كتَّاب إيلاف

اللاعنف في الإسلام (2)

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الجزء الثاني

اقرأ الجزء الاول

مما أذكر من الستينات ونحن نقرأ كتاب معالم في الطريق لسيد قطب أننا دخلنا في نقاش ضاري حول قتال الدولة الكافرة، ومنها نظام البعث في سوريا، ونظام عبد الناصر في مصر، حتى جاء اثنان من السوريين كانا يدرسان الطب في مصر فرويا لنا الاستعدادات العسكرية لمواجهة النظام الناصري في مصر، وأكدت لي هذا الكلام زينب الغزالي حينما زرتها في مصر، وتأكد لي من كتاب المعالم أن الأمر جد وليس بالهزل، فسيد قطب كان يرى أن الفكر يواجه بالفكر، ولكن النظام الكافر ـ ومنه النظام الناصري حسب وجهة نظره ـ يستخدم الفكر والقوة المادية لصرف الناس عن الحق، ولذا كان من العقل والحكمة استخدام المواجهة الثنائية المنافقين بالموعظة والكافرين بالفكر والصدمة المادية، والإعداد المسلح لحين شعور التنظيم بالقدرة على قلب نظام الحكم بالقوة المسلح، وأطلق على هذا التنظيم اسم القاعدة الصلبة الواعية كما يرد الاسم حاليا في أفغانستان، والذي نقله الظواهري في الأغلب من مصر إلى أفغانستان.
أذكر هذه الأحداث من أجل الدخول إلى موضوع حساس وغامض للغاية في إطار الثقافة الإسلامية، ففي الغرب نشأت مؤسسات لاعنفية عريقة، وحاليا هناك من يضع قواميس كاملة لهذا الحقل المعرفي بعد أن نما كاتجاه وكوكب كامل بإحداثيات مغايرة مثل الفرق بين الأرض والمريخ، فالغازات مختلفة والضغط متباين وجو المريخ براد ستين درجة تحت الصفر، والأرض فيها حقول مغناطيسية تسمح بوجود الحياة وتحفظها، والمريخ كوكب ميت، وثقافة العنف موت وقتل، وثقافة اللاعنف حياة وسلام ووئام وحب. وكأن الاثنتين مثل آدم والشيطان، فثقافة السلام روح وريحان وجنة نعيم، وثقافة العنف من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟
وفي هذه البحث المختصر سوف أحاول استعراض أهم الأفكار المتعلقة بهذا المذهب، الذي يقول: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، واستعدادنا لوضع يدنا في يد من يؤمن بالسلام ولو لم يستقبل الكعبة يوما، وعدم وضعها في يد من يؤمن بالقتل ولو حج كل سنة وقام الليل وصام الدهر؟ لأنه سيضحي غدا بنا، فلا أمان معه ومنه، أما من يؤمن بالسلام فلا خوف منه ولن يؤذي أحدا مهما اعتقد ودان، وهي فكرة مزلزلة للأصوليين، ولكنها مذهب السلاميين. وهو الإسلام صدقا وعدلا.
إن أول تساؤل وجهته الملائكة لحظة خلق الإنسان عن جدوى وجود هذا الكائن القاتل " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟". فلم تقل أتجعل فيها من يكفر بك بل أتجعل فيها من يقتل؟
وهذا يعني أن مسالة العنف واللاعنف مسألة وجودية.
وأول جريمة قتل حدثت على الأرض كانت بين ولدي آدم، فقال الأول: لأقتلنك وقال الثاني: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين.
ومن هذه القصة تتولد تلقائيا طريقتان لحل المشاكل: من يهدد ويقتل. ومن لايهدد، ولا يخاف من التهديد، ولا يمد يده بالقتل، ولا يدافع عن نفسه أمام القتل. أي أن هناك مذهبان في العالم: الدموي والسلامي.
وهذا يعني أن مسألة العنف واللاعنف هي مسألة التاريخ. وحسب )هيروقليطس( فالحرب أبو التاريخ.
ومن يطالع التاريخ خلال أكثر من ثلاثة آلاف سنة، منذ عرفت الكتابة في صحف إبراهيم وموسى، يصل إلى إحصائية مخيفة تقول: أن كل 13 سنة من التاريخ سادت فيها الحرب يقابلها سنة واحدة من السلام، كما اكتشفها (غاستون بوتول) الذي درس ظاهرة الحرب، فهل هذا قدر إنساني أم ثقافة؟
وحسب تحليل الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل): فإن انتقال الإنسان من الغابة إلى الدولة كان خيارا ذو اتجاه واحد من الفوضى إلى الطغيان. وهو خيار أحلاهما مر، فلم يكن السلام ممكناً بين الناس في الغابة، كما لم يستتب السلام بين الدول حتى اليوم.
وحسب (ابن خلدون) في مقدمته الشهيرة فإن (المجتمع) للإنسان يشكل ضرورة بسببين: الغذاء والدفاع.
ويقول عن الغذاء أن رغيف الخبز يحتاج إلى صناعات لانهائية في شكل شبكة من التخصصات، وهذا غير ممكن بدون وجود المدينة أي المجتمع الإنساني، ولولا مجتمع المدينة لم تتشكل الحضارة، فالحضارة ظاهرة نشأت تحت السقوف، وهذا قاده إلى فهم (ضرورة) وجود المجتمع، وبدون وجود المجتمع لم يوجد الإنسان. ولا ينطق الإنسان إلا بوجوده مع بشر مثله.
وحسب (مالك بن نبي) المفكر الجزائري فإن المجتمع للإنسان يعني نقل الإنسان عبر معادلتين بيولوجية وثقافية، فالأولى تعني الفرد والثانية تعني الشخص المكيف اجتماعياً.
وكل الدراسات الأنثروبولوجية أكدت على أن المجتمع للإنسان يعني نقلته من البهيمية إلى جعله بشرا سويا، والطفل الذي يولد في الغابة ويحافظ على وجوده لايزيد عن ذئب، بل هو أضل سبيلا، في رتبة حيوانية أضعف من الحيوانات. أكد هذا بيتر فارب في كتابه (بنو الإنسان) من تجربة الدكتور (ايتار) على صبي أفيرون الوحشي.
ولكن مشكلة خروج الإنسان من الغابة ودخوله المجتمع جعلته مثل الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة. فخرج من فوضى الغابة ليقع في قبضة طغيان الدولة، كمن يهرب من المطر إلى ما تحت المزراب، ولم يكن من هذا بد، كما ذكرنا ذلك من الأفكار السابقة. فكانت الدولة ومجتمع المدينة جميلة من جانب، ومصيدة وورطة من جانب آخر.
وصراع الأفراد غير الحروب. فالحروب هي ظاهرة صراع الدول أو تفككها كما رأينا في يوغسلافيا ولبنان.
ويرجع صراع الإفراد إلى تركيب الدماغ، فدماغ أحدنا مركب من ثلاث طوابق، أعلاه الحديث وعمره نصف مليون سنة، أما الدماغ السفلي والمتوسط وهما مسئولان عن المراكز الحيوية والعواطف فعمرها أكثر من مائة مليون سنة، وبينهما قدر من التفاهم، وبذلك فإن دماغ أحدنا فيه ثلاث أدمغة وليس واحداً وبثلاث لغات وبدون ترجمان، والانسجام موجود بين الدماغين السفلي والمتوسط منذ مائة مليون سنة، خلافا للدماغ الجديد المتشكل منذ نصف مليون سنة، وغير المنسجم والمتفاهم مع الدماغين الآخرين.
وهذا يعني أن العدوانية مغروسة في البيولوجيا ولسبب حيوي فالغضب والانفعال آليتان للحفاظ على الحياة، ولولا الغضب ما عاش الإنسان، ولكن المشكلة كما جاء في كتاب (الذكاء العاطفي) أن تكون العواطف بما فيها الغضب تحت سيطرة الدماغ العلوي، الأحدث والأكثر تطورا والتي تميز الإنسان عن البهيمة، وهو أمر تربوي، وهذا الوعي الخاص كسبي، كما يقول (إقبال) في كتابه تجديد التفكير الديني، والإنسان يولد من بطن أمه لا يعلم شيئا، ثم يبدأ العقل السنني في التكون، وهذا يحتاج إلى تأسيس كل مرة، ومن ينظر في كيفية أكل الحيوانات بعضها بعضا، يدرك أثر هذا في تصرف البشر، الذين هم ثلثان من تمساح وسبع ضاري، فوقه ثلث من كائن عاقل يحاول ضبط الوحشين.
وحسب كتاب (الذكاء العاطفي) لـ (دانييل جولمان) فإن الدماغ المتوسط موضع العواطف مهم جدا للتصرف، ومركزه في الأميجدالا في الفص الصدغي، ولكنه مرتبط بالدماغ العلوي، وعدم انضباط هذا المركز العاطفي مع قشرة الدماغ العليا، هو الذي يقود للانفجارات العاطفية وكوارث الانفعال وبالتالي يفسر (لا منطقية) الإنسان.
وكما وجد الصراع وعدم الانسجام في البيولوجيا فهو في علم الاجتماع أشد، فالفرد حينما خرج من الغابة ودخل الدولة لم يعد في مقدوره حل نزاعاته مع الآخرين بالقوة، مع كل زخم اندفاع القوة الحيوانية من التمساح والسبع، بسبب أن الدولة تحتكر القوة فتحكم بين الأفراد فيما كانوا فيه هم مختلفون.
ولكن كما يقول عالم الاجتماع العراقي (الوردي) فإن هذا لم يوجد بين الدول، فالدولة تملك الإفراد، ولكن لايوجد دولة عليا تملك الدول. وهنا وفي هذه النقطة تنشب الحروب وصراعات الدول.
والدولة بوظيفتها الأساسية من (توفير الأمن) للأفراد تجعل الحياة متحملة، وأي نزاع ينشب بين الأفراد تتدخل الدولة ولو بالقوة المسلحة العارية فتفضه، ولكن لاتوجد مثل هذه القوة بين الدول، فاستمرت الحرب بين الدول حتى اليوم، وأي مراقبة للصراع البشري في ظاهرة الحرب تتبدى هذه الظاهرة على شكل واضح.
وجمعية الأمم المتحدة وما شابه هي محاولات متواضعة لإنشاء مثل هذه القوة العالمية التي تفك النزاعات بين دول المعمورة، ولكن لم يتحقق هذا حتى الآن، وأعظم مرض أصيبت به البشرية هو ولادة مجلس الأمن المشئوم، الذي أعاق ولادة العدل حتى اليوم، وربما وقد تكون الوحدة الأوربية نواة مثل هذا المشروع التاريخي.
وكان بالإمكان لأمريكا أن تقوم بهذا الدور ولكنها قوة استعمارية تبغي الربح والهيمنة، وليس عندها روح العدالة والرسالة، ولذا فهي مكروهة من معظم أهل الأرض، وهو قدر كل قوة استعمارية تهدف الهيمنة على امتداد التاريخ.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف