خوازيق دقّت في اقفية العراق!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"الضرورات تبيح المحظورات" (مثل عربي قديم)
مقدمة
عندما اصارح كل العاقيين بكل مكوناتهم الاجتماعية واطيافهم السياسية والوانهم الثقافية بما يدور في عقلي ووجداني وما احمله من هموم عراقية وما يحمّلني لنشره كل من يتّصل بي من شتى ابناء البلاد في الداخل والخارج.. فان رسالتي والله بريئة ولا ترمي ابدا الا الى اشاعة الصفاء والمحبة والعودة الى حضن العراق.. وليكن معلوما للناس اجمعين بأنني لا اطمح لأي منصب او جاه او مكانة سياسية اذ انني سعيد جدا بمكانتي في الحياة الثقافية والفكرية والتخصصيّة.. وليعلم كل من يخالفني الرأي والعواطف السياسية والاتجاه الفكري، بأن العراق بلاد المدنية والقوانين والحضارات الى جانب كونها بلاد التاريخ والامبراطوريات والاساطير ولا يمكن ان تكون موطنا للانبياء والائمة والاديان فقط.. فمن يريد ان يستحوذ على العراق باسم الدين، فان العراق بيئة احتوت على شتى الاديان.. ولم يكن العراق بلادا لجماعة معينة او طائفة محددة.. فليس من العدل ابدا ان يكون العراق محتكرا من قبل سنة او شيعة او اخرين من اي طائفة ولا اي دين! في مقالتي الاسبوعية المتواضعة هذه بعض من " مصارحة " لكل من يريد ان يسمع القول ويخالفني بالحق.. بالرأي لا بالمبدأ، وبعيدا جدا عن اي هوى او تعّصب او جنوح او اي مصادرة او غلو.. فليس لنا جميعا من مرجع مكين في الارض حاضرا ومستقبلا ومصيرا الا العراق. وهذا ما اجده حّقا حتى عند من يريد تقرير المصير.
لماذا شقاء العراق والعراقيين؟
ليس هناك أشقى على العراقيين من ان يتّعصبوا لكّل ما ليس له علاقة بالعراق ومستقبل العراقيين! اذا لم يؤمن احد بهذا " المبدأ "، فليقل صراحة ذلك كما خرج البعض من العراقيين عن الطريق، وقال بأنه لا يستوي وهذا العراق! من لم يجد بغيته وهويته وقيمه وجغرافيته وبيئته وفضاؤه مع هذا العراق، فليعلن عن ذلك بصراحة تامة من دون لف ولا دوران.. اما ان يستخدم كل الوسائل والموبقات والمسمّيات والمصالح والمنافع والمناصب من اجل ان يقول بأنه " عراقي " وهو يخفي هوية غير العراق، فهو ليس بعراقي وليس له اي انتماء لتراب العراق! فالمسألة مسألة مبدأ واخلاق وليس سلعة تباع وتشرى!! من لم يؤمن بأن العراق كان ولم يزل وسيبقى بلاد الرافدين بشريانيه الازليين دجلة والفرات وكل روافدهما.. فلن يكن باستطاعته ان يتبجّح بعراقيته امام العالم.. وانني اعرف من العراقيين من يخفي عراقيته لأنه يشقى بها من كل الجهات! فالمترسخ في وجدانه منذ سنين هو عراق الاذى والنقمة والظلم والبلاء وما سمعه ورآه وتربّى عليه حتى وان كان، حقيقة مؤقتة.. ولكن لا يدرك بأن العراق الازلي هو مستقبل اولاده واحفاده.. هو ماؤه وهو ترابه وارضه وخصبه وثرائه وحدوده.. هو الذي يطعمه ويسقيه ويتربى فيه ويعتاش منه وينتقل عليه.. انه بيته الازلي الذي لم يتملكه نظام او قبيلة او دكتاتور او عشيرة او طائفة او قومية الى ابد الابدين.. انه العراق.
انقسام العراق وجبة للوحوش الضارية
انني اعرف بأن هناك من يقول بأن العراق من صنع الانكليز كما عّلق أحدهم على احدى مقالاتي بالانكليزية، او كما قال ذلك لاخرون منذ سنين ولكنهم لا يدركون عمق تاريخ العراق ولا يدركون معنى جغرافية العراق.. ولا يدركون المجال الحيوي للعراق، فان انقسم - لا سمح الله - اكلته الوحوش والضواري مباشرة! والمصيبة اليوم ان حصون العراق قد تهدمت من دواخلها ليصبح على ايدي ابنائه بلدا عاجزا قابلا للتفكك والانشطار، وكّنا نحلم ببلاد جميلة اثر سقوط صدام حسين فاذا بالعراق نجده يحترق امام عيوننا ولم يفعل من اجله شيئا كل العراقيين!! انه عندما رسم الانكليز حدود العراق الحالية، فلم يصنعونها من الوهم او من العدم! وأقرّتها عصبة الامم. لقد توارثوها عن ماض وتاريخ يمتد لاربعة قرون حدود ثلاث ولايات عثمانية عراقية هي: الموصل كثيفة ومتنوعة السكان شمالا وبغداد شاسعة الاطراف في الوسط والبصرة ثغر العراق في الجنوب.. بل وان اسم العراق (او: موزبوتيميا) قديم قدم التاريخ وليس لأحد الحق في تزييفه او تشويهه او التلاعب به.. وليجرب حظه من يريد الانقسام ان كان سيجد بيديه ما يريد فعله وليرى اين يصبح ويصير في غضون زمن قصير.. هذه حقيقة يدركها عقلاء العراق كلهم من اي تكوين ويجهلها كل الجاهلين.
ان من يريد الانقسام فليس له الحق في ان يسّمي اي جزء منه بالعراق، فالعراق وحدة جغرافية قديمة افتقدت اجزاء منها على مر الزمن منذ العصور الكلاسيكية وهذه الوحدة الجغرافية قد انصهرت فيها جملة هائلة من الاقوام العريقة والطارئة، ولكنها استطاعت ان تغدو عراقية مع الزمن باندماجاتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. فالحدود الطبيعية هي سلاسل جبال زاكروس شرقا والممتدة نحو طورورس وانتي طوروس شمالا.. اما ما يعلو ما بين النهرين، فهو جزء لا يتجزأ من العراق وبضمنه اجزاء من ولاية الرقة القديمة (في سوريا حاليا) واجزاء من ولاية ديار بكر القديمة (في تركيا حاليا). اما شرق شط العرب، فان كل الوثائق التاريخية تشير الى ان كل ما استحوذت عليه ايران هو عراقي منذ القدم، ولكم ان تقرأوا وثائق التاريخ الرسمية وليست وجهات النظر الشخصية.. عليكم ان تستشيروا من هو مختص بهذا الامر قبل ان تسمعوا ما يقوله الجاهلون!!
انني اذ اذكر هذا تاريخيا من قبيل التذكير فقط، ولا اشجع ابدا على المطالبة به، ولكن لأذكر العراقيين الانقساميين بأن تجزأة المجزأ حرام عليكم، بل وانها جريمة تاريخية ترتكب بحق العراق والعراقيين.. ولا يمكن ابدا ان يبقى هذا التوّجه موجودا لدى هؤلاء الذين لا يدركون مصالح العراق العليا وهم جهلة اغبياء لا يدركون قيمة الجغرافية والاستراتيجية في عالم اليوم وليس لديهم اي انتماء ولا اي هوية ولا اي قيم ولا اي اخلاق.. ولا اعتقد ان من السهولة ابدا انقسام العراق بأي مسمّيات كانت كون ذلك سيفتح الباب امام مشكلات ومعضلات لا اول لها ولا آخر سواء في الداخل ام الاقليم.. انني اعتقد بأن هناك غالبية من العراقيين البررة يخشون على اي شبر من تراب وفي اي محافظة اكثر مما يخشى عليه ابناؤها انفسهم!
خازوق ام خوازيق!!
ان التشققات التي تحدث اليوم في المجتمع العراقي والتي لم يشهد تاريخنا الاجتماعي مثلها ابدا، انما هي تعبير فاضح عن حالات الاستقطاب الطائفي والعرقي الذي يشهده المجتمع. ولعّل ابرز اسباب تفجير حالاته هي المحاصصة السياسية والادارية المكشوف عنها والتي عمل بها العراقيون من خلال اعلى جهاز تشريعي في البلاد سمي بمجلس الحكم الانتقالي.. ثم بدأت المحاصصات على مستوى الوزارات والادارات في المرحلة الثانية، وفي المرحلة الثالثة غدت مشاعة حتى عند المثقفين العراقيين الذين يدعّون الاستنارة والتقدم كونهم اناس من المتحضريّن، وعجبت لأمرهم حقا، فقد اصبحوا كالساسة يعلنون عكس ما يخفون، ويظهرون عكس ما يبطنون! لقد اخذ التمييز الطائفي ابعادا ليس سياسية حسب، بل ابعادا اعلامية فجّة.. ويّصرح به من قبل قادة البلاد الجدد والمرشّحون للانتخابات والاحزاب والجماعات وكأنه تحصيل حاصل لكل العراقيين. ان مجرد الاعلان عن " طائفة "، فهو اعلان عن هوية بديلة في العراق.. ارادوا ان يلعبوا بها باسم العراق وجعلوا الناس اسرى التخندقات والتحالفات، وانا اقصد بها كل الطائفيين من كلا الجانبين..
ان اسوأ ما نشهده اليوم في العراق هو هذه التقسيمات البليدة التي تشمئز منها نفوس، ولكن تتباهى بها نفوس من نوع آخر.. ولا اريد ان اهاجم اي طرف كيلا احسب مدافعا عن الطرف الاخر وانا برئ من هكذا تسميات، واعلن للناس اجمعين بأنني عراقي لا هوية عندي غير العراق ولا اعترف بأي تسمية غيرها ولا افتخر بأي طائفة ابدا مهما كانت مثالية وملائكية.. انني لا اعترف الا بهوية العراق ولا اعمل الا بها والا اخطو الا من خلالها ولا استند الا عليها.. وكل من يعلن عن غيرها فهو يخالف العراق وقيم العراق وينأى عن كل روح العراق بل وينكأ كل جروح العراق.. ان من يريد ان يلتحق بالركب فليسجل من هذه اللحظة قوله: انني لا اعترف سياسيا الا بالعراق اما في المجتمع فليفعل ما يشاء..
ان الوطنية الحقيقية لا تعرف الطائفية السياسية ولا العرقية الشوفينية ولا العشائرية العقيمة ولا كل امراض التاريخ واوبئة الجغرافية في العراق.. من يريد ان يكون عراقيا حقيقيا فليعلن براءته من اي انتماء غير العراق.. من يريد ان يكون من الخيرّين لهذا العراق الذي سقانا من مائه واطعمنا من ارضه ووهبنا من ثرواته وجنينا من خصبه.. فليقل: ليس لي غير العراق. وكل ما يتشدق به الاخرون ما هي خوازيق ندقها في قلب العراق وما هي الا اسافين نزرعها في جسد العراق.. وهل هناك اقدم من العراق بيئة وحضارة وتكوينا وتاريخا حتى نتخذ الجزء اصلا، او نستجدي الوطن من مومياءات او شياطين.. او نجعل من القادة البلهاء آلهة وسلاطين؟؟
من يعلن عن شجاعته من العراقيين؟
دعوني اقول لكم بأن لا علاج لكل ما حدث ويحدث من انشقاقات وتمزقات الا ترجمة الاقوال افعالا.. ومن يترجم كل لك على رؤوس الاشهاد؟ من يمتلك الشجاعة والبأس ليقول: ها انا ذا سانزع هذه الجبة وهذا الرداء والبس كل العراق؟ من له كل الشجاعة ان يعلن لكل العالم: ها انا ذا ابدّل كل هذه التسميات والاعلانات للاحزاب والجماعات والبيوتات والهيئات من اسماء دينية او عرقية او انقسامية او طائفية الى تسميّات عراقية خالصة؟ من يجرؤ ان يوّحد اشكال الناس في العراق فالعراقيون اليوم منقسمون حتى في اشكالهم: عراقيون بلحى وعراقيون حليقون.. عراقيون باربطة عنق فاخرة وعراقيون بلا ربطة عنق.. عراقيون بعمائم وجبّات وعراقيون افندية ببدلات.. عراقيون بدشاديش وعكل ونعل وعراقيون بشورتات وتي شيرتات!! عراقيات محجّبات وعراقيات سافرات. ويبدو ان اللحية اصبحت في العراق عنوان الاتجاه الديني وان من يحلقها لا يتمسك بأي اتجاه ديني.. ولكن بدا لي ان هناك الالاف المؤلفة من العراقيين ومن حليقي اللحى هم من اشرس التكفيريين! فما الذي يوّحد كل العراقيين بعد ان ذهبت سيدارة فيصل وبنطلون عبد الكريم قاسم ودشاديش صدام حسين؟؟
على العراقيين ان يعودوا الى نقائهم وروعة مدنيتهم واساليب تعايشهم بعد ان جعلتهم كل هذي السنين اناسا يقولون ما لايفعلون وجعلتهم يبطنون عكس ما يظهرون.. لقد قال لي احد اصدقائي الخلص بعد ان التقيته اثر سنين: لو كان بيدي لما تزوجّ زوجته وهي على غير طائفته منذ قرابة خمسين سنة؟ هل وصل الغلو الى هذا الحد عند العراقيين؟ من المسؤول عنه يا ترى اليوم اليوم وليس قبل سنين؟؟ فمن باستطاعته ان يرجع الحال الى طبيعتها العراقية؟ اين اولئك المصلحون اذ غدا التعّصب الطائفي يشّل قدرات حتى المثقفين؟ اقول: على كل عراقي ان يرى العيوب في نفسه قبل ان يتظّلم من الاخرين.. على كل عراقي ان يقول: انا السبب الذي جعل الاخر سببا للاذى والدمار.. على كل عراقي ان يثق بغيره من العراقيين.. على كل عراقي ان اشتغل في السياسة ان يجعل الدين بكل جلاله ووقاره متجليا في الاعالي ويكون سياسيا يلعب باوراق العراق على الارض لا بنصوص الدين والسماء.. على كل عراقي ان لا يجعل من التاريخ بكل كآبته وقسوته وسطوته مرجعا اساسيا له يتلظى به ومن خلاله ويجعله مرجلا يغلي الماء فيه ليسلق به غيره من العراقيين.. فما ذنب الاجيال المعاصرة اليوم من ذنوب اصحاب الماضي بكل عقمه السياسي ومحنه الغريبة؟؟ وما علاقة اشباح الماضي بشخوص اليوم؟ من يجرؤ ان يعلن ما اقول على رؤوس الاشهاد؟
الجحيم يلتهم الجميع
اقول: لا خلاص من الانشقاقات الا بدفع اثمان عالية من الضرائب المعنوية، ولا يقولن أحد بأن الارهاب ضد جماعة على حساب جماعة اخرى.. فلقد شمل الانقسام والمحاصصة حتى في التعاطفات والتعازي والاحزان بين هذا الطرف او ذاك، فهذا ينعي كربلاء الطاهرة وشهداء من سقطوا عند بوابة الامام الحسين (رض) من دون ذكر ما حدث في نفس اللحظات في الرمادي من سقوط شهداء شباب عند بوابة مركز تجنيد.. ما حدث يوم الخميس المشؤوم 5 يناير 2006 من مآس وجرائم يعلن للعالم كلّه بأن الجحيم يلتهم الجميع.. ولكن يبقى هذا من ينعي هنا ويبقى ذاك من ينعي هناك، وكأن ليس هؤلاء كلهم من العراقيين؟؟ هذا الانقسام ومشيعيه من الانقساميين هم اول من يكّرس هذا الارهاب المجنون في العراق.. ويغرس هذا التهميش وهذا العزل وهذه الحدود وهذه النعرة وهذا الانشقاق.. هو سبب مباشر للبلاء الاسود الذي يجتاح العراق. من يريد للعراق خيرا ان لا يكتفي بالتنديد والتشدق بالكلام والولولة والبكاء والادانة وتوزيع الشفقة.. من يريد للعراق خيرا ان يعلن على رؤوس الاشهاد انه براء من كل من يهجم بيت العراق.. ان يعلن انه ضد كل الوحوش الكاسرة من الظلاميين والارهابيين والاصوليين والانقساميين والطائفيين ومن الشوفينيين ومن كل المتعصّبين المارقين.. الخ علينا بثقافة عراقية جديدة ايها العراقيون.. علينا بثقافة التسامح والمحبة.. علينا ان نغرس قيم الانفتاح والمساعدة وروح الالفة والنقاء.. علينا ان نستعيد مبادئ الجيرة والشراكة والتعايش.. علينا ان نفّكر تفكيرا مدنيا بعيدا عن غلو التطرف والتعصّب والتكفير.. علينا ان نفّرق بين قيم الدين العليا التي توّحد البشر وبين نزعات الطائفية التي ترّسخ الانقسامات..
تشظيات عراقية في ندوة مغلقة
ان ما سمعته قبل ايام عندما كنت ضيفا على واحد من المراكز العلمية العربية في احدى العواصم العربية وهو يعقد ندوة مغلقة يوم الثلاثاء 27 ديسمبر 2005، والتي حضرها بعض الشخصيات من قادة ومثقفين عراقيين فضلا عن ضيوف من بلدان اقليمية شتى.. لقد صعقني ما دار في جلساتها، فاللغة التي يتبادل بها بعض القادة العراقيين الجدد لا تستوي وابسط قواعد الوطنية العراقية.. وكأن العراق قد احتكر من قبل مجموعة معينة من البشر وليذهب كل العراقيين الى الجحيم. انني اثمّن كل صفحات النضال التي خاضها البعض من العراقيين ضد حكم الطاغية الجلاد، ولكن حتى ذلك كله او بعضه لا يمكن ان تحتكره جماعة على حساب جماعات اخرى وشخوص حقيقيين في عراقيتهم ووطنيتهم ونضالهم ومعاناتهم على عهد الجلاد ومن قبل عهده.. ان العراقيين الجدد لا تهمهم الا مصالحهم من دون ان يقولوا نحن واياكم سواء في سفينة واحدة، فان غرقتم غرقنا وان غرقنا غرقتم.. رأيت بأن حتى " المظلومية" محتكرة من قبل جماعة دون اخرى بمعنى ان العراق محتكر من قبل جماعة دون اخرى وليذهب كل العراقيين الى الجحيم..
رأيت من يقول: ها نحن والعراق قد اصبح بأيدينا.. ونحن الذين نتفّضل على الاخرين بتوزيع الادوار ونمّن بها على الاخرين! خلصت بأن " الحقيقة " - ان كانت هناك حقيقة - يريد البعض الاستحواذ عليها فقط من دون الاخرين! وجدتهم يعتبرون انفسهم الوحيدون الذين قارعوا النظام السابق واسقطوه من دون ان يدركوا حقيقة تاريخية بأن النضال ضد صدام حسين والنظام السابق قد اشتركت فيه كل مكونات العراق.. وان الذي اسقطه حقيقة هو جيش اجنبي تكّون من تحالف دولي في حرب شرسة جدا نالت من كل العراقيين، فكان ذلك ثمنا باهضا لسقوط الجلاد! وجدت بأن الطائفية السياسية بكل شراستها تمتلكها جماعات متنوعة وقد غلبت فيها الطائفية الاجتماعية بكل سماحتها وكأن الساسة في العراق لا يتعاملون الا باسلوب طوائف وزمر واقسام وجماعات وعصابات كلها تتعصّب لنفسها.. ربما يحدث مثل هذا في دول ومجتمعات اخرى، ولكن التعصّبات المحلية والجهوية تذوب فجأة هناك اذا ما تدخل غريب عليها!
رأيت وكأن العروبة قد اصبحت رجس من عمل الشيطان.. من دون الفصل بين القومية العربية واوساخها وبين العروبة الحضارية وقيمها الاصيلة.. رأيت هناك رفضا كاسحا لكل ما يمت للعرب المعاصرين بصلة وكأن كل العرب اليوم هم اعداء للعراق.. علما بأن هناك عربا يقفون مع محنة العراق واوجاعه.. رأيت وكأن ايران خطا احمرا لا يمكن الاقتراب منه.. فكيف يمكن تجاوزه والتعامل معه؟ لم يقتنع هؤلاء بأن ايران جارة يمكننا ان نحترمها ولابد ان تكون مراعية لمصالح العراق، بل انهم يجدونها قطعة كريستال مقدّسة.. كما يرى اشياع العرب على الطرف الاخر من المعادلة، بأن جامعة الدول العربية " هيئة مبجلة " اذا قالت شيئا تقول له: كن فيكون!!
الكل يؤمن باشياء واهية لا يعرف طبيعتها، ولم يمتلك فراسة الرجال في التعامل معها.. والسياسة - كما اعرف - فراسة وفن عالي المستوى في التعامل بين صاحبها والجماهير ليترجم امنياتها وتطلعاتها الى قرارات واقعية على الارض من دون لغو ولا ثرثرة ولا اوهام ، ولم اجد في العراق اليوم اي ساسة لهم فراسة وبعد نظر الا من اقصي او همّش او ابعد او ذهب طريدا او هاربا!! رأيت تزويرا غبيا للتاريخ وبشكل مفضوح، وكأن العراق حكمته عصابة واحدة على امتداد الزمن والتاريخ واليوم جاء وقت الثأر والحساب! رأيت اطلاق احكام لا تليق برجال يشاركون في حكم العراق.. فكيف يمكن ان يقّسم العراق سكانيا وطائفيا وعرقيا بنسب لا تستقيم والحقيقة المغّيبة؟ رأيت عدم استماع ولا مشاطرة لأي رأي مخالف طرحه في الندوة الصديق الدكتور غسان العطيّة الذي كان صريحا وجريئا في شرح بعض المعضلات.
الدمامل المتقيّحة في كل العراق
ان السياسات التي اتبعّها السابقون من حكام العراق في القرن العشرين تتكرر اليوم باشكال وألوان أخرى، انني لا ارغب ان تبقى الدمامل ملتهبة في الاعماق، ولكن لا اريد بنفس الوقت ان تتقّيح وتلقي بكل عفنها واوجاعها على هذا العالم. فهل من طريق نسلكه كي نشفي جروحنا وقروحنا نحن العراقيين؟ هل يمكن ان يسأل اي عراقي عن اشياء لا يمكن ان تحدث في اي كيان آخر في هذا الوجود بمثل ما يحدث في العراق: هل وجدتم دولة حتى وهي مثلومة السيادة تعيش بعلمين اثنين مع احترامي لكل الارادات؟ هل وجدتم دولة تثوي في داخلها عدة دول واشياع وميليشيات وقوى وجماعات وعصابات..؟؟ اما ما يجري من محاكمات لصدام وزبانيته، فاذا كانت المحكمة امريكية بوجوه عراقية فلماذا تسمى بمحاكمة عراقية؟ واي تهميش واقصاء هذا الذي يتبعه العراقيون في السلطة لكل المثقفين والمتخصصين والمبدعين والعلماء من المستنيرين العراقيين في الداخل والخارج؟ اي حكومة تفشل في اداء الواجب لا يمكنها الا ان تستقيل بسبب عجزها، فكيف ببلاد العجائب ترجع ثانية الى الحكم تحت عباءات انتخابية وتحت مظلة دستورية؟
ما هذه الحملات الهوجاء التي يقودها الجهلاء والمتخلّفون الذين يباركهم القادة الجدد ضد كل الاطياف السياسية العراقية من الاحرار والليبراليين والماركسيين والقوميين والحركيين.. واغلب هؤلاء من العلمانيين، وكأن العلمانيين اصبحوا وباء خطيرا في العراق وهم لم يجدوا فرصتهم في اصلاح العراق؟ وكأنهم لم يكونوا اكثر قدرة في حل المشكلات من غيرهم؟ وكأن هؤلاء ليس لهم اديان وعقائد وافكار ومنافع للبلاد والعباد؟ ما هذا الاقصاء للعراقيين يا ترى؟ كلّ يقصي الاخر والتفّرد به والنيل منه؟ ما هذا التزوير للحقائق التاريخية والجغرافية والسكانية.. وكأننا في سباق محموم كي يستحوذ هذا على ذاك؟ وكأننا اعداء لبعضنا البعض الاخر وكأن الكراهية عنوان حياتنا.. كل الامم فيها اختلافات سياسية وفكرية ودينية ولكن لا نجد فيها عداوات واحقاد وكراهيات على القيم والمبادئ الوطنية.. كل الامم فيها تنوعات وتعدديات تختلف في الاساليب ولكنها تجتمع في المبادئ.. تتعايش مع بعضها الاخر ضمن حزمة وطنية من المبادئ الوطنية الا العراقيين الذين يصارع بعضهم بعضا على من يثبت انه الافضل طائفة والانقى عرقا والاطهر وطنية والاكثر مظلومية والاجدى جهوية.. الخ
تساؤلات من نوع آخر
لماذا جرى تجريم لكل الحاضر بمثل هذا الغلو، وكأن كل المعاصرين هم الذين يتحملون مسؤولية ما جرى من احتقانات وفتن ومؤامرات عبر التاريخ؟ لماذا لم نستمع طوال القرن العشرين عن مظلوميات وبكائيات لهذا الطرف او ذاك؟ لماذا يصبح الماضي بكل سلبياته وايجابياته حكما في العلاقة بين الاطراف التي تعلن عن احتقاناتها الطائفية على حساب العراق؟ ولماذا لا يكون العراق نفسه بكل خيره وشّره حكما لكم ايها العراقيون؟ لماذا حفر كل هذه الخنادق بين مكان وآخر على رقعة العراق تحت مسميات لم يعرفها العراقيون منذ القدم؟ لماذا ينكر عّلي البعض ما اقوله وانا العراقي الذي ليس لي ناقة ولا جمل بهذا العراق.. ولماذا يصبح الجميع كالدمى امام السفير الامريكي؟ وانا اعتب عتبا شديدا على واحد من اصدقائي المثقفين العراقيين الذين شاركوني الرأي عندما طرحت في الصيف الماضي مسألة تأجيل اقرار دستور لحين استقرار العراق.. ويأتي اليوم ليدافع عن انتخابات اقّرت المفوضية العليا واعترفت بحدوث تزويرات لا يمكن السكوت عليها وعن خروقات كبيرة فيها؟
الكل مستعجلون في طبخ دست الحكم وكأن ليس في العراق مصائب تحدث وكوارث تصيب العراقيين! لماذا يتّهم اليوم كل الذين ارادوا ان يكونوا احرارا في التعبير عن اجندتهم السياسية ولا اقول الوطنية؟ لماذا كل هذا التشدّق بالديمقراطية والكل مقتنع بما مارسته القوى الدينية من ضغوطات وتهديدات على الناس؟ لا ادري كيف اوّفق بين من يتشدّق بالعراق والوطنية العراقية وهو يكره العراقيين او بعض من لم يواله او بعض ممن يختلف عن عرقه ومذهبه وطائفته وعشيرته وقبيلته ومدينته؟؟ لماذا كل هذا الاخفاق حتى في التوافقات؟ ومن قال بهذا التوافق؟ ان التوافقات سوف لن تنجح ابدا ان بنيت على اسس غير وطنية عراقية.. فسوف يبقى العراق بمثل هذا الوضع او يسوء اكثر فاكثر نتيجة توافقات بليدة تمارس محاصصات على الهوية كي تنتج قتلا على الهوية العراقية كلها لا على هوية معينة! كم نادى العديد من العراقيين الاحرار ان تبتعد المراجع الدينية عن الشؤون السياسية في العراق من دون فائدة.. واعتقد ان سماحة الامام علي السيستاني لم يتدخّل مباشرة في العملية السياسية، ولكن هناك من يريد تسويق مرجعيته باسم الجماهير. وعليه، فما دام هناك تدخلات سافرة من هذه المراجع مهما كان لونها المذهبي او الطائفي، فان البلاء سيزداد مع توالي الايام. اما التشبّث بالسلطة، فهو امر لا يزيد العراق الا المآسي والكوارث..
من ينقذ العراق والعراقيين؟
اقول: ان من جّرب حظه في قيادة العراق حتى الان، فليدع الشأن والدور لغيره، فربما نجحت تجربة هذا على حساب ذاك.. ان تعاطفات هذا قد احرجت العراق، وان ضعف ذاك في صنع القرارات قد اهلكت العراق.. فمن هو ذاك الذي يمكنه انقاذ العراق؟ ان العراق ليس بحالة سوية، ولا هو بدولة مؤسسات راسخة كي يأتي كائنا من يكون الى حكم العراق في هذا الوقت بالذات ليقضي دوامه العادي ثم ينصرف لانتظار راتبه الشهري والحفلات الرسمية.. لابد من قيادة ذكية ومتمرسة ونشيطة وشجاعة ومتواضعة وحاسمة ونزيهة من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه تعمل في الليل والنهار، وتقّدم الاهم على المهم.. لابد من قادة جدد لا يمتوّن لكل من نعرفهم من الضعفاء بصلة.. لابد من قادة ينجحون في جمع الولاء عليهم.. لابد من معالجة اوضاع الفساد ولابد من الدخول مع الامريكان في مفاوضات عن تحديد مستقبل للعراق..
لا يمكن لوزراء عراقيين يسافرون ويصّرحون من دون علم رئيسهم.. لا يمكن ابقاء الاوضاع الخدمية سيئة للغاية.. لا يمكن ان نأتي برئيس وزراء لا يستطيع ان يعفي اي وزير من مهامه لفساد استشرى في مؤسسته خوفا من زعل حزب او خوفا من ازعاج طائفة او كتلة معينة فيضع الملف بعيدا مؤجلا اي مقترحات للاصلاح الجذري (وهذا ما حدّثني به اقرب المستشارين) !! لا يمكن ان يرضى الشعب عن تأسيس اي حكومة من دون حسم ما جرى في الانتخابات الاخيرة من خروقات وتزويرات.. لا يمكن ان يبقى العراقيون اسرى اعلام وثقافة طائفية مستشرية ولا شعارات اقصاء ولا سماع الاخذ بثارات عتيقة.. لابد من ان يتخلص العراق من كل الامراض التي تكاد تقتله..
هل باستطاعة مجلس النواب القادم ان يختار وزارة تكنوقراط تجمع غير السياسيين الحاليين لاربعة من السنين؟ هل باستطاعة حكومة قادمة ان تكون شديدة في اصلاح العراق بحزم وثبات وروية؟ هل باستطاعة حكومة قادمة الا تستمع الا الى العراقيين؟ هل من عقد مؤتمر وطني يجمع كل العراقيين على تراب العراق ليتفق الجميع على مبادئ للعراق لا يخرجوا عن طورها؟ هل يمكن للعراقيين ان ينتظروا اربعة سنين قادمة ليشهدوا انتخابات من نوع آخر تتم على اشخاص معينين ضمن دوائرهم لا على قوائم تستشري على كل العراق كمنطقة واحدة؟
واخيرا: مهمتنا "رسالة " وطنية في اعناق كل العراقيين
ومع اعتزازي بكل العراقيين ومحبتي لهم مهما كان عرقهم او لونهم او دينهم او طائفتهم او مكانهم او محافظتهم او اقليمهم في الشمال ام الجنوب، في الغرب ام الشرق، في الوسط ام في الرأس، اقول: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون من العراقيين؟ هل نترجم الاقوال وتبويس اللحى افعالا وانشطة وادوارا؟ هل نعلن عن مشروعات وبرامج علمية واستراتيجية من اجل البناء ام يبقى العمل في هوس الخطابات واستفحال الشعارات؟ هل ستبقى الحالة الامنية سيئة للغاية اذا ما بقيت الادارة والامن والداخلية غير قادرة على ضبط الاوضاع؟ هل يمكن لكل عراقي ان يتأمل قليلا في طرحته في مقالي هذا؟ هل هناك من يخالفني الرأي ام المبدأ في تخليص العراق والعراقيين من خوازيق دقّت في اقفيتهم؟ انني اقبل من يخالفني الرأي ولكن لا يمكن قبول من يخالفني المبدأ، الا ان كان عدوا للعراق والعراقيين.. وحاشا لكل عراقي ان يكون كذلك.. فان مهمتنا الوطنية والاخلاقية والدينية تتمثل بالحفاظ على وطن عريق اسمه: العراق.