كتَّاب إيلاف

عن الفنان العراقي الغائب عن لحظة التحولات

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مزحة الوطنية أو زفة الألم

لا جديد في جملة أن الفنون تسهم في صياغة مفهوم متحضر للسلام، وهي التي تمنح الانسان ذلك الاحساس بالراحة والفرح مما لا نجد شبيهاً له في غير الفنون العظيمة، وأبرزها الموسيقى والغناء والرقص والشعر والتمثيل والرسم ألخ. هذا الكلام لا جديد فيه ولكننا بحاجتة الماسة لتذكير العشرات من المبدعين العراقيين بحاجة وطنهم إليهم فيما ينكفأ أكثرهم أو يحلق في ما نراه نحن نزاوت شخصية بعيداً عن الانسان العراقي الذي هو مصدر الالهام الأول بالنسبة للجميع.
لقد أجاد النظام البعثي الصدامي في استثمار الفنون العراقية للترويج لحروبه العديدة ومشاريعه التدميرية العدوانية، الإجادة تلك تمثلت بالمئات من المطربين والمنشدين والموسيقيين والشعراء والرسامين والممثلين والنحاتين كانوا انتظموا، طواعية أو امتثالاً لأوامر السلطان، في طابور طويل يتصدق عليه الديكتاتور بالعطايا والنعم، ومن المؤكد أن ذلك الانبطاح تحت بسطال الديكتاتورية كان ثمنه بخساً حقاً ، ولكن الكثيرين قد ارتضوا ثمناً، أو أسعاراً بلغة أكثر قسوة، لنتاجهم الذي يوصف سهواً بالإبداعي. وحتى هذا الحديث لا جديد فيه، بل هو بمثابة تجريح مستمر ومتواصل بأولئك الذين أئتمناهم على أحلامنا باعتبارهم صناع وحرس الأحلام الانسانية فما كان منهم إلا خيانتنا... هذا الألم مصدره أن هؤلاء قد استمروا في وقاحتهم تلك بالرغم من زوال الأسباب التي كنا نعتقدها تحول بينهم وبين أبناء شعبهم.
نصير شمة واحد من هؤلاء، وسنأخذه نموذجاً لهذا الحديث المشبع بالمرارة... تعرفت إليه مبكراً أواخر الثمانينيات في بغداد مصمماً لموسيقى بعض العروض المسرحية العراقية. كان شمة في بداياته الأولى التي أثبت فيها تميزه وإخلاصه العميق للعود والموسيقى وفرحنا به أي فرح وروجنا له في وقتها على اعتبار أنه سيزيف الجيل، أو هكذا افترضنا.. وتوالت أعماله التي كان اشهرها مقطوعته عن ملجأ العامرية.. كانت معزوفة العامرية تحمل إشارات موسيقية عالية عن الكارثة التي ذهب ضحيتها العشرات من العراقيين عندما قصفت طائرات أمريكية الملجأ الحصين في حي العامرية ببغداد في العام 1991 أيام حرب تحرير الكويت. وقد قدم شمة هذه المعزوفة مرات في بغداد، وأشهر مرة كانت في ساحة ملجأ العامرية نفسه في احتفال جنائزي كانت المؤسسة العراقية تجيد الإعداد له لخدمة غايات ليست بخافية على أحد. وإذا كان نصير شمة قد وضع موسيقى العامرية بإلهام من كارثة الملجأ التي تسبب بها صدام شخصياً على اعتبار أن القيادة الأمريكية أنذاك قد أكدت مرات عديد بأنها استهدفت الملجأ لأن معلوماتها الاستخبارية كانت تفيد بأنه يستخدم كمكان أمين وسري لصدام وزبانيته أيام اشتداد قصف الحلفاء في ذلك العام الكئيب، فإنه لم يجرؤ حتى بعد سقوط النظام على القول بأن صدام هو من تسبب بالكارثة وليس الأمريكان على قساوتهم، وظل الموسيقي البارع يعزف المقطوعة في العواصم العربية التي وصلها مطروداً، على ما اشاع، من قسوة هذا النظام، فيما الحقيقة هي أنه كان يعزف مقطوعة العامرية رغبة منه لمغازلة جمهور عربي قد افتضحت رؤيته للعراق والعراقيين يوماً بإثر يوم، جمهور قطيعي كان تربى على الهتاف ضد أمريكا فكانت مقطوعة شمة هذه مناسبة له لترديد ذلك الهتاف.. لن أصادر حرية شمة أو غيره فأسجل تراجعي على الفور لأقول أنه لم يفكر حين وضع لحن العامرية بما فكرنا به: كيف يتخذ صدام العراقيين دروعاً بشرية لحمايته، بل فكر بأن الأمريكان يريدون قصف الملجأ فقط من أجل فضح أنفسهم!، من أجل أن يثبتوا للعالم بأنهم لا يستهدفون القيادة العراقية في حرب العام 1991 بل الشعب العراقي، وما الملجأ إلا رمز في هذا السياق. ولكن ما نقوله يصطدم بحقيقة أن صدام قد احتمى بالشعب العراقي مرات عديدة لم تكن مرة الملجأ هي الأولى ولم تصبح الأخيرة... بل أن صدام قد برهن بقوة، وخاصة في عقد التسعينيات على أنه متمسك بالكرسي ولو ذبح العراقيين عن بكرة أبيهم.. فماذا كانت ردة فعل الموسيقي العراقي، حامل آلام العراقيين؟؟؟
كان نصير شمة قد فر من وطنه، كما يروي في غير مناسبة، أواسط التسعينيات إلى عمان فالقاهرة حيث نال سمعة طيبة باعتباره موسيقياً مجدداً ما أهله ليصبح نجماً عربياً فعالمياً... ولكن نصير شمة لم يقدم في نجوميته تلك لمحات من المرارة لوضع العراقيين تحت النظام الفاشي الصدامي، وكنا، شخصياً على الأقل، نلتمس له العذر لأننا كنا نعرف بطش هذا النظام بمعارضيه، وهم، يا للمفارقة، بالملايين، وظل نصير شمة يعزف معزوفة العامرية في العواصم العربية والأجنبية باعتبارها وثيقة إدانة ضد الولايات المتحدة، تماماً كما كان يفعل في بغداد... أما إذا سأله الصحفيون عن مشاعره حول العراق المحاصر فيكتفي بعبارات انشائية كان يجيد ترديدها عراقيون كثر في بغداد ما يعني أنها لا تقول الحق وإنما أبن عمه!!!!!! من قبيل الهتاف ضد الولايات المتحدة ومجلس الأمن والهيمنة الغربية وووو(تماماً مثل ما يحدث الآن في سوريا حيث الجميع، وخاصة المبدعين، يشتمون الغرب والولايات المتحدة ولا يجرؤ واحد منهم على مساءلة نظام البعث والأسد بصدد الحال الذي وصلته البلاد)... كانت لعبة ذكية اجادها الكثير من المبدعين العراقيين في التنصل من المسؤولية التاريخية المتمثلة بإدانة الديكتاتورية... وبالرغم من ذلك كله كنا نلتمس العذر لهم، كما قلت قبل قليل، بل كتبنا مرات عن نصير وغيره ممجدين مادحين لأننا كنا، وما زلنا، نؤمن بأن موسيقاه هي امتداد للعبقرية العراقية.
ولكن المؤلم حقاً هو أن يستمر شمة، ومعه العديد من المبدعين العراقيين بتفضيلهم لمصالحهم الشخصية على حساب هموم الناس البسطاء في عراقهم الحزين... يجوب نصير شمة العالم العربي بعوده ليعزف لهم عن مآسي العامرية والفلوجة، بل ويصرح لأكثر من صحيفة بأنه ينوي إقامة مهرجان موسيقي عراقي عربي كبير في القاهرة لدعم ما يسميه: (المقاومة العراقية)!! وعندما يسأله صحفي عراقي عن المقالات التي تصفه بالانتهازية أو مجاملة الأشقاء العرب على حساب آلام العراقيين يجيب إجابة لا علاقة لها بجوهر السؤال بقدر علاقتها بنظرية المؤامرة التقليدية!!! ثم يمضي الفنان نصير شمة في مشروعه الذي يتجاهل النزيف العراقي ليقدم مقطوعات متتالية عن قضية الشعب الفلسطيني وأخيراً شهداء التفجيرات الإرهابية في الأردن (قدم مؤخراً معزوفة بعنوان: زفة الألم تتحدث عن ضحايا حفل زفاف كان يقام في أحد الفنادق الأردنية التي استهدفها الإرهابيون في هجماتهم الدموية)...
إننا نتفهم ذلك كله مرة أخرى لا لأننا نبرر لنصير ما لا نتفق معه به ولكن لإيمان كبير بعدالة القضية الفلسطينية ولإدانتنا المعلنة للإرهاب بكل إشكاله وأينما كان... نتفق معه في نصرته للعوائل البسيطة في مدينة الفلوجة التي طالها الأذى من قبل الإرهابيين الذين اختطفوها أو من قبل القوات العراقية والمتحالفة معها أيام معركة الفلوجة الشهيرة... ولكننا لا نجد عذراً واحداً يجعل نصير شمة يبخل على أهله في العراق بأي موقف يدين المقابر الجماعية الرهيبة التي أهتزت لها ضمائر الانسانية في العالم أجمع... أين رؤيته للجرائم البشعة التي ارتكبت بحق العراقيين الأكراد أيام نظام صدام حسين؟؟ الا تتشابه هذه الجرائم والجرائم التي تدينها موسيقاه؟؟؟ ثم ماذا عن الارهاب الذي يتعرض له العراقيون يومياً؟ الا تحرك الدماء العبيطة في الحلة والمسيب وبغداد الجديدة والموصل وخانقين والنجف الأشرف والدورة وتلعفر وسامراء وغيرها من المدن العراقية أي مشاعر معادية للإرهاب عند نصير شمة كما حركت مشاعره دماء الأبرياء الأردنيين في التفجيرات الأخيرة؟ وإذا كان نصير شمة يتخوف من بطش نظام صدام فلم يقل ما كنا نعتقده حقاً في تلك الأيام فمم يخاف نصير اليوم وقد ذهب الطاغية ونظامه إلى غير رجعة؟ أتراه يؤمن حقاً بأن الدم العراقي ليس مهماً؟ يؤمن بإن الموت المستمر في العراق مقاومة وطنية شريفة؟ يؤمن باليوم الذي يعود فيه "القائد المجاهد" صدام حسين من أسره ليحرر البلاد؟ هل علي أن أصدق ذلك كله وأكذب بديهيات الحس الإنساني التي من المفترض أن يكون الفنن رسولها وسفيرها؟؟؟؟
حالة نصير شمة ليست الحالة الوحيدة على مزحة الوطنية في العراق بالنسبة للكثير من ا÷ل الإبداع، بل ربما تكون الحالة الأبرز... فثمة غيره من يرتضي لنفسه الغناء في ملاهي دول الجوار العراقي أغنيات قميئة مثل (هله يا صكر البيدة)، (من المفارقات اللافتة هنا أن شاعر هذه الأغنية كان قد انقلب على النظام وأعلن موقفه الصريح ضده مرات ومرات) لا يخجل بعض المطربين العراقيين من ترديد مثل هذه الأغاني الجارحة لنا ولغيرنا تلبية لطلبات بعض الأثرياء العرب أو العراقيين الهاربين بأموال الشعب حيث يقوم هؤلاء، كما يصف المطرب عبد فلك في مقابلة منشورة، برمي النقود على رؤوسهم!!!! صورة واضحة عن أخلاقيات من يحسبون أنفسهم على الإبداع العراقي، والمصيبة أن ثمة بينهم من يدعي التفرد أو يحسب على فئة المثقفين.
لقد خذلنا الكثير من المبدعين العراقيين، وقد جئنا على ذكر شمة باعتباره نموذجاً بالرغم من كل الود الذي كنا نكنه لموسيقاه التي كنا نظنها موسيقى إنسانية، فهؤلاء بخلوا على وطنهم ومواطنيهم بموقف مناصر لقضيتهم العادلة، التي هي قضية تحرر وطني بعد عقود طويلة تحت رحمة الديكتاتورية. إن أسئلة مفجعة من قبيل : لماذا لا يغني المطربون العراقيون للعراق الجديد وحريته الوليدة، على الأقل مثلما غنوا لنظام البطش والموت مع الفارق بين النظامين؟ ولماذا يصر هؤلاء وغيرهم على عدم الغناء في وطنهم بالرغم من أن إقامتهم لحفل غنائي فيه يعد انتصاراً لأخوتهم ضد الإرهاب الوافد والمقيم؟ ولماذا لا تحركهم مشاهد الدم العراقي المتكررة على الشاشات فتدفعهم لإنتاج أعمال إبداعية بمستوى الهجمة الشرسة التي يتعرض لها وطنهم؟ هذه الأسئلة وغيرها إنما تدفعنا دفعاً لإعادة النظر في منجزات هؤلاء ومن يشاطرهم الرأي. وبالطبع فلا علاقة للموضوع بالموقف من وجود القوات الأجنبية في العراق، حيث يبدو ذلك مجرد حجة لدفع أي رأي مغاير، إلا إذا امتثلنا لدعوة شاعر عراقي مقاوم والتي تتمنى صراحة ذبح ما يسميهم عملاءً ويقصد العاملين في مؤسسات الدولة، أو بعبارة أخرى ذبح نصف أبناء شعبنا فهم يعملون بشكل أو بآخر في دولئر الدولة عاداً موقفه هذا منتهى الوطنية؟؟؟
إن الحديث عن الفنان العراقي في لحظة التحولات التي يمر بها البلد حديث مؤلم حقاً، والمؤسف له أن يبقى هذا الفنان بعيداً عن هموم الناس بعد أن أسهم ولعقود طويلة في الرقص عليها. هذا الألم لا يخففه نتاج نادر لقلة قليلة من العراقيين كرسوا بعض إبداعهم لنصرة مشروع حرية العراق الذي يشيد بالدم اليوم، لأن ما يحدث في العراق من أعمال إرهابية أكبر بكثير من ذلك النتاج بالرغم من أهميته.
ومثلما سيبقى عار المقابر الجماعية في العراق يلاحق صدام حسين وزبانيته فإن هذه الجريمة الكبرى ستظل تلاحق الفنانين العراقيين الذين تغابوا عنها وأداروا وجوههم عن ضحاياها وعوائلهم التي كانت تمني النفس ولو بكلمة عزاء من مشاهير البلاد فخذلوهم!!! وما المقابر الجماعية إلا جريمة من سلسلة جرائم صدام فكم من اللوم يلزمنا لمواجهة من كنا نظنهم دعاة السلام والنبل والفرح الإنساني في العراق؟؟؟

عبد الخالق كيطان: شاعر عراقي مقيم في سدني

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف