ثقافات

مسرحية هارولد بنتر: منظر طبيعي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

مسرحية قصيرة في فصل واحد(*)

تأليف: هارولد بنتر

منظر طبيعي: دراما الذاكرة الشعرية

اقرأ ايضا: مسرحية هارولد بنتر: أمسية

ترجمة وتعليق: علي كامل


الشخصيات:
ـ بـيث: (الزوجة) إمرأة في أواخر الأربعينات من عمرها.
ـ داف:(الزوج) رجل في أواخر الخمسينات من عمره.

المكان:
مطبخ في منزل ريفي. طاولة طعام طويلة.
بـيث تجلس على كرسي ذو ذراعين في الزاوية اليسرى من الطاولة.
داف يجلس على كرسي عادي في الزاوية اليمنى من تلك الطاولة.
الخلفية تتكون من مغسلة وموقد ..الخ. ونافذة معتمة.

الوقت: مساء

(ملاحظة): داف يتحدث مع بـيث بشكل عادي لكن لا يبدو عليه أنه يسمع صوتها. بـيث لاتنظر نحو داف مطلقاً، ولا يبدو عليها أنها تسمع صوته. الشخصيتان تجلسان بإسترخاء دون أي إحساس بالقساوة أو الصرامة.


بـيث:آه كم أحب الوقوف قرب البحر.
(وقفة)
كثيراً ما كنت أذهب إلى البحر، لأن ثمة شيء ما كان يشدني إليه.
نعم، لقد ذهبت إلى هناك مرات ومرات ومرات.
(وقفة)
سأقف عند الشاطىء فالهواء منعش هناك، دافىء وسط تلال الرمل تلك، عذب، عذب جداً هواء الشاطىء. آه كم أحببته.
(وقفة)
كان هناك جمع كبير من الناس...
(وقفة)
وهم يندفعون نحو البحر. جمع من الرجال وهم يتجهون نحو شاطىء البحر.
(وقفة)
حين نهضت لأتمشى على الشاطىء كان هو ينام وسط الرمل.
و لكنني حالما إستدرت أدار جسده وتطلع نحوي.. آه، كم كان جميلاً ولذيذاً وهو يغفو. جفونه. سُرّته...
(وقفة)
هل تحبّ الأطفال؟.. قلتُ. هل تحب أن أنجب لك طفلاً؟ هه؟
(وقفة)
إستدارت إمرأتان وتطلعتا نحوي.
(وقفة)
طفلنا؟ قلت، هل تحب أن...؟
(وقفة)
إستدارت المرأتان ثانية وظلتا تتطلعان نحوي. كلا، كلا. أنا التي إستدرت. لقد كانتا واقفتان وأنا أمشي.
(وقفة)
لماذا تنظران إليّ؟
(وقفة )
لا، لا، لم أقل ذلك، كنت فقط أنظر نحوهن.
(وقفة)
أنا جميلة.
(وقفة)
عدتُ ثانية بإتجاه تل الرمل وكان هو مستديراً نحو الجهة الأخرى.
أصابع قدميه كانت مدفونة في الرمل ورأسه كان بين ذراعيه.
داف:هرب الكلب، ولم أخبرك بذلك.
(وقفة)
إحتميت أمس تحت شجرة لعشرين دقيقة بسبب المطر.. مع جمع من الشبان.. وكنت أريد أن أخبرك بذلك.
(وقفة)
لم أكن أعرفهم من قبل.
(وقفة)
وبعد أن خفتّ زخات المطر إتجهتُ نحو البحيرة. فجأة، شعرت بقطرتين كبيرتين تسقطان على طرف أنفي.
من حسن الحظ أنني كنت على بعد ياردات من السقيفة. هناك جلست.. وكنت أريد أن أخبرك بذلك.
(وقفة)
هل تتذكرين كيف كان الطقس أمس؟ مارأيك بهطول المطر؟

