الحلقة الرابعة من خبز المدينة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة /
حورية ليست مجرد دمية جميلة. انها امرأة لها حضور قوي ولها رأي ووجهة نظر. انها تحاول ان ترتفع بموقعها المتدني الى مرتبة اكبر. كانها تقول بانها ليست مجرد بضاعة رخيصة للبيع والشراء، وانها هنا في هذا البيت، ورفقة هذا الرجل، لانها تحبه.
وبحذر شديد حاولت وان تعود الى المعسكر ان تتسلل الى نادي الضباط، وان تعرف المزيد عن هذه المرأة ذات الشخصية الآسرة. اذ لايمكن ان يكون المارشال قد التقطها من حي البغايا، كما لا يمكن لاية اسرة، تنتمي لبيئة ليبية محافظة، ان تسمح لبنت من بناتها ان تنمو وتصير لها هذه الشخصية وهذاالكيان، حتى لو اجبرتها الظروف فيما بعد على الانحراف.
وقصة حورية كما عرفتها من خدم النادي بدأت منذ تسع سنوات، عندما ارسل الوالي دي بونو، جرافاته العملاقة تداهم مجموعة الاكواخ والزرائب الموجودة في شارع ماكينة بقلب طرابلس لتفسح مكانا لبناء اكبر كاتدرائية في البلاد، وكانت حورية وامها تسكنان كوخا من هذه الاكواخ، ورأفة بحالهما امر الوالي باحالتهما الى مقر سكن الممرضات بمستشفى كانيفا، حيث اشتغلت الام باعمال التنظيف، بينما انخرطت ابنتها في التدريب على اعمال التمريض مع السوريلات الايطاليات، وحدث في بداية عهد بالبو منذ عام ونصف مضى، ان دخل المستشفي للعلاج من جروح وكدمات حدثت له اثر هبوط اضطراري بطائرته في الارياف، والتقى اثناء اقامته في المستشفى بحورية التي كانت ضمن طاقم التمريض الخاص به، وقد نضجت انوثتها، واظهرت الاقامة المريحة في المستشفى ما اخفاه الفقر من مؤهلات الفتنة والجمال لديها، فاعجب بها، ولم يخرج من المستشفى الا وهي برفقته، حيث خصص لها منزلا قريبا من قصر الولاية، ورغم وجود زوجة له مقيمة في ايطاليا و تزوره كل فترة واخرى في طرابلس، وعشيقات كثيرات يزرنه من خارج البلاد، واخريات مقيمات في طرابلس، فان صديقته الدائمة، الثابتة التي تظهر معه في حفلات الرقص بالاندية الايطالية، والمناسبات العامة، هي حورية. ولكن لماذا، تقول بينك وبين نفسك، هذا الاهتمام بامراة لا تربطك بها اية رابطة، ولا مجال لاية علاقة، من أي نوع، يمكن ان تنشأ بينك وبينها؟ وما اهمية ان تعرف او لا تعرف قصة حياة امرأة قد لا تلتقي بها بعد اليوم ابدا؟ انك تحبها وتكرهها، تعجب بها وتحتقرها، فما فائدة ان تعيش مثل هذا الصراع، الذي لا طائل منه ولا جدوى، من اجلها؟ انك لا تستطيع فعلا ان تجد دافعا وضحا لهذا الاهتمام بها، فلعلك وقد فقدت ثريا، ولا تعرف في هذه المدينة امرأة غير حورية تتجه اليها بعواطفك المشنوقة. اردت من حيث لا تدري، ان تشغل نفسك بامرأة بعيدة المنال، لا يشكل التفكير فيها عبئا كبيرا على وجدانك، لانك حتى لو تعلقت بها، فلن يختلف ذلك عن تعلق متفرج السينما بصورة الممثلة التي يرى خيالها على الشاشة، اوصورتها على لوحة الاعلانات، ولعل التفكير في امرأة مثل حورية، يعينك، الى حد ما، على ان تنسى ثريا، او على الاقل تنقل الانشغال بها الى الانشغال بمنطق جذب انثوي اخرى، فلا تتعذب بالتفكير فيها واستحضا صورتها واستبقاءها تضغط على عقلك ووجدانك وانت على اعتاب مرحلة جديدة في حياتك، وسفر طويل لا تدري ان كنت ستعود منه او لا تعود ابدا. ولكن المناسبة، فرضت نفسها، وجاءت تدعوك بالحاح الى ان تذهب لرؤية ثريا. كنت قد نسيت خلال انشغالك بالمهمات الجديدة التي اسندت اليك مسألة البحث عن زوجها فتحي. وعما اذا كان واحدا من افراد المعسكر الذي يضمك ام لا، بل انت مازلت غير واثق من انك تستطيع حقا تمييزه لو رأيته يقف امامك، اذ لم يبق في الذاكرة من ذلك اللقاء العابر، الا ملامح باهتة لا تكاد تبين. والذي حدث، ان سلطات المعسكر، وقد تحدد نهائيا يوم السفر، وتحت الحاح المجندين الذين كتبوا عرائض الاسترحام يرجون تمكينهم من رؤية اهلهم قبل الذهاب الى الحرب، قد استجابت بشكل ماكر الى هذا الرجاء، وقررت بدل ان تسمح بخروج المجندين وذهابهم الى اهلهم، ان تسمح لعائلات هؤلاء المجندين بالمجي ء الى المعسكر لرؤية ابناءها، وبهذه الطريقة تضمن وجود المجندين تحت ايديها حتي يتم تسليمهم الى وحداتهم في الحبشة، فهي تعرف كراهية الليبيين لهذه الحرب ولا تأمن بعد خروج هؤلاء المجندين عودة أي واحد منهم الى المعسكر، مهما كانت العقوبات التي تهدد بها الهاربين، لان لهم كلهم اهل في هذه الصحارى التي يصعب فيها العثور على كل من يلجأ اليها. ودون صدور اعلان رسمي من آمر المعسكر، صار يتم اعلام المجندين بشكل شخصي، لكي لا يتكدس سكان المدينة كلهم في يوم واحد امام المعسكر. ورغم ذلك فقد بدأ الناس يتوافدون ويخلقون زحاما امام البوابة الرئيسة للمعسكر، ورأيتها انت مناسبة، ان تسدي هذا المعروف لثريا واسرتها، وان تبلغهم الخبر ليسرعوا بزيارة فتحي قبل ان يقرر الايطاليون قفل هذا الباب. وما ان حانت فرصة الخروج من المعسكر، حتى ذهبت الىالمدينة القديمة، والى زنقة بنت البي، تطرق باب ثريا التي جاءت بنفسها هذه المرة تفتح الباب.
لم تبد هذه المرة تحفظا كالذي ابدته في المرة السابقة ولم تر منها اصرارا على الاختباء خلف الباب او اخفاء وجهها عنك، بادرتك بالتحية وهي تذكر اسمك وتدعوك للدخول كأنك واحد من افراد الاسرة، وقبل ان تعرف سبب هذه الدعوة الغريبة للدخول، ابلغتك ان والدها الحاج المهدي موجود بالداخل. ادركت على الفور ان الرجل يعاني من وعكة صحية، والا ما كان ليبقى بعيدا عن دكانته في مثل هذه الساعة من ساعات الصباح. سألتها ان كان بخير وعافية، فلم تزد على ان قالت:
- الحمد لله، تفضل.
وسارت امامك تقودك الى غرفة والدها وتختفي. هل سينتهي لقاؤك بها عند هذا الحد؟ هل هذه الكلمات القليلة التي قالتها لك كل ما ستعود به من حصاد هذه الزيارة؟ كان الحاج مهدي النعال بمفرده في الغرفة التي تغطي الحصران كامل ارضيتها وتمدد هو فوق مرتبة قرب الجدار، وقد علقت فوق رأسه اطبقا مزخرفة ومزاود وفي الجدار المقابل اكثر من رف به بعض السلال الصغيرة الممصنوعة من سعف ملون، وبجواره قلة الماء وفي مكان ليس ببعيد عنه خابية زيت كبيرة، وهناك ستارة تخفي جزءا من الغرفة حيث سدة النوم. تحامل الرجل على نفسه وقام من رقاده حتى استطاع ان يجلس مستندا الى الحائط، ودعاك بصوت واهن للجلوس بجواره فوق الوسادة التي وضعها على الحصير. كان شديد الانهاك، ذابل الوجه، يبدو وكان عشرة اعوام اضافها الوهن الى عمره منذ آخر مرة رأيته فيها. وردا على لهفة استفسارك عن حالته وطبيعة المرض الذي اقعده عن الخروج الى الدكانة، قال لك:
-ـ وهل هناك مرض غير هؤلاء الطليان؟
-ـ وما الذي يريده الطليان من رجل مثلك؟
-ـ وهل يتركون احدا في حاله كبيرا او صغيرا؟
وصمت الشيخ وهنا واعياء، فشجعته على الافصاح عما حدث، قائلا:
-ـ هل حدث شيء للدكان؟
-ـ ليس الدكان ولكنها ارضي بتاجوراء.
- تلك التي تزرعها في موسم البطيخ، بعد ان يسيل الوادي.
- اصبحت تلك الارض، والحقول والمراعي التي تجاورها، ملكا للمستوطنين الجدد، احاطوها بالاسلاك ووضعوا عليها الحراس.
- ولكن هذا ظلم.
-ـ اخذوها بحجة اننا لا نقوم بزراعتها طول العام، وقالوا سندفع تعويضا وكله كذب وضحك على الناس. والله لو كنت اقوى على حربهم، لحاربتهم بمفردي، ولكن للعمر احكامه.
- هل رآك الطبيب.
- سقتني خالتك الحاجة شرابا من مخلوط الاعشاب، فيه الخيروالبركة.
-ـ استطيع ان اذهب الان لاحضار ممرض عربي اعرفه.
-ـ لا تتعب نفسك. فلا اشكو من أي مرض غير هذا الضيق الذي لا علاج له لدى الحكما ء، و لا احتاج لغير الراحة بضعة ايام حتى اتجاوز المحنة.
ومرت لحظة قبل ان يقول بصوت واهن ولهجة يملأها الأسى والقنوط:
- هذه الارض هي كل ما اذخرته لغدر الزمان.
انتهت كلمات المواساة واخبرته وعينك على الوقت، كيف ان السفر الى بلاد الاحباش بات وشيكا، وكيف ان قيادة المعسكر سمحت لعائلات المجندين بزيارتهم داخل المعسكر، وان بامكانهم زيارة صهرهم فتحي اذا ارادوا. ابتهج الشيخ المريض للخبر، فسيتيح له ذلك اخبار معرفة الصهر الغائب منذ اكثرمن ستة اشهر دون ان يتلقوا اية معلومات عنه. دعا الحاج ابنته وزوجته للتشاور معهما في كيفية ترتيب الزيارة، واتفقوا على الذهاب اليه في زيارة اولى غدا، والبحث عمن ينقل رسالة لاهله بتاجوراء، ليرافقوهم في زيارة ثانية اليه.
- ليتني استطيع الذهاب ولكن امر الله حال دون ذلك، والاعتماد عليك ياعثمان في مصاحبة العائلة الى المعسكر.
لم يكن صعبا ان تتدبر في اليوم التالي وقتا، وان تكتري من موقف العربات المرتصة امام السرايا، عربة حنطور، تدخل بها حتى باب بيت الحاج في زنقة بنت البي. وجدت ثريا ترتدي لحافا ابيض فوق ردائها المزركش، وبصحبتها اخيها الصبي في بذلته العربية، بينما تخلفت الام لانها لم تشأ ان تترك الشيخ المريض بمفرده في البيت.
راودتك افكار كثيرة وانت تجد نفسك جالسا بجوارها داخل العربة، وقد ادار مندوب العائلة التي يرافقها، ظهره لكما، جالسا بجورا الحوذي، وثريا متلفعة بردائها الابيض تنظر صامتة الى الطريق.
كان يجب ان تكون هذه المرأة لك، لانك عرفتها واحببتها قبل ان يأتي الرجل الاخر ويخطفها منك، ولذلك فانت لا ترى حرجا من السعي لاسترداد حق ضائع، حتى لو تجرأت في هذه اللحظة، وانتهزت فرصة المرور عبر زقاق معتم فارغ وعانقتها، واطبقت بفمك على فمها، فلن يكون ذلك خيانة لامانة اؤتمنت عليها، اوطعنة في شرف رفيق سلاح هو زوجها، وانما استرداد لحق اخذوه منك عسفا واغتصابا. انك لن تفعل ذلك، لانك لا تريد ان ترعبها، او تفعل معها شيئا ضد ارادتها، ولكنك لن تدع هذه الفرصة دون ان تفصح لها عما في قلبك، وترمي لها بكل الاسئلة التي ما تزال تحرق صدرك، لماذا تركتك، وتخلت عنك وهي تعرف على وجه اليقين انك تحبها؟ نعم، لقد اوضحت حبك لها، منذ ان شعرت بهذا الحب يخترق صدرك كسهم من نار، واشعرتك هي ايضا بانها تبادلك حبا بحب، فل كانت حقا تحبك؟ هل اخطأت في فهم اشاراتها، وقرأت ما قالته لك قراءة خاطئة، جعلتك تصتنع بانها تبادلك حبا بحب في حين انها ليست كذلك ولم يكن حبك لها الا حبا من طرف واحد.
سألتها هامسا بانك ترغب بتوجيه سؤال خاص اليها لوسمحت بذلك، وقبل ان تعرف اجابتها، قلت لها، وانت تضع فمك قريبا من اذنها، انك كنت دائما تحمل لها عاطفة متأججة لا تنطفي، وتفسح لها مكانا خاصا في قلبك منذ ان رأيتها لاول مرة، ولم يزد على ان قالت بانها تعتبرك الان شقيقا ثانيا لها. ليس هذا ما تريد ان تسمعه، ولذلك وصلت حديثك معها، الذي تحول الى مناجاة فردية، لانها لم تنبس بحرف واحد ردا عليك او تعليقا على ما تقول.
-ـ كان هناك امل واحد تمحورت عليه حياتي منذ ان عرفتك، هو ان افوز بك زوجة لي، هل تعرفين ذلك؟
-ـ hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;..
-ـ كنت على يقين من انك تبادلينني عاطفة بعاطفة، وحبا بحب، فهل تراني كنت واهما؟
-ـ hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;..
-ـ قد لا تعلمين انك انت من دفع بي الى الجندية.
-ـ hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;.
-ـ كنت قد هربت عند القبض على واقتيادي للعسكرية، ولم يكن بامكانهم الاهتداء الي، ولكنني وجدت ان حياتي لم يعد لها معنى بعد زواجك.
-ـ hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;..
-ـ فكرت في الانتحار، لكنني خفت من عقاب الله الذي اعتبر الانتحار شركا به، ووجدت ان البديل الوحيد للانتحار، هو ان القي بنفسي في معسكرات الطليان لاموت في حروبهم.
-ـ hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;..
-ـ هل عرفت الان، الى أي مدى كان حبي لك جارفا قويا، وكيف كانت الصدمة قاتلة؟
-ـ hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;..
-ـ انني هنا لا الومك، او اطلب منك اعتذارا او تفسيرا لزواجك، لانني اعرف ما يحدث في مثل هذه المناسبات. انني فقط احاول ان اقدم تفسيرا لموقفي، ولماذا ما زلت احبك حتى وانت على ذمة رجل آخر.
-ـ كل ما استطيع ان اقوله لك هو انني ساحارب هذا الهوى الذي يسكن روحي ووجداني باقصى ما استطيع من قوة عارفا انه سيهزمني ولن اهزمه.
وصلتم الى المعسكر، حيث كان الحراس الايطاليون يحاولون بجهد فائق تحويل الفوضى التي يصنعها الزائرون الى نظام، واعطاء ارقام للناس وفقا لاسبقية القدوم، والسماح بدخول الناس على دفعات صغيرة الى صالة الاستقبال، خمس واو ست عائلات في المرة الواحدة. تركت ثريا واخيها ينتظرانك ودخلت الى المعسكر للبحث عن وسيلة تنجيهما من عنث الانتظار الطويل في الشمس. لم تجد استجابة لدى الضابط الايطال المشرف على الزيارات لما اعتبره اختراقا للنظام، ولم يكن امامك سوى الحيلة، فاستنجدت باسم السنيورة حورية ورميت به في اذن الضابط، ظهرت على وجهه علامات الاهتمام والانتباه، فابلغته بان لديها قريبة تريد ان ترى زوجها. نجح الخداع وفتحت الكلمة السحرية باب المعسكر، فدخلت ثريا صحبة اخيها الى صالة الاستقبال، واجتهد مساعد الضابط في البحث عن اسم فتحي بين القائم حتى استطاع العثور عليه وتحديد فرقته وعنبره ورقمه، وكتب ورقة بهذه المعلومات ارسل بها جنديا الى الداخل.
وفي القاعة المخصصة للقاء المجندين باهلهم، كان المشهد عامرا باقوى الانفعالات والمشاعر، حيث يعقب اللقاء الحار الذي لا يدوم سوى بضع دقائق انفصال مؤلم موجع، وحيث تواجه العائلة حقيقة انه آخر لقاء مع هذا الابن الذي سيغادر البلاد الى حرب في بلاد بعيدة قد لا يعود منها ابدا. وكان اكثر هذه المشاهد ايلاما، الام التي ارتمت فوق صدر ابنها تعانقه وتبكي، وترفض ان تتركه عندما حان موعد انصرافها، مما اضطر جنود الحراسة الى انتزاعها القوة من حضن ابنها.
سألتك ثريا انتاء انتظار المقابلة كيف فاتك ان ترى فتحي وانتما تعيشان معا في معسكرواحد. اسعدك ان صوتها جاء صافيا نقيا بلا اية تلوينات توحي بغضبها منك نتيجة ما قلته له من كلام اثناء الرحلة الى المعسكر. اذن فهي لا تستنكر ما بحت لها به من اعترافات، بل لعلها، دون ان تفصح عن ذلك، ما زالت تحتفظ لك بعاطفة كالتي تحملها لها. نظرت في عينيها تبحث فيهما عن تأكيد لهذه الظنون، فلم تجد فيهما الا مايوحي بجمال الكون وبهاء الحقول. انك واثق الان من العاطفة التي شحنت قلبك بالاحلام الكبيرة، لم تولد من فراغ، وانما من عاطفة جياشة، حملتها لك هذه الانثى الشهية، الصغيرة، الجميلة، قبل ان تأتي الاعراف والتقاليد والصدف العمياء تختار لها زوجا غير الرجل الذي احبته، ويفرض عليها هذا الزواج ولاء والتزاما مناقضا لما يريده قلبها. هذا هو كل ما يهمك من حديثها الان، اما ان تعرف فتحي او لا تعرفه، فهو امر غير ذي بال، بل ليته كان حقا يعيش في معسكر آخر، اذن لاراحك من عناء رؤيته وايقاظ مش--ـاعر الحسد والغيرة التي تحملها له.
وجاء فتحي ليقف قريبا من مدخل الصالة، يبحث بعينيه عن زوجته وسط الزحام. لم يكن بامكانك ان تعرف انه هو يقينا، الا بعد ان رأيت ثريا تناديه وتتقدم خطوات باتجاهه. فانتحيت انت جانبا لتترك لهما فرصة الحديث بحرية، بل وجدت من الانسب ان تداري نفسك عن انظاره حتى تنتهي الزيارة، دون حاجة لان يعرف انك احضرت ثريا وشقيقها الى هنا، او يعلم بالعلاقة التي تربطك بعائلتها، وهذا ما سألت ثريا ايضا الا تقوله له، لانك لا تريد ان تتورط في اية علاقة معه، وطالما انه لا يعرفك، فليبق الامر على هذا الحال، لانه انفع لراحتك وهناء بالك. وقفت بعيدا تراقبه وهو يأتي مهرولا يضع يديه الاثنتين في يدي ثريا، ثم ينتبه الى وجود الصغير فيأخذه الى حضنه ويقبل جبينه، يضيء وجهه الابتسام، يبدو متميزا بين بقيةالمجندين الموجودين بنقاء بشرته وبياض اسنانه، وما يفيض به حضوره من حيوية ونشاط، فرحا بلقاء زوجته التي لم ينعم بالحياة معها سوى بضعة اسابيع. لم تكن ابدا تتصور انه على هذه الوسامة وهذا الالق الذي يشع من وجهه، وكأنه لم يعش تسعة اشهر تحت سياط وذل الاعتقال. لم تكن قد انتبهت الى وجوده بالمعسكر، ولو رأيته لما استطعت ان تعرفه، فقد غابت ذكرى اللقاء العابر به عندما رأيته ذات مرة في عتمة الدكان.
رأيت كيف ان ثريا، وفور انتهاء لقائها مع زوجها، انهمرت في بكاء طويل استمر معها حتى بعد مغادرة المعسكر. سألتها بعد ان توقفت عن البكاء، وانتما تجلسان في عربة الحنطور، عن الدافع وراء هذا البكاء الحارق الفاجع، وعما اذا كان بسبب رحيل فتحي الى الحبشة؟ انها تعرف ذلك منذ اليوم الاول الذي اخذوه فيه الى معسكر ابي مليانة؟ فما الجديد الذي استوجب هذا الشعور الفادح بالصدمة؟ اجابت وهي لا تزال تجفف عبراتها:
-ـ وهل هناك امرأة في الدنيا جديرة بالبكاء اكثر مني؟ انني ابكي الاب المريض والزوج الذاهب للحرب وكل هذا الحظ العاثر..
وتوقفت قليلا قبل ان تقول:
-ـ سمعتك تتكلم عن زواجنا الذي لم يحدث. هبه حدث. فما فائدة ذلك طالما انك ذاهب الى الحرب. انظر الى حالي الان، وزوجي الذي لا ادري ان كنت ساراه مرة أخرى او لا اراه. وتسألني بعد ذلك لماذا ابكي؟
عادت ثريا الى البكاء، وعدت انت الى الصمت.
ذهبت فور عودتك الى المعسكر للقاء صاحبك سالم، فوجدته يجلس بمفرده متكئا الى جذع شجرة سرو، واثار الدموع تبلل عينيه. سألته عما اذا كان احد المجندين او المشرفين اساء اليه، فهز رأسه بالنفي، وظل صامتا. واصلت الحاحك لتعرف ما الذي احال طبيعته الساخر، التي تميل الى المرح والدعابة، الى هذا البكاء، فتردد كثيرا قبل ان يعترف بضعفه، وشعور الاسى الذي انتباه وهو يرى المجندين من اهل المدينة والارياف القريبة يقابلون اهلهم ويودعونهم، في حين سيذهب هو الى حرب في بر الاحباش، قد لا يعود منها، دون ان يمنح فرصة ان يرى اهله كغيره من المجندين.
-ـ اليس هذا ظلما. الا يكفي ظلم التجنيد والاعتقال، ليضاف اليه ظلم حرماننا من ان نرى اهلنا قبل ان نذهب الى الموت.
-ـ لا تقل الموت يا اخي. فلماذا هذا الفأل القبيح.
تنبهت الى ان حاله وحالك يتشابهان، وانك ايضا لن تستطيع ان ترى احدا من اسرتك قبل الذهاب الى الحرب، غير انك لم تكن تولي الموضع الاهمية التي يوليها له سالم، والا لكنت فعلت شيئا من اجل ذلك. ربما فاتحت حورية في مثل هذا الموضوع، فيعطون القادمين من الارياف ادنا بزيارة اهلهم لمدى يومين اوثلاثة، لانه لن يكون متيسرا لعائلات بكاملها ان تأتي من المناطق النائية لزيارة ابن لها في المدينة، بسبب بعد الطريق وتكاليف الرحلة. ولكن الوقت تأخر الان للقيام بمثل هذه التدابير. طمأنت سالم بانك ستبحث عن طريقة لابلاغ اهلكما في "اولاد الشيخ" بامر رحيلكما القريب الى الحبشة، فقد يجدوا طريقة للحضور الى طرابلس، واذا لم يجدوا فيكفي انهم اخذوا علما بما يحدث لكما.
طبيعة العلاقة التي تربط سالم باهله، تختلف كثيرا عن طبيعة العلاقة التي تربطك انت باهلك بسبب ما حدث من فراق بين امك وابيك. انك لا تفتقد احدا ولا يفتقدك احد، حتى امك المريضة دائما، التي تسبق دموعها كلماتها كلما رأتك، تعودت على فراقك، كما تعودت انت على الحياة بعيدا عنها. الا ان مسالة السفر الى بر الاحباش، والمشاركة في حرب الادغال والهضاب هناك، والمصير المجهول الذي ينتظرك في بقاع تبعد عشرات الاف الاميال عن وطنك، تجعل الموقف يختلف عن غيره من رحلات سابقة تركت فيها القرية الى طرابلس، وتجعلك تنظر خلفك بحنين وحب لكل اولئك الاهل الذين تركتهم وراءك في اولاد الشيخ، صغارا وكبارا، والذين كنت تضيق بهم، وتكره الاقامة بينهم.
ومبكرا جدا في اليوم التالي، ذهبت الى زرائب سيدي خليفة، تبحث عن كوخ عبد المولى الشحاذ، لتلحق به قبل ان يستيقظ من نومه، ويبدأ جولة التسول اليومية. ولم تزد على ان قلت له، عندما وصلت الى كوخه، ان يبحث عن اول شاحنة مسافرة الى اولاد الشيخ، ويذهب ليبلغ عائلة سالم وعائلتك بانكما ستسافران بعد اسبوع الى الحبشة.
نفحته نقودا يتدبر بها امر السفر ذهابا وعودة، ونقودا اخرى يعطيها لبعض افراد عائلتك وعائلة سالم تعينهما على نفقات السفر الى المدينة لو شاءوا، ووعدته عند اكمال المهمة بتدبير مبلغ له، لانك استنفذت الان كل ما معك من مذخرات. اتجهت برفقته الى مركز المدينة وتركته يذهب الى وكالة الشوشان، وعدت انت مسرعا الى المعسكر لانه لم يكن اذن بالغياب لاكثر من ساعة واحدة، وما ان وصلت الى هناك، حتى وجدت بانتظارك بلاغا لدى حارس البوابة، يامرك بان تتجه فور عودتك، الى قيادة المعسكر. انقبض قلبك وانت تسمع الخبر. ما الذي يمكن لقيادة المعسكر ان تريده من مجند محلي، ضئيل القيمة والرتبة مثلك. لن يكون خيرا بطبيعة الحال. والارجح ان احد المجندين، وقعت في اذنه كلمة مما يدور بينك وبين سالم من كلمات ضد سلطات الاحتلال، ففرح بها واراد ان يستخدمها في التزلف للايطاليين وتحسين صورته في اعينهم، فوشى بك لقيادة المعسكر. والوسيلة الوحيدة للتأكد من ذلك قبل الذهاب الى مركز القيادة، هو البحث عن سالم، ومعرفة ما اذا كان قد تم استدعاءه وابلاغه بمثل هذه التهمة قبلك. ولكن الامر القادم من القيادة لا يعطيك مثل هذا الترف، ويريد منك، تقديم نفسك، للمنسق الاداري للقيادة فور وصولك للمعسكر. وبخطى بطيئة متثاقلة صعدت السلالم التي تقود الى باب المبنى، حيث قادك الحارس الى مكتب بالطابق الاول، وادخلك على ضابط ايطالي برتبة ملازم، وكانت دهشتك كبيرة وانت تجد الضابط الايطالي يستقبلك بوجه هادىء باسم لا يحمل أي معنى من معاني الغضب او التحقيق او العقاب، وابلغك بكلمات مقتضبة انك ستباشر منذ الغد دورة في قيادة السيارات، واعطاك ورقة تذهب بها الى قسم النقل والاليات. وهابطا السلالم صرت تفكر في معنى هذا التكليف. انه عمل لا يتولاه عادة الا الايطاليون، ولم يحدث ان عهدوا لاي واحد من الجنود اللييبيين مسئولية قيادة السيارات والاليات العسكري، ثم ان الموعد الذي تبقى على موعد السفر الى الحبشة لا يكفي لاعدادك وتأهيلك لمثل هذه المهمة الفنية الصعبة، التي لم ينس الضابط الذي اعطاك الورقة، ان يذكرك بما تحتاجه من مثابرة واجتهاد ومهارة، وبدا الامر غامضا وعصيا على الفهم، خاصة وانه جاء بشكل مفاجيء، لم يسبقه تمهيد، ولم يحدث ان فاتحك أي واحد من ضباط المعسكر في مثل هذا المضوع الذي لا تدري من امر به ولماذا، وعندما حاولت ان تعرف، قبل ذهابك في اليوم التالي الى قسم الاليات، لم تجد أي استعداد لسماع السؤال، فهو امر عسكري عليك تنفيذه دون نقاش.
كان ماريو الذي عهدوا اليه بتعليمك، شخصا مرحا، طويل القامة، فوق الاربعين بقليل، اسنانه كبيرة بيضاء كاسنان الحمار، وشفته العليا دقيقة مشدودة الى انفه، لا تكاد تفلح في الالتقاء باختها السفلى، ولهذا فهو يبدو لمن يراه كانه في حالة ابتسام دائم. كان يرتدي الملابس المدنية، لانه ليس عسكريا وانما فني سيارات مدني استعانت به ورشة المعسكر للاستفادى بخبرته، وعرفت منه ان هناك فنيين كثيرين مثله يعملون في معسكرات الجيش بصفاتهم المدنية، ويعمل في اوقات فراغه وايام العطلات سائقا لسيارة اجرة يحصل منها على دخل اضافي، والسبب كما يقول هي سنيورا فرانكا، زوجته التي ترهقه بطلباتها التي لا تنتهي، والتي ارغمته على التضحية بساعات الراحلة لكي يكفل لها المستوى المعيشي الذي يزيد على المستوى الطبيعي لامثاله من الفنيين وعندما رآك خائفا مترددا من هذه المهمة الجديدة، ربت علىظهرك مطمئنا قائلا لك بانه سيعلمك قيادة السيارة في يوم واحد فقط، ولكن لا تبح بذلك لاحد، فهم يعتبرونها مهمة تحتاج بحد ادنى الى اربعة او خمسة اسابيع، وهو يريد ان يستفيد من جهلهم هذا فيمطط المهمة لاطول وقت ممكن حتى يتيح لك ولنفسه الاستفادة من هذا الوقت في المرح واللعب ومعاكسة النساء، واضاف ضاحكا مؤكدا على هذه النقطة الاخيرة:
- للسيارة عند النساء مغماطيس خاص لا تقوى اية امرأة على مقاومته.
حلم النساء الازلي عن الفارس الذي يأتي فوق جواد ابيض، تحول الان الى هذا الفارس الذي يمتطي هذا الحصان المعدني اللامع الذي اسمه السيارة. هناك وسائل كثيرة استطيع ان احقق بها انتقامي من فرانكا، فلا تحزن من اجلي يا صديقي.
لم يستوقفك في هذه الثرثرة غير شيء واحد، هو الاسابيع الاربعة او الخمسة التي يعتبرونها حدا ادنى لمعرفة القيادة، باعتبار ان ذلك لا يستقيم ولا يتفق مع ما لديك من معلومات تقول بان موعد رحيلك الى الحبشة انت وبقية المتدربين، سيحين موعده بعد اسبوع واحد. ضحك ماريو عندما اخبرته بذلك، وقال باسلوبه السريع في الحديث المصحوب دائما بايمآت ايديه وتحريك رأسه وكتفيه، بل وجسمه كله في حالات الانفعال طربا او غضبا:
-ـ يمكنك ان تفرح، لانك لن تكون في الفوج الاول الذاهب الحرب، والا ما ادخولك الى مدرسة القيادة.
وبخطى سريعة اتجه الى سيارة جيب عسكرية وقفز في مقعدالسائق، وامرك ان تركب بجواره، حيث توجد عجلة قيادة، غير تلك التي امام السائق. حذرك ان تعبت بالعجلة او تلمس شيئا آخر من اجهزة السيارة بيدك او بقدمك، قبل ان تسمع الشرح الذي سقوله لك، ولا تفعل شيئا خاصا بقيادة السيارة الا بتوجيه منه.
- بمثل ما هذه البهيمة الحديدية وسيلة عبقرية للانتقال، فهي اداة بارعة للقتل. لا تنس ذلك ابدا. تستطيع لو اسأت استخدامها ان تقتل بها نفسك، او تقتل بها الاخرين، وانت والاخرين معا. حصل هذا مع كثيرين، استطاعت منذ بدء اختراعها ان تنافس اعتى الحروب واقبح الاوبئة في ابادة البشر. فاحذر وانتبه. انك اول عربي اقوم بتعليمه، فارجوك ثم ارجوك الا تخيب ظني بالعرب.
وقبل ان تتمكن من قول أي شيء، كان قد انطلق بالسيارة خارج المعسكر، وعبر طريقا معبدا يشق الغابة باتجاه مركز المدينة.
-ـ ما ينطبق على قيادة سيارة الجيب، ينطبق على اية سيارة اخرى. اذا تعلمت كيف تقود هذه السيارة، تعلمت قيادة كل السيارات، بما في ذلك سيارات الشحن العملاقة.
اندفع يقود السيارة بسرعة اكبر:
- اريدك ان تشعر بالحرية التي تمنحها لك السيارة. فهي تمنحك جناحين تنتقل بهما لاي مكان تريد. استطيع ان اطوف بك طرابلس كلها، من قلعة قرقارش الى عين زاره، وانقلك الى باب تاجوراء، والملاحة، عائدا بك الى شارع الملك فيتوريو ايمانويل الثاني في مركز المدينة. لن يستغرق ذلك كله غير ساعة واحدة. شكرا للمارشال بالبو، الذي كسى هذه الطرق بالاسفلت في وقت قياسي.
- متى نيدأ الدرس.
- لقد بدأنا سنيور عثمان. ما نفعله الان هو الدرس. راقب جيدا ما افعله. اريد ان اجري تعارفا بينك وبين السيارة. اريدك ان تحس بها لتستطيع هي ايضا ان تحس بك. هذا ما احاول ان افعله الان. انك لا تركب المرأة قبل ان يحصل تواصل وتعارف بينكما وهكذا السيارة، لابد ان تعرفها وتحس بها لتستمتع بركوبها. السيارة سنيور عثمان تريد الرجل الذي يحبها لكي تمنح له نفسها بيسر وسهولة، وتمضي معه بلا مشاكل ولا مضايقات. هذه هي لحظة تقديمك اليها وتقديمها لك، فاصبر قليلا على ما اقول، وخذ هذه القطعة من البسكويت.
- شكرا.
- مشروع بالبو العظيم هو " الليتراثوريا " طريق طرابلس بنغازي. لقد بدأ الاعداد له. وسيكون انجازا عالميا. انتيرناسينالي. جراندي. مولتو، مولتو جراندي.
ليته يتوقف عن الكلام قليلا ليتيح لك فرصة ان تسأله عما يعرف عن ترتيبات رفاقه الايطاليين لحملة الحبشة. انها اول مرة تعرف فيها ان ذهابكم سيكون على افواج، وهو ما يضع حلا للمشكلة التي كانت سببا في غضب الشاويش عنتر واستغرابه لاخذ المستجدين الذين لم يكملوا تدريبهم الاساسي، لان معنى ذلك، هو انهم سيجدون وقتا لاتمام هذا التدريب.
