التاريخ والعالم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
شهدت أوربا تحولات كبرى في مجال المكتشفات والمخترعات، حتى أن البعض منها قد ساهم والى حد بعيد في كسر القاعدة التي اعتاد الناس أن يتعاملوا فيها مع الظواهر العامة.فعلى سبيل المثال كان اكتشاف المطبعة على يد الألماني "غوتنبرغ " عام 1450م قد أرسى نمطاً جديداً من التعامل مع مفهوم الثقافة. فبعد أن كانت محصورة على "النخبة " أضحت شائعة عامة يسيرة التداول بيد الفئات الشعبية في حين أن اكتشاف "البارود " كان قد ساهم وبشكل مباشر في وضع النهاية التاريخية للدور الذي لعبه سلاح الفرسان، خلال العصور الوسطى، لتتبدى الأهمية لفئات جديدة، لم تكن منظورة في المرحلة السابقة على صعيد الطبقات الاجتماعية . أما "البوصلة فكان لها الأثر المباشر في حركة الكشوفات الجغرافية، والانفتاح الواسع على العالم حيث الاتصال المكثف بالحضارات الأخرى وزيادة التبادل السلعي والثقافي. وكان الحضور الأهم فيها اكتشاف العالم الجديد على يد " كولمبس " عام 1492م.
وهكذا تحسست فكرة التقدم خطواتها عبر ثلاث ثورات معرفية كبرى تجلت بوضوح في نظرية كوبرنيك 1543، الذي أثبت بالدليل العلمي على مركزية الشمس، والتأكيد على أن الأرض مجرد تابع يدور حولها. فكانت الاستتباعات المفاهيمية الرافضة للمفهوم اللاهوتي المثالي، وجعل العلوم الطبيعية مستقلة عنها. فيما جاءت حركة الإ حتجاج (البروتستانتية ) على يد " مارتن لوثر " ت 1546،، الذي فصل ما بين الأفعال الحسنة والإيمان الفردي. عامدا إلي تحديد مكثف عند الإنسان يقوم على ثنائية الروح والجسد ومن هنا انطلقت آراء نظرية الإصلاح الديني، التي توجهت برفضها نحو السلطات الدينية الممثلة بالبابا، والسلطات الزمنية الممثلة بالإمبراطور الألماني. وجاءت حركة المادية الجديدة والعلم التجريبي، لتؤكد مسار التفكير المنطقي، وتحدد ملامح المنهج الاستقرائي، حيث التأكيد على تطبيق المفردات المنهجية المتتابعة من أجل الوصول إلى تفسير الظواهر في الطبيعة. وكانت هذه الحركة قد وجهت أسهم نقدها إلى القياس المنطقي القديم، حيث كانت المسألة الأهم المثارة، قد تركزت في أن الأسس التي يقوم عليها المنطق الأرسطي ،إنما تتداخل فيه أنساق المقدمات والنتائج، بحيث أن الأفكار الموضوعة للدرس والتشريح، إنما تكون ذات طبيعة مسبقة. وهكذا تم الاتجاه نحو تقديم الأهمية بالنسبة للملاحظة والتجربة المباشرة في نطاق الطبيعة. ويعد ( فرنسيس بيكون ) ت 1626 من أبرز رواد هذا الاتجاه، الذي عمد إلى صياغة نظرية الأوهام ومدى ارتباطها بالعقل، محدداً إياها في أربعة أنماط سلبية، ممثلة في ؛ أوهام القبيلة والمرتبطة بالعقل الجمعي للجنس البشري عموماً. أوهام الكهف المرتبط بالعقل الفردي ومؤثرات البيئة والأعراف والتقاليد التي نشأ فيها في تحديد آرائه وانطباعاته حول الظواهر. أوهام السوق ذات الارتباط المباشر بالدلالات التي تحملها اللغة، وتأثيرات الاستخدام السلبي لها في إثارة الإشكاليات. أوهام المسرح المرتبطة بقبول الأفكار والنظريات من دون ترو أو تمحيص،أو هيمنة الأفكار القديمة على الواقع مما يجعل منها عقبة كأداء في سبيل الوصول إلى الحقيقة.
لم يتوقف بيكون عند تحديد الأنماط السلبية،بل عمد إلي صياغة نظريته الاستقرائية استنادا إلي أربع قواعد إيجابية، منطلقا في تأسيسه. على أن الطبيعة وعلى الرغم من صورتها المعقدة، تحمل في ذاتها صوراً وطبائع بسيطة. ومن أجل الوصول إلي إكتناه هذه الصور البسيطة لابد من الاعتماد على التحليل. ومن خلال الملاحظة. يتمكن من رصد الظواهر المرتبطة بالطبيعة التي تظهر في حالات متعددة، وإزاء هذا التعدد لابد الاستناد إلى " الاستقراء " الذي سيكون بمثابة الأداة الموصلة إلى الحالة الحقيقية للظاهرة. ومن خلال رصد الظواهر السلبية، يمكن التوصل إلى تحديد الحالة الإيجابية. وإذا ما كان المنطق الأرسطي قد حدد المعنى استنادا إلى العلل الأربعة ؛ (المادية، الصورية، الفاعلية، الغائية ) أي أن الوصول إلى الصورة يتم عن طريق المنطق باعتبار وجودها في العالم التجريبي. أو أن أفلاطون أشار إلى أن التوصل إليها يتم عن طريق الجدل الصاعد باعتبار وجودها في عالم المثل. فأن المنهج التجريبي أكد على أن الطبيعة يمكن أن تنتج عدة طبائع جديدة، وعلى هذا فأنها تنطوي على طبيعة بسيطة. وهكذا فان العلوم ستكون مجال تطبيق المنهج الاستقرائي، الذي سيحدد موجهات الكشف والبرهان في تحديد طبيعة الظواهر. والأساس الذي يقوم عليه هذا المنهج إنما يعتمد على حالتين ؛ الأولى وتتمثل في رفض القانون لجميع الملاحظات الإيجابية التي تم التوصل إليها،إذا ما ظهرت حالة سلبية واحدة فيه. أما الثانية فأنها تقوم على رفض جميع القوانين المعارضة من أ جل الوصول إلى إثبات القانون الجديد.
لقد أسهمت هذه الأفكار في بلورة رؤية جديدة، تمثلت منطلقاتها، في توصيف تاريخي عمد إليه مؤرخو الفكر وهو (( عصر الأنوار ))، الذي تجلت معطياته المعرفية في جملة من التصورات كان الأهم من بينها. التأكيد على أهمية حرية التفكير، واعتبارها الأساس الذي يدعم تفاعلات العقل من أجل الوصول إلى منطق كشف معرفي وعلمي جديد. وهكذا صار النزوع نحو نقد الأصول والثوابت، وتفكيك مرتكزاتها التقليدية، من أجل التوصل إلى فرز بنى فكرية ومعرفية جديدة، تكون بمثابة وحدات صغرى للبحث والتقصي ونبذ الشوائب والعوالق والتصورات المسبقة. وهذا استدعى هدماً لمرتكزات الرؤية السابقة المستندة إلى مركزية التاريخ الأوربي، القائم على مرتكزات الإنجاز لعنصر واحد ممثل بالإنسان الأوربي، أو الادعاء بأن التاريخ الحقيقي ما هو إلا حكر على العناصر الاثنية التي عاشت في الوسيط الجغرافي الممثل بقارة أوربا والذي يبدأ مستهله باليونان فا الرومان وصولاً إلى التاريخ الأوروبي الحديث. وكان للرؤية الجديدة دورها الفاعل في تحديد معالم النظرة القديمة القاصرة والمبتسرة المستندة إلى منطق التجمد والنكوص اللاهوتي والعرقي. فيما كان الإلحاح على أهمية العناية، بما وسعته الحياة من أنشطة وتفاعلات غير الحروب والسياسة، أو الهزائم و الانتصارات. من خلال التأكيد على أهمية دور العقل في بناء التاريخ. وهكذا فأن قراءة التاريخ الجديدة قوامها الانطلاق من ترسيخ مفهوم الحضارة بشكله العام والشمولي.