المحاولات الساعية إلى البحث عن البنى الأساسية للقصة، قديمة قِدَم أرسطو؛ الفيلسوف الإغريقي، وصاحب أولى المحاولات النظرية، الأدبية. الرواية، كما هو معروف، معمار فنيّ يعيد بناء الواقع حسب القوانين الجمالية. إنّ موضوع الرواية الرئيس ( أيْ مضمونها )، يشكل وحدات صغيرة، يُدعى كل منها بـ " الموتيف ". ويمكن تحديد الرواية / القصة، بأنها مجموعة هذه الموتيفات في ترتيبها الزمني ـ السببي، كما أنّ " العقدة " ما هيَ إلا الموتيفات ذاتها، في إتقان أنساقها وتطور موضوعها (4). في رواية " الطريق "، سنلحظ أن رحلة بطلها، صابر، للبحث عن والده المختفي، قد شكلت الحافز الأساس في بلورة عقدة النص / حبكته. وبما أنّ العقدة، بحسب النظرية النقدية، هيَ من يختار حوادث القصة وينظمها؛ فلنقل أن مؤلف " الطريق " عمد هنا إلى الإتكاء على شكل قديم للحبكة، هوَ " المغامرة "، في محاولته التعبير عن مضمون جديد. فالرحلة في الروايات المتماهية بالمغامرة، عموماً، تعتبرُ " عذراً مفضلاً " للمضمون وتدخل ضمن ظروف التقنية الفنية. (5)
هكذا يهجرُ صابر مدينته ( الإسكندرية )، ليحقق وصية أمه الراحلة؛ التي طلبت منه السفر إلى القاهرة في مهمة البحث عن أبيه. كان هذا بالنسبة لبطلنا، هوَ الأمل الوحيد له في سعيه إلى " الكرامة والحرية والسلام؛ كما إعتادَ القول. في القاهرة إذاً، يجدُ نفسه في نزل عتيق، ثم ما يلبث أن يتجه إلى صحيفة محلية لنشر إعلانا عن أبيه المفقود. تضطره ظروف الإنتظار إثرئذٍ إلى بيع أشيائه الشخصية، لتدبّر مصروفه؛ هوَ المفلس شبه المعدم. إننا نستطيعُ التفكيرَ بقصة مماثلة، جرتْ بالإتجاه نفسه: فراسكولنيكوف، يترك مدينته ويرحل إلى العاصمة ( بطرسبورغ )، بهدف الدراسة في جامعتها. يستأجر هناك غرفة " تشبه القبر "؛ كما يجري وصفها. الغرفة تتبع نزلاً حقيراً غاية في الرثاثة والخصاصة، ولا يعتم أن يصير بطلنا في حالة صعبة من العوز بسبب عجز أمه عن إرسال المصروف اللازم له. بعدئذٍ يعمد إلى رهن أشيائه الشخصية لتدبير معيشته، ثم يهجر دراسته نهائياً. ينشر في تلك الآونة مقالاً في صحيفة محلية؛ هذا المقال، المحمّل بـ " فكرته " المهيمنة على نفسه، والمشكلة بدورها الحافز الأساس للقصة.
ربط " باختين "، الناقد الروسي، فكرة الخطيئة والجزاء، أدبياً، بصنف رواية المغامرة. وهو في دراساته عن أعمال دستويفسكي، يؤكد على أنّ الجريمة هي: " بمثابة الإخراج الحياتي للمشكلة الأخلاقية من وجهة نظر دينية. أما العقاب، فيعد الشكل الذي يحسد حلها. ولهذا السبب فإنّ كليهما [ أيْ الجريمة والعقاب ]، يمثلان أيضاً الثيمة الأساسية لأعمال دستويفسكي " (6). وكما في رواية الكاتب الروسي، تنحو رواية كاتبنا المصري في الإتجاه ذاته. حيث يطالعنا هنا وهناك البطلُ الأسطوري، بملامحه وسعيه، عبْرَ رحلة غامضة، إلى البحث عن معنى حياته ووجوده. كما أننا نستبين، في كلتا الروايتيْن، ثيمة اخرى؛ ألا وهيَ اللا أبالية المطلقة، تجاه كل شيء في العالم. تلك الثيمة، شائعة كما يفيدنا علماء الإجتماعُ خصوصاً في أوساط الطبقة المتوسطة، المنحدرة بفعل نمو الرأسمالية إلى حضيض المجتمع.
3 ـ الفكرة:
"على الإنسان الإختيار، ما بين العيش مثل قملة أو مثل نابليون "؛ هذه هي فكرة راسكولنيكوف. إنه يرى أيضاً أن إرادته تجابه بعوائق معينة، لا بد من تخطيها. إنه ينجح في ذلك، نظرياً، لولا أن داخله سينهار بعدئذٍ تحت وطأة حقيقة، أنّ مثل هذه العةائق لا يمكن تخطيها بدون عقاب. إنّ صابراً، بطل محفوظ، يُجابَه بدوره بظروف قاهرة، تضعه أمام الإختيار الوحيد المتبقي له. إنّ لديه " فكرته " أيضاً؛ بيْدَ أنها وعلى العكس من فكرة " قرينه "، الروسي، تحقق لها التشكل لا مع نفسه، بل مع عشيقته " كريمة "، زوجة صاحب النزل. كلاهما إذاً، راسكولنيكوف وصابر، يؤكد بطريقته الخاصة أهمية الإرادة الفردية، مقدماً مفهوم " التخطي " كرمز لكل شيء معيق لإختياره. إننا نلاحظ في هذا السياق، أنّ الفرصة سنحتْ لكلا البطليْن للخلاص والولادة من جديد، كإنسان، من خلال الإرتباط بإمرأة: ففي حين أن صابراً يتردد في علاقته مع " إلهام "، الموظفة في الصحيفة، التي تعرف عليها أثناء نشره إعلاناً عن والده المفقود؛ فإنّ راسكولنيكوف، من جهته، يخطو خطوة واحدة، إيجابية، حينما يعرضُ على الفتاة البريئة " سونيا " إعترافه بالجريمة، فينال حبها بالمقابل.
لا بد من التنويه هنا، بحقيقة أن النقد الأوروبي، بخصوص " الجريمة والعقاب "، قد دأب على إرجاع فكرة " البطل المتفوق " إلى فلسفة نيتشة، المفكر الألماني. فيما إهتم النقدُ الروسي، في هذا الشأن، بربط الفكرة مع سياقها وعصرها. ويعتبر إنجاز دستويفسكي الأبرز، بحسب باختين، ليس بكونه قدم معالجة إبداعية لفكرة البطل المتفوق وحسب، بل وكشفه لإمكانياتها الفنية أيضاً؛ وذلك بوضعها على حافة عدد من أشكال الوعي المختلفة، المتقاطعة حوارياً (7). بالنسبة لرواية " الطريق " ـ التي ظهرت بعد مرور قرن كامل على صدور قرينتها، الروسية ـ فإن مؤلفها محفوظاً قد عبّر فيها عن فكرة " البطل المتفوق "، ضمن ظروف تاريخية متغيرة. فعقد الستينات، من القرن المنصرم، إرتبط في مصر بالتحولات الإقتصادية والإجتماعية، المصاحبة لفترة الإنتقال لنوع من الرأسمالية المشوهة، إن صحّ التعبير. لقد كان من نتيجة هذا التحول المذكور، أنّ شرائح كبيرة من الطبقة الوسطى وجدت نفسها تنحدر إلى الهاوية، مما نجم عنه جنوح بعض أفرادها إلى الحلول الفردية؛ كالجريمة مثلاً.
المراجع:
1 ـ جابر عصفور، نقاد نجيب محفوظ / من كتاب " نجيب محفوظ: إبداع نصف قرن " لغالي شكري ـ بيروت 1989، ص 335
2 ـ المصدر نفسه، ص 167
3 ـ نفسه، ص 342
4 ـ روبرت شولز، البنيوية في الأدب / الترجمة العربية في دمشق 1985، ص 95
5 ـ جان إيف تادييه، النقد الأدبي في القرن العشرين / الترجمة العربية في حلب 1993، ص 33
6 ـ ميخائيل باختين، شعرية دستويفسكي / الترجمة العربية في بغداد 1986، ص 18
7 ـ المصدر نفسه، ص 129