- الان راقبني جيدا وانا اهدىء السرعة، ساضع قدمي على الفرامل، ويدي على صندوق التروس، دون ان احيد ببصري على الطريق hellip;
كانت هناك مفاجأة بانتظارك عندما عدت الى المعسكر، بعد انتهاء الدرس، فقد تم ابلاغ المجندين اثاء ساعات التدريب، بان الذهاب الى الحبشة قد تم تم ارجاؤه الى اجل سيحدد فيما بعد. سرت اشاعات في البداية، بان السبب هو بعض التعقيدات التي تواجه الحملة الحبشية ومن بينها نجاح الامبراطور الحبشي هيلا سلاسي بمساعدة بريطانيا على استنفار الرأي العام العالمي وتهديد عصبة الامم لايطاليا بالمقاطعة الاقتصادية العاليمة لها لو قامت بغزو الحبشة، ثم سرعان ما اتضح ان التأجيل حدث لاسباب ليبية داخلية محضه، وهو ان حركة جهادية ظهرت في الجبل الاخضر، تقتفي خطى عمر المختار، هي التي افزعت الايطاليين الذين يخشون اتساعها ولذلك ابقوا على القوات الليبية المزمع ارسالها الى الحبشة، بهدف استخدامها في سحق المقاومة الشعبية اذا دعا الامر. هذا ما عرفتموه من ضباط ايطاليين بطريقة غير رسمية، وما اكده عدد من الناس الذين جاءوا من خارج المعسكر لزيارة ابنائهم، وهمسوا لهم بما يدور من كلام عن ظهور المقاومة من جديد في شرق االبلاد. واحدث هذا التحول في مجرى الاحداث، حالة من الغضب والغليان داخل المعسكر ِ، لدى هولاء المجندين الذين وجدوا انفسهم فجأة ينتقلون من خط المواجهة مع الاحباش الى احتمال الوقوف على خط النار في حرب ضد مجاهدي بلادهم.
لم يكن هناك حديث آخر بين المجندين غير هذا الحديث، يتذاكرونه همسا وقد يرتفع الهمس، الى ان يصبح لدى البعض تدمرا مسموعا، ينذر باوخم العواقب، وقد تبدى هذا النوع من الاندفاع والتهور في ابلغ درجاته، عندما التقيت قبل صلاة المغرب بصاحبك سالم، الذي رأيته يأتي الى مكان اللقاء غاضبا، وقد اصطحب معه زميلا له، شديد التوتر والعصبية، يتحدث لا بصوته فقط ولكن بيديه وعضلات وجهه، وقبل ان يجد سالم فرصة لتقديمه لك بدأ يطلق كلماته كاطلاقات الرصاص:
- اجبرونا على دخول الجندية لنحارب اناسا لا نعرفهم، في بلاد لا نعرفها، من اجل قضية لا تخصنا، فرضينا بالظلم، وامتثلنا لامر الاسياد وصبرنا على هذا البلاء باعتباره حكم القوي على الضعيف. ولكن ان نقاد صاغرين الى خوض حرب ضد اهلنا، واطلاق النار على المجاهدين المدافعين عن تراب ارضنا، او نقتل على ايديهم كافرين آثمين، فهذا ما لن يحدث ابدا. وسيحدث العكس بدلا من ذلك، ستكون صدور الايطاليين هي الهدف لرصاص بنادقنا، ومرحبا بالموت بعد ذلك.
كان يتكلم بصوت كأنه الصراخ، وقد احتقنت الدماء في وجهه حتى تحولت سمرته الى سواد. سألته بحزم ان يصمت. كنت تدير بصرك شمالا ويمينا وتلتفت احيانا الى الخلف، وانت في حالة رعب من ان يكون احد الناس قد سمع الكلام الذي سمعته من هذا المجند. انك لا تدري ما الذى دعا سالم لان يصطحب معه هذا الفتى الاحمق، وهو يعرف عصبيته وثورته التي تجلب المهالك. وهو اذا كان يريد الهلاك لنفسه فلما ذا يقحمك سالم ويقحم نفسه في مثل هذا الامر. ثم ما الذي تراه يريده منك، وباية صفة يقول لك هذا الكلام، سواء كان هذا الكلام صحيحا اوغير صحيح، وسواء اراد تطبيق ما يقوله او لا يريد، فالامر يقتضي ان يعالج امره بالكتمان، لا بهذا الاسلوب المكشوف الذي سيجعله بالتالي مكشوفا امام الايطاليين ولن يجلب له الا الكوارث. تدخل سالم قائلا:
-ـ اذا كان الاخرون قد اجبروا على التجنيد، فانت الوحيد في هذا المعسكر الذي جاءهم متطوعا.
-ـ هل هو تعزير؟
-ـ لا ولكنه توضيح، فانت لم تتطوع لتحارب اهلك.
- طبعا لا.
- اذن فانت اولى الناس بالاعتراض.
- مازال الموضوع مجرد شائعات.
- كلنا نعرف انها اخبار صحيحة.
- هل لديك اقتراح محدد.
- نعم. يجب ان يعرف الايطاليون انهم لن يستطيعوا الاعتماد على المجندين الليبيين في هذه الحرب، لانهم ببساطة سينقلبون ضدهم في لميدان.
- وهل تعتقد انهم سيعجزون عن الاهتداء الى وسيلة يمنعون بها حدوث شيء كهذا وهم يعرفون حقيقة مشاعر الليبيين.
وصاح الفتى الاخر الذي تحول الى كتلة اعصاب مشتعلة:
- انني لااطيق البقاء في هذا المعسكر. يجب ان نهرب، ربما نجد فرصة للالتحاق بالمجاهدين.
افهمته ان الهروب ليس سهلا، وان احتمال الموت اثناء الفرار اقرب كثيرا الى احتمال النجاة، ومع ذلك اصر على موقفه، الذي وجد تأييدا من سالم. وكنت تريد ان تقول لهما، ردا على عنادهما، بان السور موجود امامهمها وما عليهما الا الا تجاه اليه منذ الان، وتدبير طريقة للقفز منه والهروب اذا استطاعا الى ذلك سبيلا، ولكنك اثرت الاسلوب الهاديء الذي يتحرى مصلحة هذه الزميلين فطالبتهما بالانتظار قائلا ان كل هذا الكلام سابق لاوانه، وان زمن الحرب بين الايطاليين والليبيين قد انتهى بعد ان ساد التفاهم بين الجانبين، وعرفت البلاد شيئا من الاستقرار والسلام، واختفت المجاعات والاوبئة التي رافقت الحروب، وان اية حركة تظهر الان، لن تكون غير حركة يائسة معزولة، لن تدوم لغير ايام معدودة قبل ان تنطفىء وتموت. قلت هذا الكلام لتبطل مفعول ما قاله سالم وصاحبه الارعن، في حالة وجود احد يتصنت ولا ترونه، او وجود الة لالتقاط الكلام ونقله للايطاليين، الا انه لم يزد صاحبيك الا تشنجا وعصبية، فانطلقت منهما الكلمات الطائشة التي تهدد بقتل الايطاليين و تنفي ما قلته من كلام عن التفاهم والسلام الذي يسود بينهم وبين الليبيين، لانه لا وجود الا للحقد والكراهية وانتظار يوم الانتقام، مما دفعك لان تتركهما وتعود مسرعا الى العنبر، خاصة بعد ان لمحت جنديا يمشي متمهلا بين الاشجار القريبة. بقيت الى ساعة تأخرة من الليل، تتقلب في سريرك، لا يواتيك النوم، خوف ان يكون ذلك الجندي عينا من عيون الاجهزة الامنية، يتصنت على الاخرين وينقل كلامهم لرؤسائه. ووجدت سؤالا يولد من حالة الارق، ويتشكل وسط الظلام الذي يحيط بك، وهو ماذا سيكون مقوفك لو ساقوك مع الاخرين لمحاربة المجاهدين. لن يكون هذا التدبير جديدا على جيش الاحتلال الايطالي، فتاريخ الحرب الايطالية الليبية، التي انتهت بشنق عمر المختار، تقول بان الايطاليين خاضوا معاركهم ضد المجاهدين، بجيش من المرتزقة الليبيين، الذين التحقوا بصفوفهم بدافع العوز والفاقه، وبحثا عن رغيف لا يجدونه الا عن هذا الطريق المؤلم المهين. انك لا تريد ان تسلك هذا الطريق، ولا ان تأكل رغيفا مغموسا بدم اهلك، وتدعو الله في صلاتك الا يصل الامر الى حد استخدامكم في الحرب ضد انفسكم. انك على يقين من ان النقمة ضد الايطاليين ستصل حدها الاقصى في قلوب هؤلاء المجندين، ولن يكون غريبا ان يفعلوا ما فعله الزعيم رمضان السويحلي وجنوده في معركة القرضابية، عندما ساروا لملاقاة المجاهدين مع الجيش الايطالي، ثم عندما بدأت المعارك اتجهوا ببنادقهم الى صدور رؤسائهم وزملائهم الايطاليين. وطبعا لن ينتهي الامر عند هذا الحد، لان الطليان سيباشرون انتقامهم العظيم ضد الليبيين، كما فعلوا اثر تلك المعركة منذ عشرين عاما مضت. سيتفجر الصراع، شرسا عنيفا مرة اخرى. سيكون حريقا يكبر وينتشر حتى يعم كل المناطق، وستنتهي حالة الاستقرار التي تعيشها البلاد الآن. هذا ما يجب ان يعرفه الايطاليون ايضا. يجب ان يعرفوا حجم النقمة التي صارت تملأ قلوب جنودهم الليبيين منذ الان، لمجرد التفكير، في استخدامهم لإخماد حركة التمرد في الجبل الاخضر.
الاخبار تتواتر عن مجابهات بين المجاهدين وسلطات الاحتلال هناك، وعن اعلان حالة الطوارىء ومنع التجول في قرى الجبل. الاحساس بالغضب يتنامى داخل المعسكر ويتحول الى غليان. الى تمرد ورفض للأوامر ومجاهرة بكراهية الايطاليين. كثرت حالات التأديب والتذنيب.
كنت قد ابتعدت اياما عن عملك القديم في جلد المذنبين، نتاظرا ان يتم اعفاؤك نهائيا من اداء هذه المهمة الثقيلة، وكان الشاويش عنتر قد اختار تابعا يحل محلك في القيام بهذا العمل. ولكن كثرة حالات التمرد، اقتضت الاستعانة بك مؤقتا في جلد هؤلاء المتمردين. المهمة الان اكثر صعوبة من أي وقت مضى. كنت تقوم بها في اطار المفهوم الذي يعتبرها جزءا من عملية تربوية تقتضيها اصول التدريب العسكري، اما الان،، والمشاعر في غليانها بسبب ما يجري في شرق البلاد، فان الجلد يصبح جزءا من قمع هذا الشعور الوطني الذي يمور في قلوب المجندين. انك لا تستطيع ان ترفض مهمة انت الذي سعى اليها، ونجحت في نقلك درجة في سلم الصعود، ووضعتك في مكانة اعلى من بقية المجندين، ولا تقوى الان على هدم كل ما بنيته، بان تحاول الهروب من ادائها او التهاون فيها. انك ستذهب لتنفيذ الامر الذي صدر اليك ولكن بقلب اكثر وجعا وانكسارا هذه المرة. فانت تعرف تمام المعرفة، بانك اصبحت اكثر غربة وعزلة داخل المعسكر حال ان عدت لممارسة هذه المهمة. الجنود الليبيون يصنفونك مع الايطاليين، وباعتبارك لست ايطاليا فانت في نظرهم كلب الايطاليين، ولعل هناك من اعطاك كنية تحمل هذه الصفة، لانك سمعت احدهم يقول كلب الحطية، ويختفي دون ان تتعرف عليه، فادركت انه يعنيك لان الحطية بلغة بعض المناطق الريفية هي الغابة التي تقضي بها بعض ساعات الفراغ. وهم يحملون لك حقدا واحتقارا يزيد على ذلك الذي يحملونه للايطاليين، مع ان الايطاليين لا يدركون معنى هذه التضحية او يرونك واحدا منهم، ومهما كنت قريبا من موقفهم، متفانيا في خدمتهم، فستبقى دائما "الاراباتشو" الذي يقل بدرجة صغيرة واحدة عن مرتبة البشر.
وهكذا، تجد نفسك، وربما دون قصد منك، وحيدا ومنفصلا، مقيما في تلك المنطقة التي تجف فيها الموارد الروحية، وتتضاءل فيها مادتي الوداد والدفء الانساني، وسط بيئة هذا المعسكر التي تقوم العلاقات فيها على المثلث الهمجي، القمع والكراهية والاحتقار، هذه العناصر الثلاثة التي لابد ان تتوفر بكميات متساوية، لضمان التوازن وتأكيد العلاقة الاضطرادية بنيهم، فكلما تنامى عنصر تبعه العنصران المتبقيات بالاضطراد والتنامي، فزيادة القمع لا تولد الا مزيدا من الكراهية والاحتقار، وهكذا صار المعسكر الان يشهد احدى لحظات الذروة، في لعبة التوازنات والتنامي والاضطراد لهذه العناصر. انت هنا تستقطب مشاعر العداء التي تزيد من تأكيد وحدتك وانفصالك، وكأنهما حصتك من العقاب الذي لا يجب ان ينجو منه كل انسان يقطن هذا المعسكر. انه عقاب ينسجم مع تكوينك، ولا يتعارض تعارضا كاملا مع رغبتك. انه حتى وان بدا وضعا مفروضا عليك، فانك لا تستطيع ان تقول انك لم تلاقيه في منتصف الطريق. لقد كنت دائما وحيدا، حتى وانت تعيش بين اهلك في اولاد الشيخ. لم تكن ابدا تشعر انك جزء من العائلة الكبيرة التي يرى اهل القرية انهم ينتمون اليها، بل لم يكن هذا الشعور يخامرك حتى زاء عائلتك الصغيرة، تلك المقسومة الى نصفين، وانت وحدك بقيت مقيما في تلك المنطقة التي تفصل بين القسمين، تقف هناك وحيدا، منفردا، متحدا بنفسك، منفصلا عن بقية العائلة. وعندما تركت القرية لاول مرة تطاردك لعنات اهلها، مختبئا بين اشولة الفحم، في سيارة شحن، كان ذلك تعبيرا عن حقيقة علاقتك بالاهل، وواقع حياتك في القرية، الذي كنت نافرا منه، متطلعا على الدوام، الى يوم الانفكاك منه، ولم يخطى ء من اسماك المعزة السوداء المنفصلة عن بقية القطيع، فقد كان شكلك وانت ترفع جسمك من بين اشولة الفحم لحظة مغادرة القرية يتطابق تماما مع هذا التوصيف الدقيق.
ما تشعر به الان، انك هنا ايضا، تقف في تلك المنطقة الحدودية العازلة بين الايطاليين والليبيين، ولا احد بجوارك، غير استاذك الذي جعلته قدوتك في الحياة العسكرية، الشاويش عنتر، ولكنه رفيق لا امان له، فلا تعجب ان رأيته يمضي ويتركك وحيدا، وهذا هو بالضبط ما فعله، فقد امتنع نهائيا عن تطبيق العقوبات على المجندين بنفسه، لكي يتحاشى نقمتهم، وزاد على ذلك بان جاهر امامهم، بنفوره من فكرة الذهاب لمحاربة المجاهدين في الجبل الاخصر، قائلا بلهجته البدوية:
-ـ انهم يحتمون هناك بواحد من اصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيدي رافع، فياويل الواحد منا اذا اقترب منهم، سينال عذاب الدنيا والاخرة، اجارنا الله.
ماذا لو كانوا يجاهدون بعيدا عن ضريح الصحابي الجليل، لاشك ان الشاويش عنتر سيكون اكثر استعدادا لتنفيذ اوامر الايطاليين بقتل المجاهدين، وهو سينفذها طبعا حتى لو احتمى هؤلاء المجاهدون بالكعبة نفسها، ولكنه مجرد كلام لتفادي نقمة الليبيين، ومع ذلك فقد اكبرت موقفه هذا، فلابد انها اول مرة في حياته يقول فيها كلاما لغير صالح الطليان، ويقوله وسط عنبر فيه عيون كثيرة ترى واذان كثيرة تسمع والسنة يمكن ان تنقل ما يقول.
كنت تستطيع ان ترى نظرات الاحتقار التي يشيعك به المجندون، خاصة بعد ان تنتهي من اداء مهمتك في جلد واحد من المتمردين على الاوامر العسكرية، ودون ان تستطيع فعل شيء ازاءها. وحدث وانت خارج من قاعة الطعام، ان وجدت مجندا لا تعرفه يعبر عن احتقاره لك باكثر من مجرد النظر، اذ تقدم منك والقى كلمة نابية مصحوبة بكنية " كلب الحطية"، واعقبها ببصقة القى بها على وجهك، فمسحت بطرف كمك اللعاب من فوق وجهك، دون ان ترد عليه، لانك لم تشأ ان تخلق مشهدا يجتذب الزحام وتصنع تظاهرة لن تكون في صفك، بل ربما، هللت وكبرت تمجيدا لهذا الجربوع الذي بصق عليك. لم تفكر حتى بتقديم بلاغ ضده الى سلطات المعسكر كي تنزل به العقاب الذي يستحقه والذي قد يقتضي تعفير جسمه بجلدات من سوطك، لن تتردد في ان تجعل كل جلدة منها، رحلة الى جحيم الالم والعذاب. تركته يمشي ومشيت وراءه، حتى بلغ منطقة معزولة من المعسكر، حيث لا احد يراكما، وسحبته فجأة من ذراعه، لاويا الذراع بكل ما لديك من قوة. وضعت وجهه بمواجهة الجدار، وبعنف وغيظ، امسكت بفروة رأسه، وضربت به الجدار مرة اولى وثانية وثالثة حتى صار الدم يشخب من جبينه. اخذته الى المستوصف بحجة انه سقط اثناء الهرولة، وصدم رأسه بحرف الرصيف، وافهمته وانت تسحبه من ذراعه الى هناك، بانك لا تقل عنه حبا لوطنك، وانك لا تجلد الناس بمزاجك، وانما استجابة لاوامر عسكرية لو خالفتها لجلبت الهلاك لنفسك، واننا جميع نعيش تحت شروط لم نصنعها، ولم تكن لنا يد في اختيارها، وواجبنا ان نفهم بعضنا بعضا ونقدر ظروف كل واحد منا، اذ يكفي ما يفعله الايطاليون بنا، فلا حاجة لان نضيف الى ذلك اوجاعا نصنعها بانفسنا لانفسنا. ثم تركته لدى ممرض المستوصف وانصرفت.
لم تذهب اليوم للقائك اليومي مع سالم، خوف ان ياتي بصاحبه الذي جاء به بالامس، او بصاحب آخر اكثر بؤسا منه، اذ لم تكن في حالة ن-ف-ـسية تسمح بسماع مزيد من التعزير منه او من صاحبه.
ذهبت لتنام مبكرا، وصحوت لاخذ درسك اليومي في قيادة السيارة، وفي ذهنك شيء قررت القيام به ولو ادى الى وضعك موضع الشبهات لدى رؤسائك، مدعيا انك تقول ذلك بدافع الحرص على سلامة العلاقة بين الايطاليين والليبيين. ورغم تهريج ماريو، وبحثه عن المغامرات النسائية نكاية بامرأته فرانكا وانتقاما منها، واعترافه لك بانه يصاحب اكثر من امرأة من بائعات الهوى، اللاتي يأخذهن الى منطقة آمنة داخل الغابة، اثناء النهار، وانه لا مانع ان تكون شريكه في مغامرة اليوم، شرط ان تدفع حصتك من التكاليف، الا انك افهمته بانك ستكتفي باخذ درسك فقط، دون مغامرات نسائية في الغابة، لان لديك مهمة بعد الدرس، مكلف بادائها، دون ان تدخل معه في حوار حول التزامك الديني الذي يمنعك من ارتكاب هذه المحرمات. ولم تعبأ بثرثرته عندما صار يزين لك مغامرة اليوم، ومتعة ممارسة الحب وسط الغابة، وما يعنيه ذلك من انسجام وتواصل مع الطبيعة، ثم قفز الى موضوع آخر عندما قال:
- لماذا انتم هكذا ايها العرب، لماذا بحق الجحيم؟
- ماذا تعني؟
- هذا الحجر على النساء وحبسهن بين حيطان البيوت، لماذا؟ ما هو السبب؟ اية لعنة جلبتموها لانفسكم رجالا ونساء، واية نعمة حرمتم انفسكم منها ايها الرجال، عندما صنعتم لانفسكم عالما خاليا من النساء.
كان هذا الموضوع مفاجأة مذهلة لي عندما جئت الى بلادكم لاول مرة منذ عامين. لم اكن اعتقد ان هناك مكانا في الدنيا مثل هذا. مجتمع خاص بالنساء خلف الجدران، ومجتمع آخر للرجال. هذا ضد الطبيعة، ضد الحياة، ضد الله.
ضحكت من كلامه لان ما يراه غريبا هو الامر الطبيعي، الذي يأمر به الدين وتقتضيه القيم والاصول والاخلاق، فالعيب ليس في صون الحرمات، وتجنيب المرأة متاعب العمل ومشاكل الاختلاط بالرجال في المكاتب