ضرورة الاعتقاد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أرتبط لفظ "اعتقاد" Belief في أذهان معظم الناس بالاعتقاد الديني مع أن هناك معتقدات كثيرة غير المعتقدات الدينية يؤمن بها الناس. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية وخطورة الاعتقاد الديني في أنظار جميع الناس. وللمعتقدات الدينية وظيفة سيكولوجية على جانب كبير من الأهمية سواء في علاقة الفرد بذاته وبماضيه وحاضره ومستقبله، أم في علاقة الفرد بالآخرين، أم في علاقته بالعالم الروحاني الذي يكون في قلبه وعقله وجود أقوى من وجود الأشياء والأحياء من حوله، وقد التف حوله بوجدانه وبجماع فكره وعقد عليه آماله في مستقبل أفضل في الدنيا وفي الآخرة جميعًا.
والإنسان لا يستطيع أن يعيش يومًا واحدًا دون الاعتقاد في شيء يجلب له الطمأنينة، ذلك أنه لا يحرك الأحداث والمصائر والمقادير وفق مشيئته. فالاعتقاد ليس زخرفًا يتحلى به الإنسان، بل هو قوام جوهري لاستمرار الحياة، فاللحظة التي يفقد فيها المرء قدرته على الاعتقاد تكون هي ذاتها اللحظة التي يجن فيها، أو ينهي حياته عندها دون تردد على الإطلاق.
ففي عام 1516 صدرت الطبعة الأولى من كتاب السير توماس مور More، "يوتوبيا" Utopia وهو الاسم الذي اقترنت به كل المدن الفاضلة عبر التاريخ فيما بعد، وجعل مور الناس في جزيرة يوتوبيا يؤمنون بأديان شتى فالبعض يجعل من ظواهر الطبيعة آلهة يتوجه إليها بالعبادة والشعائر، والبعض الآخر يتوجه بالعبادة إلى الأسلاف ممن عرفوا بالسمو الخلقي والصلاح. غير أن الملاحظ على كل هذه الضروب من الديانات أنها تمثل مراحل من التطور في الإدراك الديني، وذلك بدليل أن الكل في النهاية يؤمنون بكائن واحد، غير معروف، أبدي، يفوق التصور والفهم، وأبعد كثيرًا عن متناول العقل البشري، منتشر في العالم كله، لا حجمًا بل قوة، ويطلقون عليه لفظ "الآب" وإليه ينسبون بدايات الأشياء جميعًا، ونموها وتطورها، وتغيرها ونهايتها كما يرونها،وهذا الموقف من الدين إنما يعني أمرين:
الأول.. أن الشعور الديني منذ البداية يستشعر وجود إله واحد مجرد ولكن وسائل الاتصال به لا تكون واضحة منذ البداية، كما أن المفهوم الخاص به لا يكون قد تبلور بعد.
الأمر الثاني .. أن عملية تطور الشعور الديني من مرحلة عبادة الظواهر الطبيعية Fetishism أو عبادة الأسلاف، إلى مرحلة عبادة الإله الواحد المجرد .. إنما تتم على نحو استدلالي عقلي خالص، دون الاستعانة بوحي أو تبليغ من نبي أو رسول ، ومعنى هذا أن الديانة في هذه الحالة تؤول إلى نوع من اللاهوت الطبيعي Natural Theology.
ويذكرنا توماس مور في هذا الصدد بـ "ابن طفيل" وقصته الشهيرة "حي بن يقظان" فلقد أراد "ابن طفيل" أن يبين لنا أن ما توصل إليه "حي بن يقظان" بمفرده عن طريق التفكير والتأمل في جزيرته التي عاش فيها بمفرده متوحدًا لا تخالف الدين.
يقول "ابن طفيل": "فأخذ أبسال يسأل حيًا عن شأنه وكيف وصل إلى تلك الجزيرة، وعرف منه أنه لا يدري لنفسه ابتداء ولا أبًا ولا أمًا أكثر من الظبية التي قامت بتربيته. وكيف ترقى بالمعرفة حتى أنتهى إلى درجة الوصول". "ثم يضيف"وعندما سمع "أبسال" من "حي" وصف تلك الحقائق والذوات التي تعد مفارقة للعالم المحسوس والعارفة بالذات الآلهية ووصف ذات الحق تعالى، لم يشك في أن جميع الأشياء التي جاءت في شريعته والتي تتعلق بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والجنة والنار. إنما هي أمثلة لهذه التي شاهدها "حي بن يقظان" وعندئذ "تطابق عنده المعقول (التفكير النظري) والمنقول (الجانب الديني) وأصبحت طرق التأويل قريبة بالنسبة له، وتبين له كل مشكل في الشرع وانفتح له كل مغلق وغامض وصار من أولي الألباب".
هذا النزوع الفطري نحو "المتعالي" و "المطلق" و "اللا متناهي" لدى الإنسان، يؤكد أنه "كائن متدين" ، لا يستطيع أن يستغنى عن الإيمان بالله، أو الكائن العلوي، أو الموجود الأسمي، أو الحقيقة المقدسة.
هذه الحقيقة لم تتنبه إليها السلطة الدينية والسياسية في مختلف العصور والمجتمعات فحسب ، وإنما أيضًا أشد المعارضين غلوًا لهذه السلطة، فـ "مكيافيللي" (1469 - 1542) الذي دشن علم السياسة الحديث، كعلم وضعي منفصل عن الدين والأخلاق، أكد على أهمية المعتقدات الدينية في حياة الشعوب والمجتمعات، وذلك في كتابه "أحاديث عن ليفيوس" أو "المطارحات"، الذي تناول آفاق السياسة كلها، أكثر من كتاب الأمير، وان لم يشتهر شهرته. وأهمية هذا الكتاب في أنه يشرح لنا تصور مكيافيللي لنهضة الأمم وانحطاطها، كما يشرح لنا دور الدين والمؤسسة الدينية والقادة والعلوم والفنون والآداب في رقي المجتمع وانهياره.
في الفصل الثاني عشر من الكتاب الأول من المطارحات "يضع لنا مكيافيللي المبادئ التي تحفظ الدولة من الفساد. وأول مبدأ في نظره هو المحافظة على شعائر الدين، أي دين، إذ أنه لا يقصد دينًا معينًا بالذات، وإنما الدين بصفة عامة. كما لا يبدو من كلامه أنه يتحدث عن الشعائر كمجرد مجموعة من الطقوس، وإنما يقصد البنية الأساسية في كل دين.
يقول مكيافيللي: "الأمراء والحكومات الجمهورية الذين يريدون أن يحافظوا على أنفسهم من الفساد ينبغي عليهم قبل كل شيء آخر أن يحافظوا على شعائر دينهم مبرأة من الفساد، وأن يحترموها على الدوام، فليست هناك دلالة على خراب دولة أوضح من الاستهانة بقدر العبادات الإلهية. ومن اليسير إدراك ذلك إذا عرف المرء على أية قواعد يقوم الدين الذي يولد به هذا الإنسان. فكل دين تقوم أركانه على بنية أساسية هامة خاصة به. فحياة الديانة الوثنية كانت مؤسسة على إشارات العرافة، وعلى جماعة المتنبئين وقارئي الغيب، فكل شعائرهم وأضاحيهم وطقوسهم الأخرى كانت تتوقف على هذه الإشارات، فقد كان من السهل عليهم أن يعتقدوا أن الله قادر على التنبؤ بالخير أو الشر في المستقبل قادر أيضًا على تحقيقه. ومن هنا كانت القرابين والصلوات وكل طقس فـي إجلال الآلهة. كان هذا أساس عرافة ديلوس، وكهانة معبد جوبيتر أمون، وغيرهما من أماكن الوحي الشهيرة التي ملأت العالم بالإعجاب والتمسك بالدين، فلما بدأت هذه العرافات تتنبأ بما يوافق رغبات الأقوياء، واكتشف الناس هذا الزيف، فقد الناس إيمانهم وظهر استعدادهم لنقض كل العادات الصالحة.
فواجب من يحكمون الجمهورية أو المملكة إذن هو أن يحافظوا على أسس الدين الذي يتبعونه. فإن وفقوا إلى ذلك في أنفسهم، أمكنهم في يسر أن يحافظوا على التدين في بلادهم، وأن يحفظوا بلادهم في خير واتحاد، وينبغي عليهم أن يهتموا بكل الاحداث التي يبدو أنها تقوي الدين وأن يضخموا من شأنها، ولو كانوا يعتقدون أنها كاذبة، وكلما ازداد حرصهم وازداد فهمهم للعلوم الطبيعية، ازداد التزامهم بالاهتمام بالأحداث التي تدعم الدين. ونظرًا لأن هذا كان النهج الذي سلكه الحكماء، فقد نشأ الاعتقاد في المعجزات التي تشتهر بها "الأديان"، لأن أهل الفطنة يضخمون من شأنها أيا كان مصدرها. وهكذا تضفي محبتهم على المعجزات مصداقية عند كل الناس" .
ونلاحظ هنا أن مكيافيللي لم يكن رجلاً مؤمنًا أو متدينًا بالمعنى المألوف بيد أنه أكد على دور الدين في المجتمع وعلى أن خراب الأمم هو نتيجة الاستهانة بالدين أو فساد الدين. القضية عند مكيافيللي ليست في صحة الدين أي دين، أو في زيفه ، ولكن في وجوب التمسك به نظرًا لوظيفته الهامة في ضبط المجتمع. وليس من الضروري أن تكون المعجزات أو الكرامات مثلاً صحيحة، وإنما المهم أن يعاملها الحكام على أنها صحيحة، بل وأن يقووا اعتقاد الناس فيها، وأن يدعموا فيهم الإيمان بالغيبيات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا بغض النظر عن صدقها أو عدم صدقها. فدين زائف خير من لا دين على الإطلاق، كما يقول بعض المفكرين.
هذه النظرة نجدها عند بعض دعاة حق الملوك الإلهي من العقلانيين مثل "توماس هوبز" الذي كان ينظر إلى الكنيسة بإعتبارها مانعة صواعق وظيفتها تفريغ شحنات الغضب واليأس والبؤس والإحباط .. الخ، في المجتمع، أي باختصار مانعة ثورات ، وضمان للسلام الاجتماعي، وهي تقيم داخل كل مواطن شرطيًا غير مرئي يحفظ الأمن العام دون قهر من خارج.
متى تنحرف الأمم إذن عن الدين؟ حين ينحرف عنه رجال الدين ويتحولون إلى مجرد أدوات تسوغ للناس ما يفعله الأقوياء وتبرر رغباتهم بالباطل طبعًا. المهم إذن هو المحافظة على "أسس" الدين الذي تدين به الجماعة، أيا كان هذا الدين، والعبث بهذه الأسس من جانب الحاكم ينتهي بالعبث بها من جانب المحكوم. وخير دليل على هذا هو ما نزل بالعالم المسيحي من تفكك في أواخر العصور الوسطى.
أما "اسبينوزا" (1632 - 1677) الذي أجمل العقائد الشائعة في عصره وعرضها في كتابه "البحث اللاهوتي السياسي" Tractatus Theologico-Politicus عام 1670، فلم يذهب بعيدًا عما ذهب إليه مكيافيللي، وإن تعمق أكثر في الوظيفة السيكولوجية والاجتماعية للمعتقدات الدينية، وحسب "برنشفيك": "فإنه مثلما وضع ديكارت أسس التحليل الخالص والفيزياء الرياضية، فكذلك يعد اسبينوزا واضع المنهج السيكولوجي والاجتماعي الذي هو أساس علم التفسير الحديث".
يرى اسبينوزا أن السعي إلى معرفة الله يمكن أن يسمى أمرًا إلهيًا، لأن الفكرة الآلهية كامنة فينا، وهي التي تدفعنا إلى هذا السعي. وهو يعرَف الإيمان بأنه "معرفة الله"، بدونها تستحيل طاعته، وقد يتمثل في هذه الطاعة وحدها وقبل ذلك يقول: "إن طاعة الله لا تكون إلا في حبنا للجار". أي أن طاعة الله إنما تكون في حسن معاملة الناس. ليست للعقيدة الدينية، في رأيه، أية وظيفة نظرية تتعلق بالمعرفة: ففي كل الميادين المعرفية يسيطر العقل بلا منافس. بل إن للعقائد وظيفة عملية فحسب، ولا أهمية على الإطلاق للأساس النظري الذي ترتكز عليه هذه العقائد طالما أنها تؤدي وظيفتها العملية على النحو المنشود.
وفي موضع آخر يعلق على عدم أهمية المذاهب النظرية بقوله "ليس لأحد أن ينكر أن الإيمان بهذه المذاهب ضروري لكي يستطيع كل شخص بلا استثناء، أن يطيع الله وفقًا لما يقضي له الشرع ... أما ما يكونه الله، أو المثل الأعلى للحياة الحقة، في ذاته، من حيث هو نار أو روح أو نور أو فكر أو أي شيء غير هذا، فهذا في رأيي أمر لا شأن له بالإيمان. فلكل أن يفكر في هذه الأمور كما يشاء" ... وهكذا يبيح اسبينوزا جميع الاختلافات النظرية حول العقيدة ؛ وبالتالي لا يعترف بأية قيمة للأسس النظرية؛ طالما أن الغايات العملية للعقيدة تتحقق.
الظاهرة الدينية - كما يرى - ظاهرة بشرية قبل كل شيء، يسعى الإنسان عن طريقها إلى تحقيق أمان معينة وتجنب مخاوف خاصة. هذا الطابع البشري للظاهرة الدينية يؤدي إلى القول بأنها نسبية، أي أنها ككل ظاهرة بشرية أخرى، متطورة ذات تاريخ، ومن الممكن أن تفسر تفسيرًا كاملاً من خلال تاريخها هذا. وقد تضمن كتابه هذا محاولة مفصلة لعرض الكتب المقدسة - اليهودية على الأخص - من حيث هي تعبير عن ظاهرة تاريخية واجتماعية، ولربط تعاليمها بطبيعة العصور التي ظهرت فيها، وإنكار وجود أية دلالة مطلقة لها، تسري على كل عصر.
على أن أهم ما تقع عليه عند اسبينوزا هو تطويره لفكرة فصل الدين عن الدولة كما بلورها مكيافيللي فهو على العكس يؤيد خضوع السلطة الدينية للسلطة المدنية، إذ أن ذلك كفيل بعدم تغليب دين على دين، وضمان الحرية لجميع الأديان، بحيث لا يصبح لأحدها سلطة قاهرة على أصحاب العقائد الأخرى. ولأن اسبينوزا لا يحفل بالمظاهر الخارجية للعقائد الدينية، طالما أنها تؤدي غرضها العملي، فإن خضوعها للسلطة السياسية معناه قبول مختلف الآراء والمعتقدات على قدم المساواة في ظل قانون مدني متسامح مع كل أشكال العبادات.
إن فكرة فصل الدين عن الدولة عند اسبينوزا مختلفة تمامًا وجديدة تمامًا - كما يقول فؤاد زكريا في كتابه الرائع عن اسبينوزا - فهو يريد من الدولة أن تشرف على كل شيء، بحيث تكون مصالحها دائمًا هي العليا. وإذا اعترض عليه بأن أصحاب السلطة الزمنية قد يكونون أشرارًا، يرد هذا الاعتراض بقوله بأن رجال الدين بشر أيضًا وهم معرضون للخطأ. ولو كانوا أشرارًا فلن نجد من يفسر لنا المعنى الصحيح للتقوى. بل إن الضرر في الحالة الثانية أعظم، إذ أن خطأ الحاكم يمكن إصلاحه، أما رجال الدين فإنهم إذا ارتكبوا خطأ ظلوا ينسبونه إلى السلطة الإلهية ويحتمون بها، وبذلك يظل الحطأ قائمًا، بل يتخذ مظهرًا مقدسًا بحيث يكون من أصعب الأمور التخلص منه.
كاتب المقال أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس