رحلة ابن فضلان في بلاد الصقالبة (2/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في مذكراته يتوقف عند تشابه العادات بين شعب إسكندنافيا وبين الهندوس من حيث إحراق جثث الأموات.. وجواريهم ! وأيضا عند أشكال من التحرر الجنسي لدى الفايكنغ جعلت إبن فضلان يندهش ويثير ضحك ذلك القوم عليه.
كانت المنطقة التي تعرف اليوم بالنرويج والدنمرك والسويد وأجزاء من روسيا الحالية هي الموطن الأساسي للمجموعات البشرية التي عرفت في التاريخ باسم الفايكنغ. وكانت هذه المجموعات وثنية، ولم يحدث أن إحتكت أو اتصلت بعد بأي من أصحاب الديانات السماوية، لتحدد موقفها من هذه الديانات، وكان الاتصال التبشيري المسيحي بهذه الدول متأخر عنه في بقية البلدان الغربية، لذلك فإن تحول هذه المجموعات للمسيحية ومن بعدها أحفادها جاء متأخرا، إذ أن عمر المسيحية كديانة رسمية، لا يزيد في هذه البلدان عن ألف عام، وكان رجال الدين الذين قاموا بالبعثات التبشيرية الأولي، ينظرون للفايكنج بخوف شديد، لما عرف عنهم من إرتياد أعالي البحار والمحيطات للتجارة والقرصنة، وقد غلبت عليهم الصفة الأخيرة مقترنة بوثنيتهم البدائية التي طغت عليها السلوكيات العنيفة، وهذا كله مصدره كتابات الغربيين أنفسهم عن الفايكنغ وسلوكياتهم. وفي جانب آخر، تركت مجموعات الفايكنغ البشرية، بعض آثارها وعلاماتها الشكلية، في بعض البلدان التي زارتها أو أقامت فيها بشكل مؤقت، كما في أسماء بعض الأماكن في إنجلترا أو إسم روسيا الحالية فهو منسوب إلي اسم قبيلة من قبائل الفايكنغ (روس)، لذلك فاسم روسيا الدولة الحالية يكتب في اللغات الاسكندنافية الآن (روسلاند) أي بلاد (آل روس) نسبة إلي تلك القبيلة الفايكنغية. كل هذا المشهد الفايكنغي في عاداته وتقاليده، في علاقاته زمن السلم والحرب، كيف عاشها ابن فضلان؟، وماذا يبقي من ذلك الوصف لدى أحفاد الفايكنغ اليوم؟.
رحلة إبن فضلان
تنفيذا لأوامر الخليفة المقتدر بالله، بعد وصول كتاب المش بن يلطوار ملك الصقالبة، طالبا الدعم والمساعدة، تم تشكيل وفد الخليفة المقتدر بالله كما سبق أن اشرنا متضمنا أحمد بن فضلان، لتكون مهمته ضمن الوفد قراءة الكتاب عليه وتسليم ما أهدي إليه والاشراف علي الفقهاء والمعلمين
غادر الوفد المذكور، مدينة السلام بغداد يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر، سنة تسع وثلاثمائة هجرية الموافق حزيران 921 ميلادية، متوجها نحو البلغار عاصمة ملك الصقالبة، واعتمادا علي توليف خط سير الرحلة من كافة النسخ والمقاطع التي تكون منها الشكل الأخير لرسالة ابن فضلان يكون خط السير كالتالي، وهو الذي اعتمده الدكتور حيدر غيبة في الطبعة العربية للرسالة...
1 ـ بلاد العجم والترك
2 ـ بلاد الصقالبة
3 ـ الروسية
4 ـ الاسكندنافية
5 ـ بلاد الخرز
وهذه الطبعة، تضمنت الجزء الخاص بزيارة ابن فضلان لاسكندنافيا، التي خلت منها الطبعة الأولي التي حققها الدكتور سامي الدهان، رغم أن هذا الجزء يعادل في حجمه ثلثي صفحات الرسالة تقريبا.
ولما كان الهدف من هذه الدراسة استقصاء الكتابات العربية حول اسكندنافيا، سوف تقفز عن المحطات أو الأقطار الثلاثة الأولي في رحلة ابن فضلان، لتصل إلي اسكندنافيا.
الاتصال الأول بالفايكنغ
أطلق ابن فضلان اسم الروسية علي السكان الذين إلتقاهم في بلاد روسيا الحالية ولكن الاسم كان قد أطلق علي البلاد نسبة إلي قبيلة روس الفايكنغية التي استوطنت تلك البلاد قديما، وهي القبيلة الاسكندنافية الأولي التي إلتقاها ابن فضلان. كيف كان الانطباع الأول له إزاء مناظرهم وملابسهم الخارجية؟
"..رأيت الروسية وقد وافوا في تجارتهم، ونزلوا علي نهر إتل، فلم أر أتم أبدانا منهم كأنهم النخل، شقر حمر، لا يلبسون القراقط ولا الخفاتين، ولكن يلبس الرجل منهم كساءا يشتمل به علي أحد شقيه، ويخرج إحدي يديه منه، ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين، لا يفارقه جميع ما ذكرناه وسيوفهم صفائح مشطبة افرنجية، ومن حد ظفر الواحد منهم إلي عنقه مخضر شجر وصور وغير ذلك ".
تلك كانت صورة أو منظر الرجل من الفايكنغ قبل ألف وثمانين عاما، أما صورة أو منظر المرأة منهم..(وكل امرأة منهم علي ثديها حقة أو وعاءا معدنيا أو خشبيا مشدودة إما من حديد و إما من فضة أو من ذهب علي قدر مال زوجها ومقداره، وفي كل حقة حلقة فيها سكين مشدود علي الثدي أيضا، وفي أعناقهن أطواق من ذهب وفضة، لأن الرجل إذا ملك عشرة آلاف درهم صاغ لامرأته طوقا، وإن ملك عشرين ألفا صاغ لها طوقين، وكذلك كل عشرة ألاف درهم يزداد طوقا، فربما كان في عنق الواحدة منهن الاطواق الكثيرة ".
علاقاتهم الاجتماعية
(... ويجتمع في ا لبيت الواحد العشرة والعشرون والأقل و الأكثر، ولكل واحد سرير يجلس عليه، ومعهم الجواري الروقة للتجار، فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه، وربما اجتمعت الجماعة منهم علي هذه الحال بعضهم بحذا بعض وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من بعضهم جارية فيصادفه ينكحها فلا يزول عنها حتى يقضي إربه..) و (.. يعير أهل الشمال أهمية كبري لواجب المضيف، فهم يحيون كل زائر بحرارة ويحسنون وفادته ويقدمون له الكثير من الطعام والثياب، ويتبارى الأعيان والنبلاء من أجل الحصول علي هذا الشرف، وقد مثل فريقنا أمام "بوليويف" حيث أولمت لنا وليمة عظيمة، وقد أشرف بيوليويف بنفسه عليها... تظاهر فريقنا بالاستمتاع بالطعام، تقديرا لشرف الوليمة، رغم أن الطعام كان رديئا، وتخلل الحفل كثير من قذف الطعام والشراب، ومن الضحك والمرح، وقد كان شائعا وسط هذا الاحتفال الجامح أن تري أحد الأعيان يمارس الحب مع إحدي الجواري على ملء النظر من زملائه.. أمام هذا المنظر، استدرت وقلت.. استغفر الله. فضحك رجال الشمال كثيرا على إرتباكي، وقد ترجم لي أحدهم أنهم يعتقدون أن الله ينظر بعين الرضا إلي المسرات المفتوحة، وقال لي (إنكم يا معشر العرب، مثل عجائز النساء، توجفون وترتجفون أمام منظر الحياة..).
مراسم الموت والدفن
من أغرب ما شاهده ابن فضلان عند أهل الشمال الاسكندنافيين، ووصفه في رسالته وصفا دقيقا، مراسم الموت ودفن الميت عندهم، فقد تصادف أثناء وجوده بينهم أن مات واحد من رجالهم الأجلاء، يدعى "ويغليف"، وقد حاول ابن فضلان الاستئذان للسفر إلا أنهم رفضوا طلبه وهددوه بالخناجر، مصرين أن يحضر الجنازة، لذلك جاء وصفه كشاهد عيان لهذه المراسم الغريبة العجيبة بالنسبة لابن فضلان المسلم متذكرين أنها تصدر عن قوم ما زالوا وثنين في ذلك الوقت. كيف كانت مراسم الموت والدفن تلك؟ حسب وصف شاهد العيان ابن فضلان، ولكن بلغتنا المعاصرة، فقد كانت تلك المراسم كالتالي:
عندما يموت رجل جليل منهم، أو أحد رؤسائهم يقومون بوضعه في قبره ويقفلون عليه القبر لمدة عشرة أيام، حتى يفرغوا من تفصيل وحياكة الملابس اللازمة لهذه المراسم، مراسم حرق الميت، ومن ضمن هذه المراسم أن تحرق معه إحدى جواريه.. من منكن يموت معه؟.. فوافقت واحدة منهن طائعة راضية بمحض إرادتها، فهذا حسب معتقداتهم شرف لها، ومن لحظة موافقتها، تسهر بقية الجواري علي خدمتها في كل أمور حياتها ومتطلباتها، لدرجة أنهن يغسلن رجليها بأيديهن وهم يستعدون لتفصيل وحياكة الملابس اللازمة للحرق (والجارية في كل يوم تشرب وتغني فرحة مستبشرة..).
ولما كان اليوم الذي سيحرق فيه الميت وجاريته، تقوم الاستعدادات لذلك أمام النهر الذي ترسو فيه سفينته، التي يجري إعدادها بشكل فائق الجودة والبذخ بما فيه السرير الذي سوف يمدد عليه الرجل /الرئيس المتوفى، وتشارك في هذه المراسم، إمرأة عجوز شمطاء، تسمي عندهم ملك الموت وهي التي تتولي قتل الجارية التي وافقت علي الموت مع سيدها وفي اللحظة المحددة يخرجون الميت من قبره، ويلبسونه سراويل جديدة، وخف له أزرار من ذهب ويجعلون علي رأسه قلنسوة من ديباج ويضعونه في الخيمة التي علي السفينة، ويجلسونه وقد اسندوه بالمساند، ووضعوا أمامه الفاكهة والريحان والنبيذ والخبز واللحم والبصل، ثم يقطعون كلبا نصفين ويلقونه في السفينة، ويضعون جنب المتوفى جميع سلاحه، ثم يجيئون بفرسين، يذبحونهما بعد الغرق ويقطعون لحمهم بالسيف ويلقونه بالسفينة، ثم يفعلون الشيء ذاته ببقرتين وديكا ودجاجة.. وأثناء ذلك تقوم الجارية التي سوف تحرق معه بالمرور داخل الخيم المنصوبة علي شاطئ النهر أمام السفينة. فينكحها كل صاحب خيمة ويقول لها.. قولي لمولاك إنما فعلت هذا حبا به... وبعد حركات متعددة تقوم الجارية أمام الحضور، ومع العجوز (ملك الموت) تصعد إلي السفينة، فتشرب النبيذ، قدحا بعد قدح، وملك الموت تقتلها بخنجر عريض النصل، والرجال يضربون بالخشب علي التراس، لئلا يسمع صوت صراخها، فتجزع بقية الجواري، فلا يوافقن بعد ذلك علي الموت مع أسيادهن، ثم يتم حرق السفينة بكل ما فيها: الرجل السيد المتوفى وجاريته المتوفاة، وكل الأشياء والحاجات التي تم جمعها في السفينة، أثناء تلك المراسم العجائبية.
أما المفارقة الأغرب فهي مقارنة أحد الاسكندنافيين بين مراسمهم هذه، ومراسم العرب في الدفن، فقد قيل لابن فضلان عبر المترجم: أنتم معاشر العرب حمقى.. إنكم تعمدون إلى أحب الناس إليكم وأكرمهم عليكم فتطرحونه في التراب وتأكله الهوام والدود، ونحن نحرقه بالنار في لحظة فيدخل الجنة من وقته وساعته، هل هي نفس الخلفية الفلسفية التي تحكم مسألة حرق الميت حتى اليوم عند الهندوس في الهند؟ ربما.. لأن بعض الهنود في زمن مضى، كانوا يحرقون مع الميت زوجته، إنها نفس المراسم تقريبا، عند الاسكندنافيين القدامى تحرق الجارية التي توافق طوعا محبة في سيدها المتوفى، وعند الهندوس زوجته التي توافق طوعا لمحبتها له.
تبدو مراسم الموت والدفن هذه العابقة برائحة النبيذ والجنس والنار غريبة ذات طابع عجائبي، لذلك سارع ابن فضلان لتفسيرها استنادا لعادات أهل اسكندنافيا ومعتقداتهم فقال: لا يجد هؤلاء اللاسكندنافيون سببا للحزن علي موت أي إنسان ولا فرق في ذلك أن يكون الميت فقيرا أو غنيا وحتى موت شيخ العشيرة لا يثير حزنهم أو دموعهم. ففي نفس مساء نفس اليوم الذي أقيمت فيه مراسم جنازة الزعيم (ويغليف)، كانت هناك وليمة عظيمة في ردهات الشماليين، وقد لاحظنا أن ولائمهم طافحة دوما بالخمر والجواري والجنس العلني أمام أعين الجميع.
اعتقد ابن فضلان أنه بعد مشاركته في مراسم الميت ودفنه، سوف يسمح له بالمغادرة، لكن ظنه خاب، فقد بدأ الصراع الداخلي بين زعماء أهل الشمال لخلافة الزعيم المتوفى، وانحصر الصراع بين الزعيمين (بولييف) و(نوركيل)، وكان كل واحد يحشد لمناصرته الأعيان وذوي النفوذ، وكان (توركيل) ـ كما فهم ابن فضلان ـ يتطلع لمساندته ضد (بولييف) في صراعهما علي الزعامة، خاصة أن (توركيل)، كان طيلة الوقت يعتقد أن ابن فضلان مشعوذ وساحر، يتمتع بقوة معينة، تسببت في موت (ويغليف) وأسهمت في في ترجيح كفة (بولييف) ضده، لذلك فهو يريد بقاءه إلي جانبه، ويعلق ابن فضلان على رؤى (توركيل) هذه بموضوعية عالية قائلا: إنما في الحقيقة لم يكن لي دور في أي من هذه المزاعم.
لذلك سمع ابن فضلان نصيحة الترجمان، وقرر البقاء وعدم اللجوء للهرب، لأنه في حالة إكتشاف أمره سوف يعامل كلص، حيث يقوده الناس إلي شجرة ضخمة، ويوثقون حبلا قويا حوله ويشنقونه ثم يتركونه معلقا حتى يبلي جسمه ويتناثر إربا بفعل الريح والمطر.
حدثت مفاجأة غيرت من مجري الصراع علي الزعامة، فقد وصل رسول من بلاد الشمال البعيدة اسمه وولفغار بن روتفغار، وهو من قبيلة بولييف ليخبره أن هناك أخطارا جمة تحيق ببلاده البعيدة وأنه علي بولييف الاستعداد للعودة إلي بلاده لانقاذها من هذه الأخطار، وهذا يعني أن الزعامة حسمت لصالح (توركيل) في المنطقة التي يقيمون بها. تمّ إستدعاء العجوز الشمطاء (ملك الموت) فقامت ببعض حركات الشعوذة لتخبر بعدها بولييف أنه دعي من قبل الآلهة لترك هذا المكان بسرعة، ووضع كل همومه واهتماماته وراء ظهره، وأن ينصرف كبطل لصد ما يهدد بلاد الشمال من الخطر، وهذا الأمر يناسبه، ويجب أن يأخذ معه أحد عشر محاربا، وأخبرته أيضا أن فريقه كاملا يجب أن يكون مؤلفا من ثلاثة عشر محاربا أحدهم من غير أهل الشمال، لذلك كان الثالث عشر غير الشمالي هو أحمد بن فضلان، ومنذ تلك اللحظة حمل صفة المحارب الثالث عشر، رغم كل الأعتذارات والتبريرات التي قدمها لاستثنائه من تلك المهمة، لأنه اساسا غير محارب ولا يجيد فنون الحرب والقتال والكر والفر، لذلك كانت هذه الحالة الإجبارية كارثة حقيقية لابن فضلان، مما حدا به للقول: بالنسبة لشخصي اعتبرت حالي كحال الشخص الميت، لقد أصبحت علي ظهر سفينة من سفن أهل الشمال مبحرا شمالا عبر نهر الفولجا، مع اثني عشر رجلا من جماعتهم ويبدو أن ابن فضلان كان يجيد اللغة اللاتينية، فهو يقول: وقد كان من قبيل المصادفة ورحمة الله فقط أن يملك أحد مقاتليهم وهو الجندي (هرجر) مواهب خاصة، وأن يعرف شيئا من اللغة اللاتينية، وبفضل ذلك استطعت أن أفهم من (هرجر) مغزى ما جرى من حوادث.
التوغل في أعماق بلاد الشمال
واصل إبن فضلان رحلته علي ظهر السفينة مع المحاربين الآخرين، مبحرين ثمانية أيام عبر نهر الفولجا، ثم عبر فرعا آخر من النهر يسمي الأوكر عشرة أيام أخرى، متقدمين نحو شمال الشمال حيث بدأ الثلج يغطي الأرض، وعند وصولهم معسكرا شماليا اسمه مسبورغ تركوا السفينة، وواصلوا الرحلة علي ظهور الخيل ثمانية عشرا يوما، وهنا يلاحظ ابن فضلان الظاهرة الجوية التي نعيشها حتى اليوم في إحدى بلاد الشمال النرويج وهي أن النهار يكون طويلا في الصيف، والليل طويلا في الشتاء ونادرا مايتعادل الليل والنهار، وكلما زاد توغلهم في أراضي الشمال دخلوا مرحلة جديدة من الرحلة فقد ذهبوا في رحلة جديدة إستغرقت خمسة أيام إنحدروا فيها من الجبال إلي منطقة الغابات، حيث يبدي ابن فضلان دهشته من حجم الغابات الخضراء والأمطار الغزيرة، خاصة أن مسيرهم داخل الغابات استمر سبعة أيام أخرى، وخلال ذلك يصف ابن فضلان كيفية بناء المعسكرات والمستوطنات لمواجهة الأعداء، وتشكيل الجيوش المحاربة، وبعض المعتقدات الخاصة بالآلهة، والتعاويذ التي يواجهون بها تقلبات الطقس وهجوم القوي المعادية وغيرها، دون أن ينسي سلوك الاسكندنافيين في كافة الأوضاع والحالات، مركزا علي عادتين من عاداتهم: الإفراط في شرب الخمر وشدة المرح والفكاهة مهما كان الموقف عصيبا...
الإسكندنافيات الشقراوات
وقد كان من الطبيعي لابن فضلان القادم من منطقة عربية إسلامية محافظة، أن يلفت انتباهه بشكل واضح منظر النساء الاسكندنافيات الشقراوات، وسلوكهن الجنسي المتحرر بشكل علني، لذلك فمن حين إلي آخر في أغلب فصول رسالته يعود للحديث عن هؤلاء الشقراوات.. ومن أوصاف ابن فضلان تلك قوله: إن نساء أهل الشمال شقراوات كرجالهم، ويعادلنهم في طول القامة ولهن عيون زرقاء وشعورهن طويلة جدا وناعمة تتشابك بسهولة... كما لا تظهر النساء أي مراعاة أو سلوك للاحتشام، فلا يتحجبن مطلقا، ويفرجن عن أنفسهن في الأماكن العامة كلما ألحت عليهن الحاجة، كذلك يتقدمن بجرأة نحو أي رجل يستحوذ علي إعجابهن، ولكن ما هو رد فعل ابن فضلان إزاء سلوك هؤلاء الشقراوات الشبقات المتحررات جدا، ما هو رد فعل عندما ألحت عليه الحاجة الجنسية؟
شارك في معركة مع رجال الشمال ضد أعدائهم من شعب الفندال، ووصف بشكل دقيق التحصينات والأسلحة، وأنواع الخداع والمعتقدات الخاصة بحالات الحرب، وما أن انتهت المعركة، حتى بادر المحاربون لبناء التحصينات من جديد، استعدادا لما يأتي، ورغم أنه غريب عن البيئة وعاداتها وتقاليدها، إلا أن ابن فضلان انخرط في العمل معهم، مشدودا بشكل خاص وحميم إلي نسائهم...
وأثناء وصفه لعمله معهم في بناء الخنادق والتحصينات يقول: لم أفهم قيمة هذا الخندق التافه أكثر من فهمي لقيمة السور، ولكنني لم أسأل هرجر عنه لمعرفتي المسبقة بمزاجه، وبدلا من ذلك، قمت بالمساعدة في العمل بأفضل ما أستطيع لم أتوقف إلا مرة واحدة لنيل رغبتي من جارية علي طريقة رجال أهل الشمال، إذا كنت أنشط ما يكون بفعل الإثارة التي سببتها معركة الليل وأعمال النهار التحضيرية. إن هذا الاعتراف من ابن فضلان، يمثل منتهي الصراحة والصدق، خاصة أنه يأتي من رجل مسلم، وفي وقت ذاته مبعوث للخليفة العباسي، ويبدو أن عشرة ابن فضلان بين الاسكندنافيين، رغم قصرها، جعلته يتأثر بسلوكهم وتعاملهم مع المرأة، رغم نهى دينه عما قام به فهو زنى واضح صريح باعتراف صاحبه، وليس هذا فحسب، فهو في مناسبات أخري، يعترف بأنه كان يشرب الخمر معهم، فهو يتحدث عن تقاليد وثنية اسكندنافية عندما يبللون أنفسهم بالماء، رغم شدة برودة الجو ليلا، ورفضه ذلك، لكنهم غطسوه في الماء رغم أنفه من رأسه إلي أخمص قدمه، وعندما بدأ يرتجف من البرد، يقول.. ثم قدم لي كوبا من خمر يحضر من العسل والحبوب لتخفيف البرد وقد شربته بدون تردد، وكنت مسرورا به...
لقد كان بوسعه أن يقول (وقد أجبروني علي شرب الميد للتخلص من البرد)، لكن صدقه وموضوعيته تعترف ليس بشرب الخمر، ولكن بمفعوله في نفسه وجسده، وكنت مسرورا به، وهو يعود إلي ذلك في موضوع آخر فيقول...(وأعطاني جرعة من الميد شربتها، وشكرت الله وحمدته علي أنها غير محرمة ولا حتى مكروهة، وفي الحقيقة أصبح لساني يستسيغ نفس المادة التي كنت أعتبرها كريهة فيما مضى، وهكذا أن الأشياء، التي كنا نعتبرها غريبة، تصبح بالتكرار عادية)، وهذا يعني باعترافه أنه أصبح مع الشماليين، يشرب الخمور بشكل متواصل، إلي أن اصبح طعمها ومذاقها عنده عاديين نتيجة تكرار تعاطيها، إلا أنه من غير الواضح في النص، كيف ولماذا يعتبر الميد رغم إنها من الكحول ثقيلة العيار غير محرمة ولا مكروهة.
وبالإضافة لما سبق يتحدث ابن فضلان، بتفصيل شديد ودقيق عن العديد من نواحي حياة أهل الشمال، وعاداتهم وتقاليدهم، خاصة الوثنية منها في حالات السلم والحرب والعلاقات الاجتماعية المتعددة.. وهذا ما جعل الباحثون الإسكندنافيون المعاصرون يشيدون بـ:
1 ـ دقة ابن فضلان في أوصافه وتحليلاته التي كتبها قبل ما يزيد عن ألف عام، وجاءت في أغلبها منسجمة ومتوافقة مع كتاباتهم أنفسهم عن شعبهم في تلك المرحلة الموغلة في الماضي.
2 ـ صدق ابن فضلان وموضوعيته، فهو يجدد دوما في رسالته أن كان ما سيرويه قد شاهده بنفسه أو سمعه من مرافقيه الشماليين.
ولهذا السبب اكتفي الباحثون الإسكندنافيون برسالة أحمد بن فضلان، وطبعت عام 1951 م في مختلف اللغات الإسكندنافية، وقد كان أكثرهم احتفاء واهتماما بها كما سبق أن ذكرنا، البروفسير النرويجي بير فراوس ـ دولوس هذا في الوقت الذي مازالت هذه الرسالة شبه غير معروفة لدي غالبية القراء والمثقفين العرب رغم صدورها في طبعتين عربيتين.
ahmad64@hotmail.com
يتبع: توضيحات واستدراكات مهمه للكاتب والروائي الفلسطيني محمد الأسعد