بـيث:لقد شعر بظلي. رفع عينيه إلى الأعلى وتطلعّ إليّ وأنا واقفة فوقه.
داف:كان عليّ أن أجلب قليلاً من الخبز لأطعام الطيور.
بـيث: الرمال فوق ذراعيه.
داف:لقد صاروا يتقافزون حين رأوني وأثاروا ضجة...
بـيث:إستلقيتُ قربه دون أن ألمسه.
داف:لم يكن أحد في السقيفة. كان هناك رجل وإمرأة يجلسان تحت الأشجار في الجانب الآخر من البحيرة. بقيت جالساً في مكاني لأنني لم أكن أحب أن تبتل ثيابي.
(وقفة)
آه، نسيتُ أن أخبرك أن الكلب كان معي.
(وقفة)
بـيث:هل كانتا تعرفاني؟
أنا لا أتذكر وجهيهما ولم أرهما من قبل. إنني لا أعرفهما.
لماذا إذاً كانتا تنظران إليّ؟
لم يكن ثمة شيء يثير الدهشة أو الأستغراب فيّ. لم يكن هناك شيء غريب في هيئتي. كنتُ.. كنتُ مثل الأخريات.
داف: لم يمانع الكلب بالطبع من أن أطعم الطيور. على أية حال، ما أن دخلنا الـسقيفة حتى غفا. لكنه حتى لو كان مستيقظاً لـ...
(وقفة)
بـيث:حين أخرج من عربة أو باب أو أهبط درجات سّلم كان الجميع يمسك ذراعي برفق وخفة.. الجميع دون إستثناء.
حين كانوا يتحسسون عنقي من الخلف أو يلامسون يدي كانوا يفعلون ذلك بنعومة ورّقة. جميعهم دون إستثناء... بإستثناء...
داف:أتذكرين كيف كان المكان مليء بالبراز على طول الممرات وقرب البحيرة. براز كلاب وذروق بّط وو... لقد كانت هناك كل أنواع البراز... وعلى طول الممرات.
لم يستطع ماء المطر إزالة آثاره أو رائحته، بل العكس، فقد جعل صورته مّضلِلة أكثر.
(وقفة)
لم أستطع إطعام البط فقد كانوا بعيدين يحّطون هناك فوق جزيرتهم وسط البحيرة. لم أستطع سوى إطعام العصافير.
بـيث:بإمكاني الوقوف هناك الآن. بوسعي أن أكون مثلما كنت من قبل. أرتدي ثيابي بشكل مغاير، فأنا مازلت جميلة.
(صمت)
داف: ينبغي عليكِ أن تأتي معي ذات يوم لنذهب إلى تلك البحيرة.. ومعك بعض الخبز. لا شيء يمكنه أن يمنعك من ذلك. نعم.
(وقفة)
بـيث: حينما ذهبت لأسقي الزهور نهض وصار يتطلع إليّ يرقبني كيف أرتبّ تلك الزهور. إنها قوة جاذبيتكِ، قال.
كنتُ كئيبة جداً وأنا أتأمل تلك الزهور.
سأذهب لأسقيها وأرتبهّا، قلتْ.
ظلّ يتابعني وينظر نحوي وهو يقف على مسافة مني.
وحين إنتهيت من ذلك، بقيتُ واقفة.
أحسسته يمشي نحوي. لم يلمسني. كنت فقط أصغي إلى خطواته وأتطلع نحو الزهور بيضاء وحمراء في المزهرية.
(وقفة)
بعدها لمسني.
(وقفة)
لامس عنقي من الخلف برفق. تسللتْ أصابعه برّقة بين شعري ولامست عنقي بخفة.
داف:حين توقف المطر إلتفتُ حولي فإذا بالرجل والمرأة قد غادرا المكان ولم يبق في المتنزه أحد سواي.
بـيث:كنت أرتدي ثوبي الأبيض. رداء الشاطىء فقط ولم أكن أرتدي شيء تحته.
(وقفة)
لم يكن أحد على الشاطىء سوى رجل واحد كان يجلس بعيداً، بعيداً جداً، عند حاجز الأمواج. ورغم أنه الوحيد على الشاطىء إلا أنه كان يبدو صغيراً جداً تحت الشمس، ولم أكن أستطع رؤيته إلا حين أقف، أو أتسلق تل الرمل. وحينما إستلقيت، لم أعد أراه، ولم يستطع هو أن يراني أيضاً.
(وقفة)
ربما كنتُ مخطئة. لا أعرف. ربما كان الشاطىء خالياً، أو ربما لم يكن هناك أحد على الأطلاق.
(وقفة)
لم يستطع أن يراني على أية حال، ولم ينهض مطلقاً من مكانه.
(وقفة)
إنكَ تغفو بشكل لذيذ، قلتُ له.
لم أكن حمقاء في تلك اللحظة، فقد إستلقيت بهدوء إلى جانبه.
(صمت)
داف:على أية حال...
بـيث:كان جلدي...
داف:إنني أنام نوماً عميقاً هذه الأيام.
بـيث:... يوخزني.
داف: طوال الليل, هكذا وفي كل ليلة.
بـيث:كنتُ هناك عند البحر.
داف:يمكنكِ أن تشغلي نفسك بصيد الأسماك مثلاً، أو أن تحصلي على المزيد من المعلومات عن عالم الأسماك.
بـيث:كنت أتألم لوحدي عند الشاطىء.
داف:الأسماك مخلوقات خجولة خائفة وحذرة جداً، لذا ينبغي عليك التودّد إليها وعدم إثارتها أو إرباكها.
بـيث:كنت أخمن أن ثمة فندقاً قريباً يمكننا أن نتناول فيه بعض الشاي.
(صمت)
داف:على أي حال... كنت محظوظاً حين غادرت المكان، فقد كانت بعض الحانات ماتزال مفتوحة.
(وقفة)
لذا فكرت أن اذهب إلى إحداها لأتناول قدحاً من البيرة، وقد كنت أريد أن أخبرك بذلك.
هناك قابلتُ شخصاً مجنوناً. قبلها كنت أتحدث مع صاحب الحانة، فهو يعرفني. وبعدها دخل ذلك المجنون. نعم، ثم طلب قدحاً من البيرة. وبعد ذلك بقليل بدأ يحرك شفتيه ولسانه ويتلفت يمنة ويسرة وهو يتذمر من البيرة. أما أنا فلم أستطع تحمّل الموقف. نعم.
بـيث:بعدها فكرّت.. ربما سيكون بار الفندق مفتوحاً.. عند ذاك سنجلس هناك وسيجلب لي شراباً.
ماذا سأطلب؟ ولكن، ماذا هو سيطلب؟ ماذا يحب هو؟ ينبغي عليّ أن أسمعه يقول ذلك. أن أسمع صوته. سيسألني حتماً أولاً ماذا أحب أن أشرب، وبعدها سيطلب شراباً لنا نحن الأثنين. لكن ينبغي أن أسمعه يقول ذلك.
داف:هذه بيرة أم بَول؟ إنها لاتطاق، قال الرجل..
بالعكس قلتْ. إنها لذيذة وجيدة، نعم، هكذا قلت.
قلت لك أنها بَول.. بَول، قال.
لكنها أفضل بيرة في المنطقة، قلتُ.
كلا، كلا. قالْ، إنها بَول.
رفع صاحب الحانة قدحاً كبيراً وملأه بالبيرة ثم إرتشف جرعة كبيرة منه. لذيذة، قال.
لابد إذاً أن أحداً ما إرتكب حماقة هنا. نعم، لابد أن أحداً ما تبوّل في هذا القدح بدلاً من أن يذهب إلى المرحاض. قال المجنون.
(وقفة)
قذف صاحب الحانة نصف كراون(**) على الطاولة وطلب منه أن يأخذه.
آه، لكن سعر القدح بشلنين وليس لديّ فكة لأعيد لك الباقي، قال المجنون... ثم أضاف بعدها بقليل: حسناً، حسناً، سآخذه، لكنني سأبقى مديناً لك بثلاث بنسات في هذه الحال.
أعطها لأبنك هدية مني. أجاب صاحب الحانة.
ليس لدي إبن، أجابه الرجل.. ليس لديّ أطفال على الأطلاق.
أنا واثق من ذلك، بل أراهن أنك لست متزوجاً حتى، قال صاحب الحانة.
نعم، لست متزوجاً وليست هناك إمرأة تقبل أن تتزوجني.
(وقفة)
بعدها سألنا ذلك المجنون إن كانت لدينا رغبة أن نشرب معه قدحاً من البيرة.
صاحب الحانة قال أنه سيشرب قدحاً. أما أنا فلم أجبه في البدء، لكنه إقترب مني وقال: إشرب قدحاً معي.. إشرب معي قدحاً.
(وقفة)
أخرج عشرة شلنات ووضعها على الطاولة وقال أنه يريد قدحاً من البيرة هو أيضاً.
(صمت)
بـيـث:نهضتْ وسرتُ بإتجاه الشاطىء ثم دخلت الماء. لم أسبح لأنني لاأجيد العوم.
لقد تركت الموج يندفع نحوي فغفوت فوق الماء.
كانت الأمواج خفيفة جداً وناعمة وهي تلامس عنقي من الخلف.
( صمت)
داف:يوماً ما حين يكون الطقس جيداً بوسعكِ الخروج إلى الحديقة لتجلسي هناك. الهواء نقي في الحديقة. إنني أذهب إلى هناك دائماً. الكلب يحّب ذلك.
( وقفة)
لقد زرعتُ بعض الزهور. سيسركِ جداً رؤية تلك الزهور.
بإمكانك أن تقطفي بعضاً منها وجلبها إلى هنا إن أحببت. لن يراك أحد فلا يوجد أحد هناك على الأطلاق.
(وقفة)
نحن محظوظان جداً ياعزيزتي لأننا نعيش هنا بسلام وإطمئنان في منزل السيد سايكس دون أن يزعجنا أحد.
فكرّت مرة بدعوة شخص أو شخصين ممن أعرفهم من أهالي القرية إلى هنا على قليل من الشراب لكنني غيرّت رأيي في اللحظة الأخيرة لأنني أحسست أن ذلك ليس ضرورياً.
(وقفة)
أتعرفين ماذا سترين إذا خرجتِ إلى الحديقة؟.. سترين حشود من الفراشات. نعم.
بيـث:تعريّت تماماً ثم إرتديت رداء الشاطىء.
لم يكن أحد على الشاطىء سوى رجل عجوز كان يجلس بعيد جداً عند حاجز الموج. إستلقيتُ إلى جانبه وهمستْ.
هل تريد طفلاً؟ طفل؟ طفلنا؟ سيكون جميلاً.
(وقفة)
داف:أتتذكرين المطر؟ ماذا كان رأيك بزخات المطر تلك؟
(وقفة)
كان الشابان الذين قابلتهم تحت الشجرة أثناء الزخة الأولى يمرحان ويضحكان بالطبع. حاولت أن أصغي لهما لأعرف ما الذي يضحكهما، لكنني لم أستطع معرفة ذلك لأنهما كانا يتهامسان.
حاولت الأصغاء ثانية لأعرف النكتة.. لكن...
(وقفة)
على كل حال، لم أستطع أن أعرف في الآخِر.
(وقفة)
حينها تذكرتك.. نعم، تذكرتكِ حين كنتِ شابة. لقد كنتِ لاتحبين الضحك كثيراً. نعم، فقد كنتِ ... كئيبة.
(صمت)
بيـث:أخيراً عرفت لماذا إختار لي مكاناً نائياً ومقفراً كهذا. نعم، لقد إختاره لي خصيصاً كي أرسم بهدوء وأمان.
أخرجت قلم الرصاص من كراسة الرسم، إلا أنه لم يكن ثمة شيئاً لأرسمه. لاشيء سوى الشاطىء والبحر.
(وقفة)
أحببت أن أرسمه. لكنه لم يُرد ذلك. كان يضحك يضحك...
(وقفة)
فضحكت أنا معه أيضاً.
(وقفة)
كنت أرقبه وهو يضحك. بعدها إبتسمتُ وإستدرتْ. كان يوّد ملامسة ظهري.. أن يدير جسدي نحوه.
لقد أحببت أن أضحك معه قليلاً فضحكت.
(وقفة)
كان يضحك ويضحك ويضحك. نعم. لهذا السبب لم أستطع رسمه.
(صمت)
داف:لقد كنتِ في شبابك ربة بيت من الدرجة الأولى. نعم، أليس كذلك؟ وكنتُ فخوراً بك حقاً. نعم. لم تتذمري أو تعترضي يوماً على شيء قط، ولم تتشاجري أو تغضبي مطلقاً. كنتِ تنجزين عملك على أفضل وجه، وكان السيد سايكس يثق بك ويعول عليك. نعم، لم يكن قلقاً بشأن المنزل لأنه كان واثقاً من عنايتك به وإبقاءه بوضع جيد دائماً.
(وقفة)
هل تذكرين حين طلب مني مرة أخذه في تلك الرحلة؟ تلك الرحلة الطويلة إلى الشمال؟ آه. وهل تتذكري حين عدنا كيف عبرّ لك عن إمتنانه لقاء عنايتك الشديدة بالمنزل. نعم، فقد كان كل شيء يسير بدقة مثل عقارب الساعة.
(وقفة)
كنتِ مشتاقة إليّ أعرف ذلك. أتذكرّ أنني حين دخلتُ يومها هذه الغرفة وقفتِ أنت جامدة دون حراك. نعم.
كان عليً أن أقطع كل الطريق الطويل المؤدي إلى الطابق العلوي لأصل إليك. نعم.
(وقفة)
وحين وصلت لمستك برفق.
(وقفة)
كنت أود أن أخبرك بشيء حينها، أليس كذلك؟ لكنني إنتظرتْ، إنتظرتْ.. وبعدها.. بعدها لم أفعل ذلك. إلا أنني قررت أخيراً أن أخبرك، نعم قررت وفعلت ذلك في صباح اليوم التالي. أليس كذلك؟
(وقفة)
قلت لكِ يومها... أنني خذلتك... نعم، قلت لك أنني خنتك.. أنني لم أكن مخلصاً معك.
(وقفة )
لم تبكِ حينها. نعم.
خرجنا بعدها نتمشى لبعض الوقت حتى وصلنا البحيرة وكان الكلب معنا.
جلسنا قليلاً تحت الشجرة. لم أستطع حينها أن أفهم لماذا جلبت معك سلة المشتريات.
سألتك، ماذا في داخلها؟ لكنك لم تجيبي.
في الآخِر ظهر أن في داخلها خبزاً. نعم، وصرت تطعمين البط.
بعدها جلسنا تحت الشجرة نتطلع معاً نحو البحيرة.
(وقفة)
وعندما عدنا ودخلنا هذه الغرفة وضعتِ كفيك فوق وجهي وقبلتِني.
بـيث:لم أكن أريد حقاً أن أشرب.
(وقفة)
رسمت وجهاً فوق الرمل وبعده جسداً، وكان جسد إمرأة. ثم رسمت بعد ذلك جسد رجل قريب من جسد تلك المرأة من دون أن يتلامسا.
كانا لايشبهان البشر.. لا يشبهان أي شيء.
فجأة، تطاير الرمل فإمتزجت خطوط الجسدين وغامت الحدود بينهما، فزحفتُ نحوه ووضعت رأسي فوق ذراعه ثم دفنت وجهي في وجهه وأغمضت عينيّ وأطفأتُ الضوء.
( صمت)
داف:لقد أحّبنا السيد سايكس وأعجب بنا فوراً بعد مقابلته الأولى لنا، ها؟
(وقفة)
قال: أحسّ أنكما ستشكلان فريق عمل رائع في هذا المنزل. هه، هل تتذكرين ذلك؟ وهذا ما برهّنا عليه حقاً، فقد كنت أجيد السياقة بشكل ممتاز، ليس هذا حسب، بل كنت ألمع له حذائه أيضاً.. هاهاهاها. كان بوسعي القيام بأي شيء، أي شيء، أي عمل كان من أجل العيش. نعم.
أما هو فلم يكن ينقصه شيء، لاشيء على الأطلاق. أتذكرين كيف كان وحيداً وكئيباً؟ أتعرفين أنه كان لوطياً؟
(وقفة)
لم أشعر بأية شفقة نحوه مطلقاً لأنه كان وحيداً. كلا.
(وقفة)
أما الفستان الأزرق الذي إنتقاه لكِ حينها لترتدينه في المنزل فقد كان ذلك لطفاً منه حقاً، على الرغم من إنه فعل ذلك من أجل مصلحته الشخصية بالطبع. نعم، لكي تعتني ببيته وضيوفه. أليس كذلك؟
بـيث:حرك جسده وسط الرمل وإقترب مني ووضع ذراعه حول خاصرتي.
(صمت)
داف:هل تحبين أن أتحدث معك؟
(وقفة )
هل تريدين أن أبوح لك بكل تلك الأشياء التي فعلتها؟
(وقفة)
والأشياء التي كنت أفكر بها؟
(وقفة)
أظن أنك تحبين ذلك، هه؟
بـيث:ثم عانقني.
(صمت)
داف:كان من مصلحته الشخصية طبعاً أن يراك وأنت ترتدين فستاناً جذاباً في منزله وذلك لكي تتركي إنطباعاً جيداً لدى ضيوفه.
بـيث:ركبتُ الباص ونزلت عند تقاطع الطرق.. ثم دخلت الزقاق القريب من الكنيسة. كان كل شيء هادئاً جداً إلا من زقزقات الطيور. لم يكن هناك سوى رجل عجوز كان منحنياً يعبث بمرمى ملعب الكرْيكِيت.
وقفت حينها تحت شجرة لأتفادى حرارة الشمس.
(وقفة)
فجأة سمعت صوت سيارة. توقفت السيارة ما أن رآني فتسمّرتُ في مكاني. تحركتْ السيارة ثانية وإتجهتْ نحوي ببطء، فتقدمتُ نحوها وسط الغبار. لم أستطع رؤيته بسبب إنعكاسات ضوء الشمس، أما هو فقد كان يتطلع نحوي.
حين إقتربت من باب السيارة كانت الباب مغلقة. تطلعتُ إليه عبر الزجاج فإنحنى وفتح لي الباب، فدخلت وجلست إلى جنبه.
إبتسم لي ورجع فجأة بنا إلى الخلف بحركة واحدة سريعة جداً إجتزنا خلالها الزقاق وتقاطع الطرق ثم إتجهنا نحو البحر.
(وقفة)
داف:كنا موضع حسد الكثيرين من الناس لأننا نعيش لوحدنا في هذا المنزل الكبير. إنه كبير جداً لشخصين حقاً.
بـيث:قال أنه يعرف ساحلاً مهجوراً ونائياً جداً لايعرف به أحد في هذا العالم، وهو المكان الذي سنذهب إليه.
داف:كنتُ لطيفاً وحنوناً جداً معك ذلك اليوم. كنت أعرف أنك شعرت بإهانة حينها، لذا كنتُ حنوناً وعطوفاً معك.
أتذكر أنني مسكتك من ذراعك ونحن عائدين من البحيرة، فوضعتِ كفيكِ على وجهي وقبلتِني.
بـيث:الطعام الذي جلبته معي في حقيبتي طهوته بنفسي.. حتى الخبز أعددته بنفسي.
(وقفة)
كانت نوافذ السيارة مفتوحة غير أننا تركنا غطاءها مغلقاً.
داف:أقام السيد سايكس مأدبة عشاء صغيرة تلك الجمعة وقد إمتدحك كثيراً لقاء طهوك اللذيذ وخدماتك.
(وقفة)
إمرأتان، إمرأتان فقط هما كل الحضور، ولم أراهما مطلقاً بعد ذلك. ربما كانتا أمه وأخته.
(وقفة)
لقد طلبوا قهوة في ساعة متأخرة من الليل. كنت أشعر بالنعاس. فكرّتُ حينها أن أنزل إلى المطبخ لمساعدتك إلا أنني كنت متعباً جداً.
(وقفة)
إلا أنني إستيقظت حالما دخلتِ الفراش. كنتِ متعبة، متعبة جداً فغفوتِ فوراً حالما إستلقيتِ على السرير ووضعت رأسك على الوسادة.
بـيث:ماقاله كان صحيحاً، فقد كان الشاطىء مقفراً وخالياً من البشر.
(صمت)
داف:في اليوم التالي القيتُ نظرة على الطابق العلوي للمنزل وكنت أريد أن أخبرك بذلك. كان الغبار مزعجاً تماماً فقمنا أنا وأنت بمسح الغبار معاً.
(وقفة)
كان بوسعنا الصعود إلى غرفة الأستقبال وفتح النوافذ، وكان بإستطاعتي جلي الآنية القديمة لنحتسي كأساً هناك أنا وأنت في إحدى الليالي الرائقة.
(وقفة)
أحسست أن هناك عُثاً في المنزل وحين رفعت البساط عن الأرض تطاير العث في أرجاء المكان.
(وقفة)
بـيث:حين أكبر لن أكون بالطبع كما أنا الآن. تنانيري.. سيقاني الطويلة.. سأشيخ يوماً ما حتماً ولن أبدو كما أنا الآن.
داف:أستطيع الآن في الأقل الذهاب إلى البار بسلام أو أخرج إلى البحيرة بأطمئنان دون أن يزعجني أو يضايقني أحد.
(صمت)
بـيث:كل الذي تراه.. ُقلت ْ، ما هو إلا ضياء لمستك.. إشراقة حضورك.. رشاقة رقبتي.. بريق عينيك.. وهج الصمت، هو ما عنيتْ.
سحر زهوري.. يداي وهما تلمسان تلك الزهور هو ما عنيتْ.
(وقفة)
كنت أتطلع نحو بعض الناس هناك.
