كتَّاب إيلاف

بورقيبة مجدد الإسلام

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

في مثل هذا الشهر، أي شهر رمضان، من سنة 1960، أحدث الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة - رحمه الله- صدمة غير مسبوقة لدى الرأي العام، التونسي والعربي والإسلامي، عندما أقدم على شرب كأس عصير أمام جمهور قاعة "البلمريوم" في تونس العاصمة، مبيحا الإفطار لشعب يخوض الجهاد الأكبر ضد التخلف، تماما كما أباح الرسول محمد (ص) الإفطار للمؤمنين في مكة لكونهم يجاهدون كفارا، فقد كان التخلف صنوا للكفر عند القائد التونسي العظيم.
لاحقا، وبعد أن اشتدت الهجمة عليه داخليا وخارجيا، اضطر الرئيس بورقيبة إلى توضيح وجهة نظره أكثر، حيال القضية المثارة، فقد أكد على أن الصوم فريضة وركن من أركان الإسلام، وكذلك سيبقى إلى يوم الدين، غير أنه أراد أن يلفت انتباه شعبه، وعموم المسلمين، إلى مقاصد الصوم الحقيقية، وإلى ترتيب أولويات المجتمع وفقا لحالته المعيشية والتحديات المطروحة عليه وما تقتضيه مصالحه من يقظة ووعي بالحقائق العميقة للدين، فالصراع ضد الفقر والجهل والمرض هو جهاد عظيم يجب أن تسري عليه رخص الجهاد المعروفة، وإذا ما كان الصوم سيقود إلى الكسل والتقاعس عن أداء الواجب الوطني والانحدار بالناتج الوطني، فإنه سيكون بمثابة استهتار بمقاصد الشرع وتضييع للدين والإيمان الحقيقي.

لقد كان الرئيس بورقيبة، مفكرا إسلاميا استثنائيا، إلى كونه زعيما سياسيا فريدا، فقد كانت نظرته للدين الإسلامي نظرة مقاصدية متجذرة، لا نظرة نصية سطحية وشكلية، ولهذا فقد كان يرى من واجبه كمجدد ديني إحداث الصدمات العامة التي تقود إلى توعية شعبه بحقائق الإسلام العميقة، لا الإبقاء عليه حبيس طقوس مجردة من كل روح ومكررة بلا وعي من ممارسيها، ولهذا فقد كان جريئا في القيام بواجبه التجديدي ما وسعه ذلك، العقل السائد وطبيعة المرحلة التاريخية التي يعيش فيها، وبكلمات أخرى، فقد كان الرئيس بورقيبة سياسيا في نزعته التجديدية، قدر جرعات التجديد بما يمكن أن يطيق المريض، ولم يكن التقدير بالضرورة صائبا مائة بالمائة على الدوام.
يؤاخذ الرئيس بورقيبة إلى اليوم على سنه قانونا تقدميا رائدا للأحوال الشخصية، منع من خلاله تعدد الزوجات، واقترب فيه بمكانة المرأة ما استطاع من المساواة. وقد كانت منطلقات "المجاهد الأكبر" في هذا التشريع، اجتهادية تأويلية تجديدية، استندت أولا إلى قراءة معينة للآيات القرءانية، وثانيا إلى الإيمان بأن مقصد الشريعة النبوية كان قبل أربع عشرة قرنا تحرير المرأة وتحقيق مساواتها ومنحها حقوقها، بعد أن كانت في الجاهلية متاعا، وكان الواجب على المسلمين من بعد الرسول (ص)، مواصلة النهج التحريري إلى حد إدراكه غاياته النهائية، غير أن الانغلاق والجمود الذي أصاب العقل الإسلامي، دفعهم بدل مراكمة الانجازات الحقوقية في ذات الاتجاه، إلى النكوص والثبات على ظاهر النص والتمسك بسلفية الشكل، في خلاف واضح لحركة التاريخ البشري، وبما يخالف مقاصد الشريعة الكلية.
الرئيس بورقيبة، كان من الزعماء والقادة السياسيين العرب القلائل خلال القرن العشرين، الذي امتلك رؤية تحديثية وتقدمية للدين الإسلامي، وقد كان ابنا مخلصا لحركة الإصلاح الديني والفكري التي نهضت منذ أواخر القرن التاسع عشرة لتحرير العالم العربي والإسلامي من حالة التخلف الحضاري والجمود العقلي والسياسي، ومن رموز هذه الحركة عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وخير الدين باشا التونسي والطاهر الحداد وغيرهم، ولقد كانت معاناته حيا وميتا على أيدي المنغلقين والمتعصبين وأعداء التجديد، مثل معاناة جميع المجددين على مر ألف وأربعمائة عام ونيف من التاريخ الإسلامي.

لقد وجه خصوم التجديد سهامهم إلى الرئيس بورقيبة، واتهموه في دينه وعقيدته، بل لقد بلغ الحقد عليه ببعض هؤلاء درجة رفض الترحم عليه ساعة جاءته المنية، ومن الافتراءات الشهيرة غير المحققة، أنه أقدم على إلغاء التعليم الزيتوني، غير أن البين أن "المجاهد الأكبر"، قد أقدم على هذا القرار من منطلق إصلاحي ديني صرف، واستجابة لمطلب تاريخي للحركة الوطنية التونسية، فلقد كانت مناهج التدريس المتبعة في المدارس الزيتونية بالية ومتخلفة، بل لقد كانت أحد أسباب التراجع الحضاري ووقوع البلاد تحت نير المستعمر وفقا لعدد من المصلحين، الذين حاول بعضهم إقامة بدائل لهذه المدارس، كما هو شأن الوزير خير الدين الذي أنشأ المدرسة الصادقية، غير أن محاولاتهم باءت في نهاية الأمر بالفشل، جراء هجمة المحافظين من ساسة وعلماء دين، رأوا في الإصلاح ضربا لمصالحهم النافذة.

إن إقدام الرئيس بورقيبة على إلغاء التعليم الزيتوني، كان مبررا من داخل الفكر الإسلامي، فلقد كان الواجب على أولي الأمر تدبير التعليم وحث المسلمين على التعلم، ولهذا فإن إلغاء المدارس الزيتونية ما كان ليحدث لو أن البلاد المستقلة حديثا عن المستعمر، لم تهب الجزء الأكبر من ميزانية دولتها طيلة ثلاثة عقود من حكم "المجاهد الأكبر"، لوزارة التربية والتعليم، في حالة نادرة من نوعها على صعيد العالم العربي والإسلامي.

لقد آمن الرئيس بورقيبة بأن الإسلام لا يمكن أن يختصر في أحكام الحلال والحرام بطريقة شكلية سطحية، وأن الدين باعتباره حاجة بشرية، بمقدوره أن يلعب دورا طلائعيا لصالح الشعب، من خلال مساهمته في معارك التنمية ضد الأمية والتخلف، ومعارك السعي إلى تحصيل المعارف والعلوم والتكنولوجيا، إذ ليس مكتوبا على الشعوب المسلمة أن تظل متخلفة عن الركب الحضاري، لا لشيء إلا لأنها مسلمة، وأن الجهاد في سبيل النهضة الحضارية هو ما يجب أن يكون مدارا وموجها رئيسيا لأحكام الشريعة.
إن طموح الرئيس بورقيبة، كانت منصبا على توجيه موارد الدولة من أجل خلق شعب تونسي، مفتخر من جهة بعناصر هويته الوطنية، من عروبة وإسلام وثقافة محلية، لكنه من جهة ثانية شعب متحرر من الخرافات والأساطير التي ميزت جزءا غالبا من الممارسة الدينية، قادر على النظرة إلى التاريخ الإسلامي نظرة إنسانية، وتتعامل مع أركان الدين تعاملا مقاصديا يفهم أعماق النصوص والمراد منها، ولا يتوقف عند عباراتها اللغوية المجردة.

لقد حاول الكثير الطعن في النزعة التجديدية للرئيس بورقيبة، مثلما طعنوا في سائر المجددين الذين ظهورا على مر التاريخ الإسلامي، وذلك من خلال استحضار قصص وروايات تتعلق بالسيرة الذاتية ل"المجاهد الأكبر"، غير أن هذه السيرة لمن درسها بنزاهة، ستبدو مكذبة لجل الافتراءات والحملات، فمثلما قيل أنه رجل لا يقيم الصلاة و يشك في وجود الله، بالاعتماد على قصص رددها أشخاص من المقربين، فإن الوقائع العلنية الثابتة تؤكد أن الرئيس بورقيبة هو من تصدى للمؤتمر الأفخرستي الذي انعقد بداية الثلاثينيات في تونس للعمل من أجل تحويلها دولة مسيحية، وهو الذي قاوم حركة التجنيس التي شجعتها السلطات الاستعمارية، حفاظا على الهوية التونسية العربية والإسلامية، وهو أكثر من ذلك من قاد حركة التحرر الوطني التونسية، التي أعادت تونس إلى عالمها العربي والإسلامي.

وختاما، لا مناص من الإشارة إلى أن قراءة كتاب مثل الذي ألفه الكاتب والصحفي التونسي المحترم لطفي حجي، بعنوان "بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة"، الصادر عن دار الجنوب للنشر بتونس، من شأنها أن تزود المهتم بتجربة "المجاهد الأكبر" في التجديد الديني والتحرر الفكري و السياسي و التخطيط الاستراتيجي، بمعلومات موثقة غير مسبوقة في موضوع المقالة، كما من شأنها أن تضعه في خضم نقاشات حادة ومصيرية ما يزال الزعيم والرئيس التونسي يثيرها حيا وميتا، وما تزال تونس ومن وراءها سائر البلدان العربية والإسلامية محتاجة لخوضها وحسمها على نحو يخدم مستقبلها، ويحول بينها وبين الوقوع في براثن دعاة التطرف والجمود والكراهية لا قدر الله...سلام على المجاهد الأكبر يوم مات ويوم يبعث حيا، وتحية تقدير للطفي حجي الذي قدم خدمة لحركة تحرير الإسلام وتنوير عقول المسلمين.

كاتب تونسي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف