الدستور العراقي ومسؤولية الليبراليين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نشرت بعض الصحف العراقية ومواقع الانترنت نسخاً من بعض مواد مسودة الدستور العراقي الجديد الذي سيطرح للاستفتاء على الشعب العراقي قريباً. وعلينا أن نعلم، وأن نعي جيداً، بأن هذا الدستور - أيا كانت صيغته - هو أغلى دستور عربي وضع حتى الآن، في التاريخ السياسي العربي بعد الدستور الجزائري الذي كلف أكثر من مليون شهيد. ولكن الدستور العراقي كان أكثر تكلفة مالية (300 مليار دولار حتى الآن) وأكثر من مائة الف شهيد ذهب معظمهم ضحية الارهاب الأعمى بدعم من الدول المجاورة للعراق، والتي تخشى أن يتكرر "الفيلم العراقي" على أراضيها في يوم ما، ويطيح بأنظمتها كما تم في العراق. وليكن واضحاً وجلياً من أن الارهاب في العراق لا يعمل من داخل العراق. وأن قيادة قواعده بما فيهم الزرقاوي نفسه وعزت ابراهيم وغيرهما من قادة الارهاب ومخططيه، غير موجودين في العراق، ولكن في دولة من دول الجوار، تعرفها قيادة التحالف حق المعرفة.
نقود الليبراليين المُحقة
تقدم الصديقان العراقيان د.سيّار الجميل ود. عبد الخالق حسين وغيرهما من الليبراليين العراقيين بنقود علمية جادة للدستور العراقي الجديد. وهي نقود محقة تتلخص في أن الدستور ينص في مادته الأولى بأن الجمهورية العراقية (اسلامية اتحادية). وهي مادة مستهجنة فعلاً. فلا الدساتير الغربية تشير إلى أن دولها دول مسيحية ، ولا الدستور الإسرائيلي يشير إلى أن الدولة دولة يهودية ، ولا الدول الإسلامية (ما عدا ايران وموريتانيا) تشير إلى أنها دول اسلامية وحتى الدول التي لا دستور لها كالسعودية لا تطلق على نفسها "المملكة العربية الإسلامية السعودية" فذلك كله فذلكات، وتحصيل حاصل، ولا يتعدى أن يكون تشدقاً بالتسميات كما قال سيّار الجميل في مقاله (المعاني الدستورية بين الأهداف والمباديء). وقد كان سيّار الجميل على حق حين علق على المادة السادسة من الدستور التي تقول بأن "السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات، يمارسها بالاقتراع العام السري المباشر أو بالانتخاب والاستفتاء السري المباشر وعبر مؤسساته الدستورية". فقال: "إذا كان الشعب مصدر السلطات، فكيف هي دولة اسلامية؟ ولماذا هذه الاستعارة للتحدث باسم الدين تارة والتحدث باسم الشعب تارة اخرى؟ ولكن يبدو أن لجنة اعداد الدستور ارادت ترضية رجال الدين من شيعة وسُنَّة". وخاصة السُنَّة المستعصية على التحرر والتحرير، والتي ناصبت الشعب العراقي العداء ، كما وقفت ضد الدولة والحرية والديمقراطية والانتخابات.
والمادة الثانية تشير إلى أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام. وهذه المادة مذكورة في كل الدساتير العربية دون استثناء. لكن أين الإسلام في هذه الدول؟ فهذه المادة هي مادة تزويقية في الدساتير العربية لاشباع رغبة المؤسسة الدينية، وكفِّ شرها لا غير. وكان من الحكمة والرشد عدم ذكرها على الإطلاق، نتيجة للتعدد الديني والطائفي والعرقي في العراق والذي لا مثيل له في العالم العربي. فمثل هذه المادة تحصيل حاصل. فهل من الممكن أن يكون دين الدولة العراقية المسيحية أو اليهودية أو البوذية؟ ولكن ذكرها على هذا النحو يثير النعرات والغرائز الدينية والعرقية والطائفية. ويجب علينا الوعي بأن الأحكام الشرعية التي جاء بها الإسلام وخاصة ما يتعلق بالعقوبات والحدود وخلاف ذلك أحكام وضعت لمجتمعات كانت سائدة بقيمها المختلفة منذ 14 قرناً ولم تعد قائمة الآن. فالقوانين لا تخلق المجتمعات، ولكن المجتمعات هي التي توجد القوانين. زيادة على ذلك فنحن في العالم العربي ضمن منظومة انسانية كونية واسعة وشاملة شئنا أم أبينا. وعلينا أن نخضع للمبادئ والقيم الإنسانية السائدة الآن في العالم شئنا أم أبينا، لأننا لا نعيش على كوكب آخر منفصل. فنحن مطالبون أن نتبع الشرعة الدولية وقيم منظمات حقوق الانسان والمجتمعات المدنية. واعتقد بأن نظرة واقعية وعاقلة للإسلام لن تمنع من تطوير الشرائع الدينية على اختلافها. ومن يستمع إلى الشيوخ الإسلاميين المتنورين كالمصريين جمال البنا وأحمد صبحي منصور والقطري عبد الحميد الانصاري وغيرهم، يرى أن الإسلام بعيد عن تفسير المفسرين أصحاب المصالح والفضائح. وأنه أقرب الأديان إلى شرائع منظمات حقوق الإنسان الآن. وهناك مواد أخرى نقدها سيّار الجميل وهي تدلُّ على أن لجنة اعداد الدستور اتصفت حقيقةً بالسذاجة والخوف، وارتعشت الأقلام في يدها على أصوات السيارات المفخخة في شوارع بغداد وباقي أنحاء العراق. ولكن الكلمة الأخيرة تبقى للشعب العراقي في قبول هذا الدستور أو غيره.
نقود ليبرالية أخرى
ويكتب الصديق عبد الخالق حسين (ملاحظات حول مسودة الدستور العراقي) نفس النقود على هذه المواد ويضيف مضيئاً أن اصرار الإسلاميين من سُنَّة وشيعة على إطلاق اسم (الجمهورية الإسلامية) على الدولة العراقية، سيُلحق أشد الأضرار بالإسلام قبل أي شيء آخر. لأنه سينفِّر الناس من الإسلام كما حصل في إيران. والتسمية نذير شؤم وتثير الذعر في نفوس الكثيرين من الناس، داخل العراق وخارجه، خاصة في هذا العهد حيث تفشي الإرهاب الإسلامي الذي يعاني منه العراقيون أكثر من غيرهم. كما أن هذه خطوة تمهيدية لحكم ولاية الفقيه الخمينية في إيران. كذلك فإن زجَّ الدين بالأمور السياسية سيعرقل تقدم الدولة وتطورها، لأن الدين ثابت والسياسة متغيرة .
وقول عبد الخالق حسين صحيح وواقعي. فالدولة التي تعلن انها دينية اسلامية تقع في شباك صعبة ومطبات عميقة. فهي إما أن تطبق شرائع الإسلام التي كانت سائدة لمجتمعات معينة بعينها قبل 14 قرناً، وبذا تصطدم مع قيم الإنسانية المدنية السائدة الآن في العالم، كما تصطدم مع قيم جمعيات حقوق الإنسان فيما يتعلق بالحدود والعقوبات وحقوق المرأة وحرية التدين .. الخ. وإما أن تغضَّ الطرف عن تطبيق هذه الشرائع كما تفعل معظم الدول العربية الآن – رغم أن المادة الرئيسية من دساتيرها تقول بأن دين الدولة الإسلام.. الخ - فتصبح مرمى حجارة وبطش الجماعات الإسلامية، وهدفاً لحملاتها الدينية المسعورة، ونعتها بأنها دول كافرة يجوز قتالها وقتل موظفيها، كما أفتى علي بلحاج زعيم "جبهة الانقاذ الجزائرية" بالأمس، تعليقاً على مقتل الديبلوماسيين الجزائريين في العراق.
اقحام الدين في السياسة
من يعتقد بأن الليبراليين العرب الجدد كفار وزنادقة، وأنهم ضد الدين، حين يعلنون مطالبتهم بدول علمانية لا دينية، هو على خطأ كبير. فالليبراليون ليسوا ضد الدين، ولا هم بكفرة. فالعلمانية التي ينادي بها الليبراليون ليست هي العلمانية التي تنكر الدين، ولكنها هي التي تفصل بين الدين والسياسة، حيث لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة. ومن هنا شجعنا الحوار مع الإخوان المسلمين عندما تخلوا عن اقامة الدولة الدينية على لسان قادتهم الجدد ممن وصفناهم بالإخوان الجُدد Neo-Bros (انظر مقالاتنا: (هل سيدخل الإخوان المسلمون القص الذهب؟ وهل سيأتي الإخوان المسلمون بالطوفان الأكبر؟ والإخوان الموحدون بدلاً من الإخوان المسلمين). ومن هنا ثبت أن معارضتنا لاقحام الدين في السياسة معارضة أساسية وسليمة، بعد أن رأينا ماذا فعل الارهابيون الأصوليون، عندما استعملوا الدين كغطاء للارهاب السياسي الدموي. وقد ركز عبد الخالق حسين في مقاله على هذه نقطة، حين اعتبر أن المادة الثانية من الدستور ( الاسلام دين الدولة الرسمي، وهو المصدر الأساسي للتشريع، ولا يجوز سنّ قانون يتعارض مع ثوابته المجمع عليها وأحكامه.. الخ.) المسمار الذي سيدق في نعش الدولة العراقية الجديدة، وعزل الشعب العراقي عن كل ما يمت لهذا العصر من منجزات حضارية، حققتها البشرية في الديمقراطية والحضارة والحداثة والعلوم والفنون والآداب وغيرها.
دعوة إلى حملة ليبرالية جماعية
في رسالة بعث بها اليَّ د. جواد هاشم وزير التخطيط العراقي السابق وأحد المفكرين الاقتصاديين الليبراليين، والذي شاركنا في اعداد (البيان الأممي ضد الارهاب) الذي هو الآن بين يدي أعضاء مجلس الأمن الدولي، ليقرروا ماذا يمكن أن يفعلوا حياله، طالب جواد القيام بحملة عالمية فورية للوقوف في وجه من يريدون اعادة العراق إلى العصور المظلمة من خلال هذا الدستور المقترح. ولا اعتقد بأن أي ليبرالي في العالم العربي أو في خارجه سيعارض هذه الحملة.
ولكني أرى أن الشعب العراقي كما أثبت في الانتخابات التشريعية ( يناير 2005) على وعي تام. وأنه غداً سوف يصوّت ضد هذا الدستور، فيما لو بقيت مواد هذا الدستور على حالها. وأرى أن من واجب كافة الليبراليين داخل العراق وخارجه توعية الشعب العراقي- صاحب الكلمة الفصل في قانونية هذا الدستور واعتماده- بما في هذا الدستور من مواد لا تليق أبداً بالعراق الجديد، ولا بالتضحيات الكبرى العسكرية والسياسية والمالية التي بذلت من أجله.
الليبراليون وحدهم لا يكفي
ولكن جهد الليبراليين وحدهم لا يكفي. ولو وقف الليبراليون وحدهم عام 1945 في اليابان إلى جانب دستور مكارثر المفروض على الشعب الياباني، لما دارت عجلة الديمقراطية في اليابان، ولما تبنت اليابان دستوراً حداثياً يليق بالمرحلة القادمة التي خطنها اليابان.
إن الذي اقرَّ الدستور الحداثي الياباني هي القوة الأمريكية. والديبلوماسية الأمريكية اليوم ومعها ديبلوماسيات دول التحالف الأخرى التي ضحت تضحيات كبيرة عسكرية وبشرية ومالية من أجل الدستور الحداثي العراقي، بينما وقف العربان يتفرجون على مشهد لا يعينهم من قريب أو من بعيد.. هذه القوى مطالبة اليوم بالوقوف إلى جانب اقرار دستور عراقي حداثي لا يُفرِّق بين الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق. واعتبار كل مواطن يعيش على ارض العراق مواطناً يتساوى مع الآخرين في الحقوق والواجبات في ظل الشرعية الدوليـة وقيم منظمات حقوق الانسان والمجتمعــات المدنيــة.
وبصراحة مطلقة، لا أظن أبداً أن أمريكا وبريطانيا ترضيان بدستور ينتسب الى القرون الوسطى. والعودة إلى الوراء مئات السنين ارضاء لمجموعة من فقهاء الطوائف الدينية الذين ما زالوا يحلمون بقيام الخلافة الإسلامية.
فليس من أجل هذا دقت الساعة في العراق، وقرعت القارعة، وحارب المحاربون، ودافع المدافعون، وصرف الصارفون، واستشهد المستشهدون.