(وقفة )
كانت السيارات تزمّر وتزعق وهي تتخاطف كالبرق بالقرب مني، وكان فيها رجال تجلس إلى جانبهم فتيات يتقافزن أشبه بالدمى ويقأقئن كالدجاجات.
(وقفة)
كان الجميع يصرخ في بار الفندق. وكانت الفتيات يظهرن بشعورهن الطويلة مبتسمات.
داف:المهم في الأمر أننا الآن معاً. نعم، هذا هو المهم.
(صمت)
بـيث:إستيقظتُ مبكراً لأن ثمة أشياءاً كثيرة كان ينبغي عليّ إنجازها. نعم، فقد كان علي أن أضع الصحون في المغسلة لتنقع، نعم، وقد أبقيتها طوال الليل في المغسلة ليسهل جليها في الصباح.
الكلاب إستيقظت من نومها هي الأخرى. أما هو فقد كان يتبعني في ذلك الصباح الضبابي القادم من النهر.
داف:كان ذلك اللوطي يجهل أي شيء عن أقبية البيرة ولايعرف خبرتي الطويلة في أقبية الخمور، لذلك إستطعت أن أتحدث معه بإسترخاء وثقة عالية، نعم، ثقة ناتجة عن خبرة عمل ومعرفة.
بـيث:فتحتُ الباب وخرجتْ. لم يكن هناك أحد. كانت الشمس مشرقة والبلل يغطي الأرض كلها.
داف:الشخص الذي يعمل في أقبية الخمور إنسان جدير بالثقة، نعم، لماذا؟ لأنه يتحمل مسؤولية كبرى. فأوّل ما ينبغي عليه القيام به حين يستيقظ مبكراً هو مساعدة سائق شاحنة نقل براميل البيرة لإنزالها إلى داخل القبو، وبعدها عليه فتح بوابة القبو وإدخال المزلقة ثم إنزال البراميل واحداً واحداً بواسطة حبل ووضعها على سكة لأنزالها إلى الداخل ووضعها على الرفوف. بعدها عليه هّز تلك البراميل من الأسفل بعد وضعها على حوافها مستخدماً ميزان ورافعة.
بـيث:كان الطقس مازال مضبباً، لكنه أكثر رقة وخفة.
داف:البرميل يكون عادة مغلقاً بسّدادة، لذا ينبغي ثقب تلك السّدادة بقوة ليدخل الهواء إلى داخل البرميل كي تتنفسه البيرة.
بـيث:البلل يملأ الهواء، والجو مشمس، والأشجار خفيفة، خفيفة مثل ريش الطيور.
داف:بعدها يجب ضرب الصنبور بقوة، بقوة.
بـيث:كنت أرتدي ثوبي الأزرق.
داف:وإبقاء البراميل منتصبة ثلاثة أيام ووضع أكياس رطبة فوقها.
ينبغي غسل أرضية القبو يومياً. نعم كل يوم، وغسل البراميل كل يوم أيضا.
بـيث:كان صباحاً خريفياً عذباً.
داف:وفتح المياه نحو مضخات البار بواسطة الأنابيب.. يومياً.
بـيث:وقفتُ وسط الضباب.
داف:والآن عليك أن تسحب وتسحب وتسحب.. وفي اللحظة التي تصل فيها إلى الثـفل، عليك أن تتوقف عن السحب، نعم، لأن تلك الفضلات ستسبب لك إسهالاً. لكنك ستحصل على برميل ناقص في الآخِر ، نعم.
والآن أرجع البيرة التي إندلقت من الجوانب ثانية إلى ذلك البرميل وإبعثه إلى مصنع البيرة. هاهاهاها.
بيث:وقفتُ تحت الشمس.
داف:ولاتنسى أن تحرك البيرة بقضيب نحاسي كل يوم، نعم كل يوم، وأن تضبط المقادير حسب قياسات الغالون وتعلمّها بالطباشير. عظيم.
والآن كل شيء جاهز ومرتب مقنع وأنيق, ولن تتبول على نفسك مرة ثانية مطلقاً. هاهاهاها.
بـيث:بعدها عدتُ إلى المطبخ وجلست.
داف:إستغرب ذلك اللوطي لسماعه هذا، وقال أنه يسمع للمرة الأولى أن أرضية القبو تغسل. قال أنه كان يظن أن معظم اقبية البيرة تحوي على أجهزة للتبريد مثبّتة حرارياً وهي من يتحكم بكل شيء، وقال أنه كان يعتقد أيضاً أن البراميل الخشبية المعبئة بالبيرة يتم ضخها بالأوكسجين بواسطة إسطوانة. قلت له إنني لا أتحدث عن البراميل الخشبية أنما أتحدث عن بيرة طبيعية طازجة ُتضخ فوراً من البرميل. قال أنه كان يظن أن نقل البيرة يتم من الشاحنة مباشرة في حاويات معدنية عبر أنابيب. حسناً، قلت له، بإمكانهم أن يفعلوا ذلك، لكنك لم تتحدث عن نوعية البيرة. إنني أتحدث عن النوعية. المهم، وافقني الرأي أخيراً.
بـيث:جلس الكلب بقربي وصرت أمسّد شعره. تطلعت نحو الوادي من خلال النوافذ فرأيت الأطفال يتراكضون فوق العشب، ثم صعدوا بعدها إلى أعلى التل.

(صمت طويل)
داف:لم أستطع رؤية وجهكِ مطلقاً. كنتِ تجلسين قرب النافذة في إحدى الليالي المعتمة وكان المطر يتساقط، يتساقط بغزارة.
كل ما أستطعت سماعه هو صوت قطرات الماء وهي تضرب الزجاج بقوة. كنتِ تعرفين أنني سأدخل، لكنك لم تتحركي.
جلستُ بالقرب منك. إلى ماذا كنت تنظرين؟
كان كل شيء معتماً في الخارج. لقد إستطعت رؤية ظلك فقط على النافذة، إنعكاس صورتك على الزجاج. كان ثمة ضوء ما حتماً في مكان ما. محتمل جداً أن يكون إنعكاس وجهك هو الذي كان يضيء أكثر من أي شيء آخر.
جلستُ بالقرب منك، أما أنتِ فقد كنتِ مستغرقة في حلم، ربما.
جلستُ قربك دون أن ألمسك. ما أحسست به هو مؤخرتك فقط.
(صمت)
بيث:كنت أتذكر على الدوام أن في الرسم ثمة مبادىء أساسية للضوء والظل، إلا أنني أحس إن من يقترح الظلال والضياء هو الفكرة دائماً. ما الظل إلا تجريد للضوء، قوام الظل يستوحى من شكل الفكرة ذاتها، لكن ليس دائماً، وليس بشكل مباشر بالطبع. إنه يتأثر بها بعض الأحيان لكن بشكل غير مباشر، وفي أحيان أخرى لايمكننا العثور أصلاً على أي مبرّر لتلك الظلال.
( وقفة )
إنني أشعر دائماً بالضجر حين أفكر بمبادىء الرسم تلك.
(وقفة)
لهذا السبب لم أضّل المسار ولم أضّل القلب مطلقاً.
داف:كنتِ ترتدين سلسلة حول خصرك. وفي تلك السلسلة كنت تحملين مفاتيح وكشتبان ودفتر ملاحظات وقلم رصاص ومقص.
( وقفة)
كنت تجلسين في الردهة وأنت تقرعين الجرس.
(وقفة )
لماذا كنتِ تقرعين ذلك الجرس الملعون بحق الشيطان؟
(وقفة)
جنون، جنون أن يقف الواحد في ردهة فارغة وهو يقرع هذا الجرس اللعين. لا يوجد أحد هناك كي يسمعه، نعم لا أحد، فليس ثمة أحد في البيت سواي.
أين الطعام؟ لاشيء، لاشيء في المطبخ. لايوجد أيّ شيء. لاوجود حتى لحساء أو فطيرة أو خضار، لاتوجد حتى قطعة لحم. اللعنة على الجميع.
(وقفة)
بـيث:نعم، لهذا السبب لم أضّل المسار مطلقاً. ومع ذلك وحتى حين طلبت منه أن يستدير لينظر إليّ لم أستطع رؤية نظرته.
(وقفة)
لم أستطع معرفة إن كان يتطلع نحوي أم لا.
(وقفة)
رغم أنه إستدار وبدا كما لو أنه ينظر إليّ.

داف:إنتزعتُ السلسلة من خصرك بقوة وأخرجت منها كل شيء، الكشتبان والمفاتيح والمقص ورميتهم على الأرض حتى صاروا يقرقعون. ثم إنتزعت الجرس ورفسته بقدمي هكذا، هكذا، فدخل الكلب.
ظننت أنك ستتقدمين نحوي وتستلقي بين ذراعيّ ثم تقبليّنني، بل فكرت أنك ربما ستدعوني إلى الفراش أيضاً.
لقد أحببت مضاجعتك أمام الكلب، نعم، في حضرة الكلب، مثل رجل، وأنا أضرب الجرس بقوة على الأرض محذراً إياك خشية أن يقفز المقص أو الكشتبان ويدخلان بين فخذيك، هاهاها، ثم قلت لكِ بأن لاتقلقي فسأرميهما بعيداً ليتعقبهما الكلب، فسيشعر بالسرور وهو يداعب الكشتبان بين مخالبه. أما أنت فستتضرعين لي مثل كل إمرأة، نعم مثل أي إمرأة، وسأضرب الجرس على الأرض بقوة، نعم سأضربه بقوة، فإذا بحّ صوته وضعف رنينه، عندئذ سأعلقه ثانية في مكانه وأضاجعك أمامه وهو يتأرجح مقرقعاً ليوقظ النيام جميعاً، جميعاً يدعوهم لتناول العشاء، فالعشاء سيكون جاهزاً حتماً، وسأجلب لحم خنزير مقددّ، وسأضربك على رأسك الجميل محذراً الكلب من أن يبتلع الكشتبان و...
بـيث:فإستلقى فوقي وتطلعّ نحوي. كان يسند كتفي بذراعيه فيما يدي تلامس نتوء ضلعه.
(وقفة)
رقيقة لمسَتهُ حول عنقي، ناعمة قبلته ُ على خدي.
(وقفة)
حلوة حبيبات الرمل الصغيرة وهي تتراقص على جسدي.
( وقفة)
السماء صامتة في عينيّ.
عذب ورقيق صوت المد والجزر.
(وقفة)
أوه، أنت حبي الحقيقي، قلتْ.

النهاية

هامش:
(*) CONTEMPORARY CLASSICS: FABERamp; FABER LIMITED 1991:
Harold Pinter: Plays 3: LANDSCAPE

(**) كراون: قطعة نقدية فضية بريطانية قديمة كانت تساوي حينها خمسة شلنات.

علي كامل. لندن
alikamel50@yahoo.co.uk

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف