الكبد الوبائي .. كارثةَ جديدةَ تهدد المصريين (1 / 2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لاشك أن المصريين قد ابتلوا مؤخراً بسلسلة من الكوارثِ المأساوية، التي يقف خلفها إما إهمال إجرامي أو فساد مستشر، والتي لم تنحصر في إنفلونزا الطيورِ فحسب، مروراً بغرق العبارات، وصولاً إلى حوادث القطارات، غير أن غالبية المصريين ربما لا يُدركونَ أن ثمة كارثةَ بالغة الخطورةَ باتت تُواجههم، وهي أن من بين كل 3 إلى 4 أفراد فهناك فرد ـ على الأقل ـ مصاب بمرض معدٍ.. مُزمن، و قاتل أيضاً إذا ترك دون علاج، وهو التهاب الكبد (سي) أو (إتش سي في)، وتقريباً فإن معظم المُصَابين بهذا المرض لا يَعْرفون بأنهم حاملون له، لكن الحكومةَ المصرية بإمكانيها الضخمة، تدرك جيداً حجم انتشاره، غير أن القائمين على أمرها يبدو أنهم حريصون على عدم الإعلان عن حجم هذه الكارثة، ضمن حالة التعتيم المتبعة تقليدياً في التعاطي مع شتى القضايا ذات الصلة بمصالح المواطنين وحياتهم.
وقد قُدر لي أن أطلع على هذا الانتشارِ المفزع لحجم الإصاباتِ بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي (فيروس سي) في مصر، أثناء وجودي في مكان غير متوقع على الإطلاق، وهو الكنيسة القبطية في شيكاغو، إذ تمكنت شركة المستحضرات الطبية، روش (Roche )، من إنتاج دواء يعالج التهاب الكبد (سي)، وبالطبع فإن لهذه الشركة مصلحة مباشرة في مراقبة حالات الكبد (سي) في مصر وبين المهاجرين المصريينِ، حيث قرّرت البَدْء بزيَاْرَة الكنائسِ المصريةِ في شتى أنحاء الولايات المتّحدةِ لكي تَختبرَ المهاجرين المصريينَ وعائلاتهم لتَحديد حجم انتشار الإُصَابات بمرض التهاب الكبد (سي) والنتائج حتى الآن تثير الُقلقُ: ففي حدود 25 % مِنْ المهاجرين المصريينِ، الذين ولدِوا في مصر، يعانون من فيروس (سي). بالنظر إلى كل الأبرشياتِ، التي تَتضمّنُ المهاجرين وأطفالَهم ممن ولدِوا في الولايات المتّحدةِ وممن هم أقل عرضة للفيروسِ، فإن هناك معدلات مرتفعة تصل إلى 14 % نسبة عدوى، بالمقَارنة بـ 2 % نسبة عدوى بين المجموع العام للسكانِ الأميركيِين، وأغلب المصابين بهذا المرض غير مدُرِك أنه حامل له، والكثير منهم عاشوا في هذه البلدِ لمدة 25 سنة أَو أكثر.
إنّ الحكومةَ المصريةَ مُنشغِلة جداً بإخفاء ورِطتها وعجزها في مواجهة انتشار الوباءِ، حيث تترك الناسِ الذين أقسمت على حِمايتهم - مواطنو مصر - تحت رحمة مرض قاتل بدون توفير الوقاية أَو المعالجةِ الصحيحةِ. وبالرغم مِنْ حقيقة عدم كوني طبيباً، فقد كُنْتُ قلقاً جداً عند سماعي هذه الأخبارِ والتي أشَعرتني بأنّه ثمة واجبَ يقع على عاتقي لبَحْث هذه المشكلةِ وكتابة مقالةً أشارك نتائجها مع كُلّ المصريين. وأنا يحدوني أملُ عميق في أن المعلوماتُ التاليةُ سَتُساعدُ في تنوير مواطنيي بما هم يُواجهونَه و الخياراتُ المتاحة لهم.
تاريخ الوباءِ
هذه الكارثة الصحية العامة تؤثر حاليا على ما يقرب من 20-30 % من سكانِ مصر، البالغ عددهم 77.5 مليون، أَو تقريباً 23 مليون نسمة، وهذه الأعدادِ في ارتفاع متزايد. الإصابة بمرض التهاب الكبد (سي) , وهو فيروس مدمر ومميت يقوم بمهاجمة الكبد، منتشرة في مصر. أغلب دول العالمِ لا تتعدى الإصابة فيها بمرض التهاب الكبد (سي) نسبة الـ 5%، بينما توجد أكبر نسبة إصابة في مصر مما تضعها على قمة قائمة الدول المصابة بالمرض.
وهذه حالة مأساوية جداً لسببين رئيسيين: أولاً، ترجع أصول الوباء إلى الحملة الصحية العامةِ في الستّيناتِ والسبعيناتِ لكفاح كارثة صحية - وهي الإصابة واسعة الانتشار في ذلك الوقت من مرض البلهارسيا، أو ما يعرف علميا باسم داءُ البِلْهارْسِيَّات.
والبلهارسيا عبارة عن طفيليات تسبح في ماءِ النيلِ وكَانَت مستوطنه بين المزارعين والقرويّين الذي يعيشون على ضفاف نهرِ النيل. وبالفعل قامت الحكومة بجُهود هائلة كللت بالنجاح في مُعَالَجَة إصاباتِ البلهارسيا بواسطة الحقن بدواءِ يدعى تارتر (Tarter).
ولسوء الحظ كان لهذه الحملة أثر جانبي مأساوي ظل مجهولاً لبضعة عقودِ. فمن خلال استخدام حقن وإبر غير معقمة أو مستخدمة مسبقاً، قام مسئولي الرعاية الصحية بشكل غير مقصود بنشر مرض التهاب الكبد (سي)، الأمر الذي تسببت في كارثة صحية باتت تسير نحو الأسوأ.
أما الجانب الآخر للمأساة هو أن انتشار المرض في مصر مختلف عنه في أغلب الأممِ الأخرى، حيث أن الحقن الوريدي والاتصال الجنسي ونقل الدم هي أكثر حالات انتشار الكبد (سي). ولكن الناس في مصر يصابون عادة بالعدوى مِنْ خلال الإبرِ المشتركةِ في المستشفيات ووحداتِ الرعاية الصحيةِ وصالاتِ دق وشمِ، وفي كراسي الحلاقَ أَو طبيبَ الأسنان، أَو الاتصال العرضي بالدم بين أفراد الأسرة الواحدة من خلال الاستخدام المشترك لأمواس الحلاقة وفرش الأسنان. فقليل من الوعي قد يؤدي بالضرورة إلى منع انتشار العدوى على هذا النحو الوبائي.
قصة البلهارسيا
البلهارسيا، أَو داءُ البِلْهارْسِيَّات، عُرِفَ في مصر منذ عهد الفراعنة. وينشأ المرض من حيوان مجهري، يُدعا الدودة المثقوبة، وتَعِيشُ يرقاتَه في القواقع التي تَسْكنُ المياة الراكده في المناطقِ الإستوائيةِ. ويُمْكِن للشخص أن يصاب بمرض البلهارسيا عندما يَسْبحُ في منطقة المياة العذبة حيث تَعِيشُ القواقع. تدْخلُ الدودة المثقوبة الجسمَ عن طريق اختراق الجلدِ، وفي أغلب الأحيان من خلال القدمِ. وتؤدي هذه الطفيليات إلى إصاباتَ خطيرة في المجاري البوليةِ والمعويةِ وأمراض الكبدِ، كما أنها تؤدي إلى زيادة ضغطِ الأوردة المؤدية للكبد بحيث أنها إذا تركت دون علاج فسوف تؤدي إلى انفجار الأوردة المحيطة بالمريء مما يترتب عليه نزيف مميت.
لقد كان الأمر السائد لآلاف السنين هو أن تموت القواقع المضيفة خلال فصل الجفاف عندما ينخفض منسوب تهر النيل وتتبخر المياه الراكدة، مما يجعل الإصابة بالبلهارسيا موسميا أو بالأحرى محدود النطاق. ومما هو ثابت أن النيل دائما ما يفيض خلال فصل المطر، وبصفة عامة مِنْ سبتمبر/أيلولِ إلى يوليو/تموزِ مما يؤدي إلى تخصيب وادي النيل ويساعد على ازدهار الزراعة في بَعْض المناطقِ. ولكن أثناء فصلِ الجفاف، فإن الأرض المواجهة لضفاف النيل سوف تجف والمياه الراكدة سوف تندثر.
لقد تم اتخاذ عدة تدابير تنظيمية عبر التاريخ المصري من أجل السيطرة على الفيضانات في فصل الشتاء، لكن الفيضان الشديد غالبا ما يسبب خسائر في الأرواح والممتلكات. ومما يزيد الأمر سوءا ازدياد التكدس السكاني حول الأراضي الخصبة مما يدعو إلى تبني تدابير جديدة للسيطرة على الفيضان ووسائل متطورة للري. وهذه الإجراءات الجديدة قد أدت إلى إزالة الصعوبات والمشاكل المترتبة على الفيضان، كما أنها ساعدت على الاحتفاظ بقدر وفير من المياه لاستخدامها في فصل الجفاف. ولكن المناطق التي اعتادت على تبخر المياه فيها خلال فصل الجفاف أصبحت الآن مغمورة دائماً بالمياه مما يعنى أن القواقع التي تحمل البلهارسيا لم تعد تموت والدودة المثقوبة التي تسبب العدوى أصبحت مزدهرة طوال العام. وفي القرنِ العشرينِ أدت التطورات التكنولوجية إلي انتشار وباء البلهارسيا بشكل خرج عن السيطرة مما تطلب الأمر التعامل معه.
وفي ذروة تفشي وباء البلهارسيا في مصر، شهدت القُرى على طول النيلِ في بعض الأحيان نسبة عدوى وصلت إلى 70 %. وأضحت مسألة العدوى بالمرض وتحمل أعراضه نهج من مناهج الحياة. ومَع ازدياد عدد الأشخاص المصابين بالمرض أصبح لزاما على الحكومة أن تعمل على مكافحته. والحقيقة، أنه لا يوجد مصل لمنع الإصابة بالمرض، وحتى وقت قريب كانت الوسيلة الوحيدة للمعالجة هي الحقن. وقد صعدت الحكومة حملة مكثفة لمعالجة أكبر قدر ممكن من الأشخاص المصابين بالمرض، وقد استمرت هذه الحملة خلال فترة الستّيناتِ والسبعيناتِ.
لقد تم حقن المصل لعشرات الآلاف من الناسِ، ولكن الإبرالمستعملة في حَقْن الدواءِ دائما ما كان يعاد استعمالها بشكل روتيني وذلك بدون الاحتياط في استخدام وسائل التعقيم السليم بين المرضى. وللأسف فإن خطر نقل أمراض أخرى من خلال استخدام هذا الأسلوب غير الآمن لم يكن مُدرَك آنذاك في مصر. وكان جد مجهول للعلماءِ في كافة أنحاء العالم ذلكَ الفيروسَ - المعروف في ذَلِك الوَقت باسم الْتِهابُ الكَبِدِ اللَّاأَلفِيُّ اللَّابَائيُّ الوَبائِيّ - الذي نُشِرَ بشكل غير متعمّد بين الآلافِ - التهاب الكبد (سي).
كاتب المقال ناشط مصري يعيش في الولايات المتحدة