جبران تويني شهيدنا جميعا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أن تكون حرا في منطقة تنوء تحت ساطورالسفاحين والتخلف ومشرعني ملاحقة وتكفير وذبح المتنورين الأحرار وذوي الأحلام العراض والأفق المنطلق نحو آفاق اللاسكونية، يعني عليك أن تعد تابوتك مسبقا، أن تكون ابن الإنسان وأخ الإنسان وصديق الحيوان في منطقة "أطبق خطم الوحش عليّ" فيها(على حد تعبير الشاعر البولندي تشيسواف ميلوش)، وامتهنتها شعارات ودسائس العشيرة الواحدة والطائفة أوالحزب الواحد الأحد المنزل بفرمان إلهي، باسم الدين والعروبة والفكرالواحد، يعني عليك إما أن تموت جوعا، عزلةً، كمدا، حصارا، مقاطعة، نفيا، حَجْرا، سبيا، صمتا، وإلى آخر كلمة في قاموس الملاحقة والشقاء، وإما أن ترفع صوتك عاليا محتكما لصوت التوق البشري نحو الحرية واللاهيمنة، لكي لا تظل عبدا لأعداء المشروع الإنساني، وهذا يعني أيضا أن تحمل تابوتك على منكبيك. خياران أحلاهما مر، سوى أن أكثرهما بسالة وسُمُوّا وإنسانية وخلودا هو الثاني.
لقد اختار جبران تويني طريق الحرية، وليس غريبا أن يعمل لسنوات طويلة في مشروع تنويري نهضوي اسمه "النهار". لماذا يريدوننا أن نعيش كالخفافيش يا ترى؟ لماذا يريدوننا الغور في متاهات صنعوها لنا فخاخا ومكائد وقلاعا من العتمة؟ لماذا يريدوننا أن نعيش بلا ضمائر وأعين وسمع ولسان، بلا لون ولا طعم ولا رائحة؟
لم يكتفوا بملاحقتنا ليل نهار، بل راحوا بكل ما أوتوا من جهالة وبربرية وضيق أفق ينقبون في تلافيف أمخاخنا وكلماتنا التي لم يعد سواها نديما لنا في "صحراء الحب" على حد تعبير الشاعر المجري بيلينشكي! لماذا لا يمكنهم أن يحتملوا كلمة خلاقة مثل لا أو: دعوني أفكر؟!
أليس غريبا أن يُذبح ويُفَخّخ الرأي الآخر في لبنان ويُذبح ويُفَخّخ صنوه في العراق؟ هذا هو الهلال الخصيب الذي أرادوه، مضمخا بدماء شرفائه ومفكريه؟ مقابرجماعية وذبح وتفخيخ في العراق باسم العروبة والدين والمقاومة والقومية ومقارعة الاحتلال وكلها منهم براء! وذبح وتفخيخ ومقابر جماعية في لبنان باسم هذا وذاك، وكل هذا وذاك منهم براء!
لقد رفع جبران تويني لواء لبنان، بصفائه وتفتحته وحداثته وتوقه إلى أن يكون ذاته، أراد لبنان حرا مشرعا مثل بحره وسمائه الصافية. ألا يحق للبحر أن يكون ذاته؟ لقد قالها المتصوف النفري قبل قرون: " إذا لم يعمل الخاص على أنه خاص هلك". أليس لبنان وأهل لبنان وسماء لبنان وسدرة لبنان أمرا خاصا؟ لبنان كان مبدعا فينا، ومشروع " النهار" كان متنورا وحداثويا فينا. وعقلُ لبنان المتنور يخصنا ويعنينا جميعا.
حدثنا جبران خليل جبران ذات يوم في قصة "كيف صرتُ مجنونا" قال: هذه قصتي إلى كل من يود أن يعرف كيف صرتُ مجنونا: في قديم الأيام قبل ميلاد كثيرين من الآلهة نهضتُ من نوم عميق فوجدتُ أن جميع براقعي قد سُرقتْ - البراقع السبعة التي حكتُها وتقنعتُ بها في حيواتي السبع على الأرض. - فركضتُ سافر الوجه في الشوارع المزدحمة صارخا بالناس: "اللصوص! اللصوص! اللصوص الملاعين!" فضحك الرجالُ والنساء منّي وهرب بعضهم إلى بيوتهم خائفين مذعورين. وعندما بلغتُ ساحة المدينة إذا بفتى قد انتصب على أحد السطوح وصرخ قائلا: "إن هذا الرجل مجنون أيها الناس!" وما رفعتُ نظري لأراه حتى قبّلتِ الشمسُ وجهي العاري لأول مرة... هكذا صرتُ مجنونا، ولكني قد وجدتُ بجنوني هذا، الحرية والنجاةَ معا: حرية الانفراد، والنجاة من أن يُدرك الناسُ كياني، لأن الذين يدركون كياننا إنما يستعبدون بعضَ ما فينا"(تعريب انطونيوس بشير). أكان لزاما علينا وعلى لبنان أن ننتظر كل هذه السنوات المريرة، أي منذ كتابة المجنون في العام 1918 حتى رحيل جبران تويني، لكي نشهد على جنون فحرية فنجاة هذه البلاد الجميلة؟ كنا نحلم بشوارع عريضة مزدانة بالسدر والزيتون والنخيل، لكن برفقة أحبتنا، ألم يكنْ هذا بعضَ ما كنتِ تحلمين به، يتها الشاعرة الأم المزدانة بالسكون، ناديا تويني؟
سيحدثك جبران هذه المرة بلا رتوش، باسْمنا جميعا نحن الأحياء الموتى دراويش الحقيقة، حتى آخر حبة من عنقود الأبدية، حتى آخر جرعة من نبيذ المحبة.
جبران شهيد النهار الذي لا يكل عن البزوغ، شهيد البحث عن الهوية والجذور، شهيد النور والإشراق لا الديجور.
جبران تويني شهيدنا جميعا نحن المعتصمين بحبل الحرية.
اقرأ أيضا:
د. شاكر النابلسي: كلام تافه في حريق الأرز!
د. خالد شوكات: البعث يا جبران..إنه نظام مجرم!
أسامة عجاج مهتار: جبران تويني
د. سيّار الجميل: جبران تويني يلتحق بقافلة شهداء لبنان..!!
جاسم بودي: نهار وظلام
دلولا ميقري: قلمُ جبران، وصوته