كتَّاب إيلاف

التجربة الديمقراطية في العراق (1-2)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

بمبادرة من جمعية الأقباط في الولايات المتحدة الأمريكية ورعاية المهندس عدلي أبادير يوسف، تم تنظيم مؤتمر الأقباط العالمي الثاني في العاصمة الأمريكية واشنطن فى الفترة بين 16 و19 نوفمبر 2005، لمناقشة محنة الأقباط في مصر والأقليات الأخرى في البلاد العربية وكذلك"أوضاع الديموقراطية والحريات فى الشرق الأوسط". وقد شرفني منظمو المؤتمر بدعوتهم لي لإلقاء بحث عن (التجربة العراقية في الديمقراطية). وكان المؤتمر ناجحاً ورائعاً بوقائعه ونتائجه وقراراته وبمن حضره من المثقفين الليبراليين العرب الذين أسعدت وتشرفت بلقائهم لأول مرة بعد أن كنا نعرف بعضنا بعضاً إلكترونياً ومن خلال النشر. وكانت أيام المؤتمر حقاً فترة سعيدة وحافلة بالأعمال الفكرية النيرة لخدمة شعوب الشرق الأوسط. أدناه الترجمة العربية بشكل مفصل لمداخلتي التي أرتجلتها بإيجاز شديد.

السيد رئيس المؤتمر، سيداتي وسادتي،
أشكركم على دعوتكم الكريمة لي لتقديم مداخلة عن (التجربة العراقية في الديمقراطية) واهتمامكم بالقضية العراقية. وهذا دليل على إدراككم العميق أن مشكلتكم ليست بمعزل عن مشاكل المنطقة وعلى رأسها غياب الديمقراطية. يقول الفيلسوف الألماني هيغل: (إن ولادة الأشياء العظيمة دائماً مصحوبة بألم). والديمقراطية من أعظم ما أنتجته الحضارة البشرية. لذلك فإن ولادة الديمقراطية في أي مكان من العالم كانت دائماً تمر بمخاض عسير، وغالباً ما كانت تحتاج إلى عملية جراحية قيصرية على شكل حروب أهلية وثورات وانتفاضات شعبية مسلحة، والنموذج العراقي ليس استثناءً. في الحقيقة إن النموذج العراقي هو من أصعب الحالات لأسباب عديدة، كما هو واضح مما يجري في العراق الآن. ولنفهم أسباب هذه الصعوبات أرى من المفيد أن أقدم ولو بإيجاز شديد نبذة عن خلفية العراق وشعبه. إن الصعوبات التي تواجهها العملية الديمقراطية في العراق ناتجة عن عدة عوامل خاصة بهذا البلد: الجغرافية والديموغرافية والتاريخ السياسي.

العامل الجغرافي:
لا شك أن للجغرافية تأثيراً كبيراً على التطور الحضاري في أي مكان. والعراق واقع في أسخن منطقة في العالم ألا وهي منطقة الشرق الأوسط. وهذه الخواص الجغرافية هي التي جعلت من العراق أو وادي الرافدين، كما كان يسمى في الماضي، مهداً للحضارة البشرية. والعامل ذاته جعل من العراق بؤرة للصراعات السياسية والفكرية والمذهبية وعدم الاستقرار في المنطقة. ولذلك ليس غريباً أن اختار التاريخ العراق في وقتنا الحاضر، عصر العولمة، ليكون ساحة للحرب بين الديمقراطية والحرية والحضارة من جهة والإرهاب والاستبداد الفاشي الشمولي والهمجية من جهة أخرى.

العامل الديموغرافي
هذا العامل مرتبط بالعامل الجغرافي، فمكونات الشعب العراقي لها علاقة وثيقة بالدول المحيطة بالعراق. هناك ست بلدان تجاور العراق، مختلفة فيما بينها عرقياً ومذهبياً ولغوياً وثقافياً. وتنوع دول الجوار انعكس على مكونات الشعب العراقي. فجميع دول الجوار لها ما يماثلها من مكونات في الشعب العراقي. فمثلاً إيران في الشرق تشارك نحو 60% من الشعب العراقي في المذهب الشيعي، كذلك عندنا نحو مليون تركماني يماثلون الشعب التركي في الشمال، والعرب السنة يرتبطون بعلاقات العروبة والدين والمذهب مع سوريا والأردن والسعودية والكويت على الحدود الغربية والجنوبية. ونفس الكلام ينطبق على الكرد حيث لهم أشقاؤهم في إيران وتركية وسورية. إضافة إلى أن هناك أكثر من مليون مسيحي من الآثوريين والكلدانيين والأرمن وغيرهم، وهناك أقليات أخرى مثل الصابئة والأيزيديين والشبك...الخ. لذلك، فالشعب العراقي يتصف بتركيب متعدد ومعقد وغير متجانس، عرقياً ودينياً ومذهبياً ولغوياً. ولزيادة الطين بلة، فإن دول الجوار في أغلب فترات التاريخ كانت في صراعات وحروب مع بعضها البعض، خاصة بين الدولة العثمانية التركية والإيرانية الصفوية التي كان من شأنها تأجيج الصراعات الطائفية بين مكونات الشعب العراقي.
ولهذا السبب نرى الشعب العراقي يتصف بالتنوع والاختلاف والشقاق وعدم الانسجام. ولا أدعي هنا أن جميع أمراضنا وشرورنا هي من دول الجوار، ولكن بالتأكيد فإن هذه الدول ساهمت بشكل فعال في تأجيج وتضخيم الصراعات بين مكونات الشعب العراقي. وأفضل مثال هو دور إيران وسوريا الآن في دعمهما للإرهاب من أجل إفشال العملية الديمقراطية في العراق منذ إسقاط النظام البعثي الفاشي. كذلك بقية البلدان العربية التي ترسل الإرهابيين الأصوليين فيذبحون أبناء شعبنا بحجة مقاومة الاحتلال. وكما علق وزير حقوق الإنسان في العراق قبل أيام أن دول الجوار تخاف من الديمقراطية في العراق ويعاملونها كتعاملهم مع مرض انفلونزا الطيور، فيذبحون أبناء شعبنا لمنع انتشار الديمقراطية في بلدانهم.
لقد حرص السياسيون والكتاب العراقيون على إخفاء حقيقة الصراع وعدم الانسجام والتجانس بين مكونات الشعب العراقي عن العالم الخارجي، معتقدين أن الإعلان عنه يجلب سمعة سيئة لشعبنا. أعتقد أن تبني سياسة النعامة في إخفاء الحقيقة في الرمال لا يساعد على حل المشكلة التي تواجهنا. بل يجب مواجهة الحقيقة كما هي، من أجل تشخيص المرض وإيجاد العلاج الناجع له.
قيل إن الوحدة في التنوع والتعددية (unity in diversity). هذه المقولة صحيحة فقط في الدول الديمقراطية حيث تعامل جميع مكونات الشعب بالتساوي أمام القانون في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص وليس هناك مواطنون من الدرجة الثانية أو العاشرة. بينما في الأنظمة المستبدة يكون التنوع لعنة وسبباً للصراعات الدموية بين مكونات الشعب المختلفة. والسبب هو أن الدكتاتور غالباً ما يعتمد على فئة واحدة من مكونات الشعب لتثبيت وحماية حكمه وإحكام قبضته واضطهاد بقية الفئات. وهذا واضح من اضطهاد الأقباط في مصر وإبادة المسيحيين في جنوب السودان ومعاناة الكرد والشيعة والتركمان والكدان والآشوريين وغيرهم في العراق في عهد حكم البعث، وما يواجهه الكرد من الظلم والتمييز العنصري في سوريا وإيران الآن، وهكذا الحال في معظم البلدان المبتلية بالأنظمة الدكتاتورية الجائرة.
ولهذا السبب كان في العراق وباستمرار صراع محتدم وشقاق دائم بين مختلف مكونات الشعب. والوحدة الوطنية الظاهرية كانت كاذبة وزائفة إذ تم إخفاء الصراع بواسطة القمع والحروب الأهلية من قبل الحكومات المتعاقبة المستبدة. ولذلك يعتقد بعض السياسيين والكتاب في الغرب أن الشعب العراقي لا يستحق الديمقراطية بل النظام الديكتاتوري والقبضة الحديدية للحفاظ على وحدته الوطنية. لأن الديمقراطية، كما يعتقد هؤلاء، ستدفع مكونات الشعب إلى حرب أهلية وتفتيت الوحدة الوطنية. في الحقيقة كانت الوحدة الوطنية في ظل الديكتاتورية والقبضة الحديدية وحدة زائفة، ظهرت على حقيقتها بعد سقوط الدكتاتورية. لذلك فتعددية مكونات الشعب العراقي جعلت الديمقراطية ضرورة ملحة ومطلقة ولا يمكن العيش بسلام بدونها.

التاريخ السياسي
كان عدم الوحدة والانسجام بين مكونات الشعب العراقي مشكلة كبيرة في تاريخ العراق الحديث. وكان الملك فيصل الأول هو أول من شخص هذا الداء ولفت انتباه النخبة السياسية الحاكمة لهذه المشكلة في رسالة له كتبها عام 1933 وزعها على عدد محدود من السياسيين العراقيين ونشرها فيما بعد المؤرخ العراقي المرحوم عبدالرزاق الحسني في أحد كتبه. إذ يقول الملك الراحل عن شعب العراق: "وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى: إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للإنتقاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقيhellip; " (عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي، ج1، ص12).
لسوء حظ الشعب العراقي مات الملك فيصل مبكراً وبشكل مفاجئ بعد أشهر من كتابة هذه الرسالة. ومنذ موت الملك وقع العراق في حالة فوضى متصاعدة إلى أن تكللت بمجيء نظام صدام حسين الذي نسف كل ما بنته الأجيال الماضية في بناء الدولة العراقية. فخلال 35 عاماً من حكم البعث عانى الشعب العراقي كثيراً من الظلم والحروب والحصار والفقر والمقابر الجماعية. وقد أعتمد النظام على فئة واحدة من مكونات الشعب في دعم حكمه وأغدق عليهم بخيرات العراق واستخدمهم لاضطهاد الآخرين. وبعبارة أخرى، استخدم نظام البعث الطائفية وآديولوجية العنصرية للقومية العروبية بنسختها البعثية المتطرفة لتطبيق سياسة "فرق تسد" لإحكام قبضته على الشعب. وبهذه السياسة قضى حكم البعث على شعور أبناء الشعب بالانتماء إلى الوطن. ولهذا نرى في عراق ما بعد صدام الشعب العراقي ممزقاًُ إلى فئات متصارعة، والغالبية العظمى لا تدين بالولاء للوطن والدولة العراقية، بل جل ولائها لشيخ العشيرة ورجل الدين والطائفة. باختصار شديد، هذه هي خلفية الشعب العراقي.
والسؤال هو كيف يمكن بناء نظام ديمقراطي في هذا البلد وفي ظل هذه الخلفية والأوضاع التي ورثها من نظام البعث الساقط؟
من الجدير بالذكر أن الشعب العراقي لم يمارس الديمقراطية طيلة تاريخه، القريب والبعيد، وحتى في العهد الملكي الذي يصفه البعض خطئاً، بأنه كان عهد الديمقراطية والاستقرار والازدهار. نعم، كانت بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وبمساعدة بريطانيا العظمى، بداية واعدة خاصة خلال 12 عاماً الأولى أي فترة حكم الملك فيصل الأول. فكان هناك تطور سياسي وديمقراطي، سلمي وتدريجي يبشر بالخير. ولكن بعد موت الملك المبكر، استولت النخبة السياسية التي فرضت سياسة القبضة الحديدية واضطهدت الأحزاب الوطنية الديمقراطية ومارست سياسة العزل الطائفي والعنصري. وقد ساعدت تعقيدات السياسة الدولية والحرب الباردة على تصعيد مشاعر العداء في صفوف الشعب والأحزاب الوطنية للغرب والدول الاستعمارية وللنخبة الحاكمة وحتى للنظام الملكي نفسه. ولهذا اتصف العهد الملكي بفترات متواصلة من الاضطرابات السياسية وانقلابات وعسكريات منها ناجحة ومنها فاشلة.

يتبع

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف