الحرّة ترفع الستارة عن تاريخ المسرح العراقي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
القسم الاول
مدخل معرفي نقدي
لايختلف اثنان حول اصالة المسرح العراقي منذ بداياته الاولى، تلك البدايات التي تعتبر جذورا حقيقية للنهضة الفنية في العراق منذ اواخر القرن التاسع عشر.. والمسرح واحدا من اهم الفنون الادبية والاجتماعية التي ترقى بالانسان وفكره نحو الاسمى دوما، وهو فن قديم يعود في فلسفته وعروضه الى الاغريق، ولقد تردد على لسان بعض العلماء والمؤرخين العراقيين ان المسرح اصله التاريخي في العراق القديم وخصوصا في حضارة بابل.. وان هذا الفن الراقي يعّبر عن وجدان الناس وآمالهم وطموحاتهم.. وتكاد تكون خشبة المسرح ميدانا حقيقيا لترجمة أي واقع سياسي او اجتماعي او ثقافي.. وللمسرح آلياته ووظائفه التي يستخدمها الفنانون في الاخراج وعرض المضمون..
من خطايا العراقيين انهم لا يعترفون بفضل احدهم على الاخر مع انهم يمتلكون تاريخا مثقفا لامعا طوال القرن العشرين.. وبذلك، فهم من افقر الناس على حفظ اعمالهم وعلى ارشفة نتاجهم وعلى اسداء الجميل بعضهم للبعض الاخر.. لقد مضت عقود طوال من الزمن ولم نسمع اية وسيلة اعلامية عراقية صرفة تخصص بعض الزمن لتاريخ أي حقل من حقول الثقافة العراقية وميادينها وجمالياتها.. بل كان هناك ثمة حظر على اسماء ومعطيات وكانت ثمة علامات استفهام على اعمال ومنجزات..
وتصل درجة التغافل والتجاهل الى سحب بعض الابداعات والتعتيم على كل اصحابها تعتيما ساخطا.. وفي لحظة تاريخية ماكرة، سقط كل شيئ على امل ان يتحقق الحلم النهضوي وحلم الحرية وحلم الخلق والوجود واستعادة المشروع الوطني على ايدي العراقيين انفسهم، ولكن تبددت الاحلام وذهبت مع الريح الهوجاء، علما بأن التغيير قاد الى انبثاق العشرات من الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية والقنوات الفضائية.. ولكن اغلبها ينسخ عن الاخر ولا هم للعراقيين الا الفضول السياسي الذي دخل في كل خلاياهم.. بل ولم يكتفوا بالسياسات والافكار والطروحات التي تنادي بالانقسامات والمحاصصات، بل راحوا يلعبون لعبة المزج بين السياسة والدين ضمن مهرجان مضحك يتفاخرون به الان وهم يرون ويسمعون طوفان حمامات الدم الذي يغرق العراق والعراقيين..
دور قناة الحرة: لماذا التمّيز وسط قنوات عراقية لا حصر لها؟
في خضم هذا المعترك الخطير، تتجّرد قناة فضائية امريكية غير عراقية ولكنها تعنى بشؤون العراق وثقافاته لتقدم برنامجا مطولا على امتداد شهر رمضان المبارك الفائت ويختص بارشفة تاريخ المسرح العراقي ودراسته على امتداد 125 سنة من حياته الزاخرة، وبقدر ما نجح اعداده على ايدي ثلة من المختصين والفنانين الذين ابدعوا في اخراجه وتقديمه الرائع، بقدر ما فشل في الذي طرحه اغلب ضيوفه الاعزاء.. وقبل هذه الوقفة التقويمية، ازجي خالص الشكر لهذه القناة التي عودتنا على تقديم كل جديد اذ نجحت في العام المنصرم في تقديم برنامج شهري عن الاغاني العراقية نال رضى الناس واشبع نهمهم وسد حاجات كبرى في جهلهم.. ولقد كتبت عنه وقت ذاك، ثم سمعت ان مقالتي عنه غدت مقدمة لكتاب صدر عن الاغاني العراقية من قناة الحرة نفسها.. ولقد اقترحت بالتلفون قبل ايام على مقدمة البرنامجين الاخت الفنانة داليا العقيدي في القناة الحرة ان يتم التخطيط منذ الان لاخراج برنامج شهري في رمضان العام القادم يختص بالفنون التشكيلية العراقية وتاريخها الزاخر بالابداعات والعمالقة من الفنانين المثقفين الكبار الذين انجبهم العراق في القرن العشرين، ولكن شريطة ان تتّم الاستفادة من الاخطاء التي كانت في التجربتين الاثنتين عن كل من الاغاني العراقية والمسرح العراقي.. وبهذه المناسبة، اشير على اصحاب القنوات الفضائية العراقية ان يستفيدوا من تجربة قناة الحرة في دراسة ملفات وارشيفات موضوعات ناصعة في حياة العراقيين وثقافتهم الحديثة بدلا من هذا الهوس السياسي الذي لا يقدّم ولا يؤخر من حالة العراق المأساوية اليوم.. ان الثقافة والمنهج يعتبران من العوامل الاساسية في تكوين الوعي الجديد لدى العراقيين وتعرّفهم على تاريخهم القريب بكل ما حف به من مساحات مضيئة وضيئة..
مشكلات المسرح العراقي وتناقضاته
1/ الارشفة وتسجيل التاريخ
نعم، لقد عانى المسرح العراقي من مشكلات وتناقضات لا تعد ولا تحصى وهو المجال الثقافي الزاخر بكل ما كان له تأثير وقوة في حياة المجتمع وتطلعاته من خلال توظيفات المعاصرة واستخدام التراث العراقي والتأثر الواضح بالمدارس العالمية. ان مهمة التوثيق والارشفة قد جاءت متأخرة جدا بعد كل ما اصاب العراق من حطام في الصميم، ولكن تبقى جهود كل المختصين والاساتذة والمؤرخين الذين كتبوا وارخوا للمسرح العراقي الحديث على امتداد اكثر من قرن كامل مهمة جدا، وسيحتاجها المؤرخون في المستقبل لمعرفة الدور الثقافي الذي اضطلع به الفنانون العراقيون في القرن العشرين. لقد كان المسرح العراقي احد ابرز ميادين الثقافة العراقية الحديثة بكل ايجابياته وسلبياته، وبكل منجزاته الكبرى والصغرى.. بل استطيع القول انه كان في جملته ومعطياته محاكاة للواقع العراقي ولطبيعة العراقيين وكلها تمّت على خشبة المسرح على امتداد اربعة عهود تمّثل في الحقيقة اربعة اجيال امتد كل جيل لثلاثين سنة من اعمال مسرحية نهضوية وصلت اعلى مستوياتها في عقد الستينيات من الجيل الثالث.. وهي جيل المستنيرين الاوائل 1889 - 1919، وجيل الليبراليين ما بين الحربين العظميين 1919 - 1949، والجيل الثوري الراديكالي القوميين والتقدميين 1949 - 1979 وجيل القوى والاحزاب الدينية 1979 - 2009.
2/ الفنان تحت وطأة السياسي
ولقد شّكلت تلك " المحاكاة " في جوهرها الحدث التاريخي Event او الفعل المسرحي Action من خلال الدراما تراجيدية كانت ام كوميدية.. ولقد تبّنت المسرحية العراقية بشكل عام افكار وتطلعات كل جيل ازاء نفسه والعالم، ذلك لأن المسرحية العراقية انبنت منذ البداية على احداث شكلية واخلاقية واجتماعية وسياسية.. اخذت تتطور شيئا فشيئا ليرتبط أحدها بالاخر ارتباطا حيويا او عضويا بحيث شكّلت في بعض الاحيان حلقة في سلسلة مترابطة اخذت في اواخر القرن العشرين بالاضمحلال نتيجة الظروف العصيبة التي مرت بالمجتمع العراقي وبخاصة الحروب الصعبة التي اثرّت في صميم المجتمع، وقد غدا الفنان والمسرح تحت وطأة السياسي وقهر السلطة الحاكمة..
3/ جدلية الصراع بين التقدم والتخلف
لقد تلمسنا من دراسة ظاهرة المسرح العراقي، تلك المعاني الخفية لما وراء تلك الظاهرة وخصوصا في ذروة تطورها وعلى ايدي ابرز الفنانين العراقيين مشّكلة من الاحداث الداخلية جدلية في الصراع بين التقدم والتخلف، وبين تطلعات النخبة وبين خطوط السلطة.. وبين تقاليد المجتمع وثورة التغيير.. انها الظاهرة التي عّبرت باشكال عدة عن جملة من المسالك الخلفية التي نجحت في ادائها نخبة من الفنانين العراقيين الذين كان بعضهم من المثقفين وبعضهم الاخر من السياسيين وبعضهم الاخر ممن جمع الثقافة الحرفية والايديولوجية السياسية في التفكير والاسلوب والاداء.. ويبقى هناك البعض ممن عّبر عما تريده السلطة بشكل مكشوف وفاضح، فكان مثقف سلطة وما اكثرهم في المرحلة السابقة عندما بقوا حتى النهاية يرقصون ويدبكون سواء باختيارهم ام باجبارهم.. وبالرغم من كل ما قدّمه المسرح العراقي من ثقافة للعراقيين، وبالرغم من كل مناهج الحداثة التي استخدمها الفنانون والمثقفون والنقاد العراقيون، الا ان الغلبة في نهاية المطاف كانت للمتخلفين والمتحذلقين والبلداء والافاقين والجهلة في السيطرة على مقاليد المجتمع وتسييره نحو وجهتهم المظلمة!
الموصل: جذور المسرح العراقي
كانت مدينة الموصل التي انطلق منها المسرح العراقي واحدة من امهات مدن النهضة العربية الحديثة، وقد شهدت جوانب حقيقية في انطلاق ظواهر عديدة بلورتها ظروف تاريخية متنوعة، بل وساهمت فيها عوامل نهضوية تمتد نحو القرن الثامن عشر. وكانت الموصل على امتداد التاريخ الحديث معبرا استراتيجيا فاصلا بين بغداد واطراف عدة برا ونهرا سواء نحو الاناضول واوروبا، او نحو البحرين المتوسط والاسود.. حتى اختيرت لتكون مركزا لتأسيس جامعة امريكية، ولكن المشروع لم ينجح لاسباب عدة.
ومن يتابع البرنامج سيجد ان السيد المعدّ قد فتح المجال لتوضيح اهمية تلك الجذور، وكم حاولت مقدمته باسئلتها ان تثير الوعي للتعريف بمعلومات جديدة وآراء ثمينة، ولكن ضيوف اكثر من حلقة لم يهتموا لتاريخ المسرح وجذوره.. لقد جرى تغييب لمرحلة التأسيس وعدم تجذيرها لما فيه الكفاية.. ولم يعرف المشاهد اسوة بالسائلين من الذين حضروا البرنامج جوابا شافيا عن اهمية مدينة الموصل ومكانتها النهضوية ليس في العراق وحده، بل في عموم المنطقة.
1/ لماذا الموصل؟
ثمة اسئلة تطرح نفسها دوما: لماذا مدينة الموصل وليس غيرها؟ لماذا انطلقت اولى خيوط فجر النهضة العربية منذ القرن الثامن عشر في الموصل؟ ما مكانتها الجغرافية وما تأثير موقعها؟ ولماذا غدا شبابها اكثر ثقافة وحيوية ونشاطا في تلك الفترة المبكرة؟ ما شخصيتها الاجتماعية؟ ما تأثير خصوصياتها السكانية وتنوعاتها الاجتماعية؟ لماذا لم تسلط الاضواء على ابرز رجالاتها في النهضة والاصلاح؟ ما تأثير اولئك الذين نزحوا منها الى بغداد ليصدروا الصحف ويؤلفوا الوزارات ويؤسسوا المؤسسات؟ ان انبثاق المسرح العراقي من مدينة الموصل له اسبابه التاريخية التي لم يزل كل العراقيين يجهلونها.. وكم كنا بحاجة الى اساتذة متخصصين في تاريخ الموصل الحديث وآدابها النهضوية امثال الاصدقاء الدكاترة: عمر الطالب وعماد عبد السلام رؤوف وابراهيم خليل احمد وغانم الحفو وذنون الاطرقجي وبهنام فضيل وزهير النحاس وعبد الفتاح يحي وذنون الطائي وغيرهم ليقولوا كلمتهم في هذا " الموضوع "، فمعرفة الشيئ تأتي من تأصيله والتعمق في جذوره..
2/ الرواد الاوائل:
ان رواد المسرح العراقي قد تخرجوا من المدرسة الاكليركية التي انشأت بالموصل عام 1750، وكانت ثقافتهم متقدمة ومعرفتهم للفرنسية لا تشوبها شائبة، ولكن منتجاتهم الابداعية كانت عراقية تاريخية او اجتماعية او اخلاقية. ولعل اول عمل مسرحي قدّم في هذا المجال بالموصل تمّثل كان للاب حنا حبش عام 1880، ثم توالت المسرحيات كي تأتي مسرحية (نبو خذ نصر) التي الفها الخوري هرمز نورسو الكلداني عام 1886 ومثّلت في العام 1888 على مسرح تلك المدرسة الاكليركية..
ان معرفة تطلعات مثقفين مواصلة اوائل في فن المسرح يمنحنا الثقة بقوة المنطلق، كما يعزز رؤيتنا لمستقبل وطن موحد لا يمكن تقسيمه ابدا.. ان التعرف مليا على ادباء مواصلة حقيقيين بمعزل عن ديانتهم ومذاهبهم واعراقهم، امثال: يونان عبو اليونان والدكتور داؤد الجلبي والسيد حبيب العبيدي وعلي الجميل والدكتور فاروق الدملوجي وثابت عبد النور وحنا رسام وسليمان صايغ وسليمان فيضي وروفائيل بطي وتوفيق السمعاني وسليم حسون ويوليوس جرجس قندلا وصديق الدملوجي ومحمد رؤوف الغلامي وحسيب السعدي وسعيد الجليلي ومحمد توفيق آل حسين اغوان وفاضل الصيدلي واسماعيل حقي فرج ويحي قاف وعبد المجيد شوقي البكري ونديم الاطرقجي.. وصولا الى ارشد العمري وخيري العمري وصديق الجليلي ومحمد حديد وعبد الجبار الجومرد ومجيد خدوري ومتي بيثون وذنون ايوب ويوسف الحاج الياس وسعيد الديوه جي ونوئيل رسام واحمد الصوفي ومحمد محمود الصواف ويونس بحري وغيرهم كثير سيمكننا من معرفة الواقع الذي عاشوا في خضمه وانطلقوا منه.
3/ الانطلاقة ليست تبشيرية
لقد اثيرت مسألة اخرى في الحلقة التي قدمت يوم 30 سبتمبر ذلك ان احد الضيوف اطلق حكما غير مسؤول عندما قال: البدايات في الموصل كان اسلوبها تبشيري حتى العام 1908. وهذا حكم غير منصف ايضا، فان المسرح الاول برغم بدائياته في الموصل، الا انه كتب باقلام عراقية مسيحية وليست اجنبية تبشيرية، وان من يقرأ تلك البدايات المسرحية يراها مجموعة محاكاة كوميدية او تراجيدية تنزع نزعة اخلاقية محلية لا اثر فيها لتبشير بدين او مذهب.. صحيح انها جاءت مؤلفة من قبل قسس ومن معلمين من مسيحيي الموصل العراقيين، وانها مثّلت في مدارس دينية، الا انها لم تمّثل الا مجموعة تقاليد اجتماعية.. ولقد قام البعض بترجمة مسرحيات اوربية وخصوصا عن الفرنسية ومنها لمدام دي بو فوار وغيرها..
4/ دور الموصل أم الربيعين
لقد شهدت الموصل عند بدايات القرن العشرين حركة سياسية واصلاحية وتكوين احزاب وانطلاقة نخب وشراكة فنون وحركة اتصال فعالة.. وما ان غدت بغداد عاصمة رسمية للدولة العراقية، اخذت تستقطب الحياة الحديثة وبقيت الموصل معينا لا ينضب للعراق.. ولكن لحق بها ويا للاسف الشديد من الغبن الكبير، بل ووصل الامر الى تجاهل كامل لفضل الموصل على تبلور ظواهر تاريخية وفنية وثقافية نهضوية عراقية.. مع العلم ان الموصل بكل خصوصياتها لا يعد تعصّبا لها، بقدر ما يمّثل عشقا لعبقرية مكانها وما يمتاز به من جماليات، وانك لا تجد فيها أي نزعة لكراهية الاخرين ولا تعد خزينا لاحقاد الاولين والاخرين بفعل دورها في التعايش الاجتماعي الخلاق عبر التاريخ.. وأيضا بسبب تعدد عناصرها السكانية واطيافها الاجتماعية بشكل عجيب، وبالرغم من سمات التوّحد فيها الا ان المجتمع الموصلي بقي منغلقا على نفسه محتفظا بطبيعته ومحافظا على تقاليده الاصيلة.. ويمكنني ان اجد سريان هذا الى سنوات عقد السبعينيات، اذ بدأ المجتمع المديني يتحّول الى مجتمع هجين بفعل الاختلاط بين الريف والبدو والحضر القدماء، فحّلت الكارثة بكل من المدينة واطرافها.
ضيوف البرنامج: مشكلات مستديمة لا تقبل اية حلول
1/ المواعظ والصمت
ان المسرحية العراقية تبدو مترابطة ترابطا شكليا كما عرضها برنامج (ترفع الستارة) وخصوصا مع مسلك الشخصيات التي يجمعها اسلوب واحد تمثلها التقاليد العراقية المعروفة، ولكنني لا اجد في هذا التوصيف (او: المسلك) أي تبرير مقنع لما قدّمه البعض من الضيوف الذين ذهب بعضهم كي يلقي بمواعظه السمجة على الظاهرة برمتها، وصمت البعض الاخر عن الادلاء حتى بالشهادة الحقيقية لضعف في ثقافته اللغوية والعامة، وقدم البعض الاخر سفسطة وانشاء ومجرد لغو وتصفيف للكلمات والتعابير التي لا يفهم هو نفسه معانيها هروبا من وضوح الرؤية..
2/ المسرح بين المعلومات الخاطئة والاوصاف الشجاعة
وجاء آخر ليقدّم معلومات خاطئة لا يعرفها، وفرض اخر نفسه على الموضوع من دون أي خزين للمعلومات.. وتجّرد آخرون للتمجيد والتفاخر من دون أي نقد ولا اي تحليل ولا اي مكاشفة.. ولم ار الا اثنين فقط من الضيوف من تحّلى بالشجاعة ليقدّما وصفا شجاعا لما حّل بالمسرح والثقافة والفن في العراق من كوارث ابان المرحلة السابقة. وكلمة لابد من تسجيلها هنا بالنسبة لكل من يهوى الظهور على شاشة التلفزيون في قنوات فضائية اوصيه ان يكون امام الكاميرا ضيفا خفيف الظل وواضح التعابير وجميل الهيأة.. ولا يعتقد ابدا انه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، ولا يعتقد ابدا انه سيكون نجما او بطلا.. ولا يظن ان الدنيا كلها ستنسى هذا الوجود لكي تستمع الى ما يقول! ولا يفّكر ابدا انه سيغّير مجرى الحياة.
3/ استعراض العضلات: المنفوخون دوما
ان الحياة مليئة بالاخرين، وان الحياة لا يمكنها ان تتوقف من دونه! ولعّل أسوأ ما لدى هذا الانسان: استعراض عضلاته بطريقة أنوية خالية من أي تواضع، ومجدبة من أي فرص للتنازل عن الذات المطهمة فيقوم بكل محبة ومودة بعرض جهود الاخرين ليفتخر بها امام الناس.. فالانسان ان عرف قدر نفسه، عليه ان لا يزاحم الاخرين باستعراض عضلاته وتاريخه الشخصي وصناعة امجاده، بل يدع كل الاخرين يتحدثون عنه وعن تاريخه وعن منجزاته ان كان له تأثير واضح في الحياة. لقد تعّود البعض من العراقيين وبسوء التربية التي اكتسبها ان يتنطع بنفسه، وان يستعرض منجزاته ويتفاخر بها على الناس، بل وباستطاعته ان يغّيب جهد الاخرين ليلبس ذلك لنفسه منكرا على الناس حتى ذكر اسماء زملاء له او مشاركين له او ابطال حقيقيين لعمل اشترك فيه بدرجة ثانية! الشيئ الاخر الذي أود اثارته هنا وانا اتحدث عن صفات بليدة يحملها البعض وهي لا تتفق وسجايا المجتمع الواحد، ان باستطاعة البعض ان يشيد بجهويته على حساب الطرف الاخر من المعادلة.. أي اعلاء شأن مكان محلي على حساب مكان محلي آخر من دون وجه حق.. فانني ان اوضحت باعتزاز ما لمدينة معينة من فضل معين في التاريخ، فان ذلك يمنحني قوة ومضاء وحسن تقدير..
4/ العراق بين الكراهية والمكابرة
انه لا يحتمل ان يسمع ان النهضة المسرحية قد ولدت في مكان معين من العراق ترّبى على كراهيته له! او لا يقبل ان يجد فئة اقلية ذكية وعريقة من سكان العراق قد نبغت واحترفت فن معين وثقافة معينة ونهضة معينة! ربما حب المكان وعشق ثقافة المكان والارتباط العضوي بذلك المكان يجعله يفضله على أي مكان آخر في بلاده.. لكن في الحقيقة ان هذه ظاهرة مرضية اجتماعية لا يمكنها ان تبقي على روح المواطنة والمعايشة الواحدة في اطار ثقافي عام، فما دام الامر يعرض على كل ارجاء العالم باسم ظاهرة ثقافية عراقية، فمن الاجدى ان يلتزم الضيوف باعلاء شأن العراق كله من دون نشر غسيل تعّود العراقيون على نشره بدافع امراض اجتماعية مترسخة عندهم وتشكّلها الكراهية والاحقاد العرقية والطائفية والجهوية والفئوية والطبقية.. الخ
5/ التمرد والفضاضة
من ضمن الثقافة التقليدية التي اعتاد العراقيون على ممارستها ظلما وعدوانا بحق انفسهم كلهم، ان كل جيل يتقّدم يلعن ما انجزه الجيل السابق، بل ويستخف به ويقلل من شأنه وينكر عليه منجزه ويغّيب عناصره ورجاله ونسائه.. ناهيكم عن ناحية أخرى، من المهم جدا التعّرض لها ضمن هذا السياق ذلك ان من يعرض نفسه على شاشة التلفزيون يكشف عن بضاعته وثقافته، بل ويفضح نفسه امام الناس.. وكثيرا ما نجد ضحالة في الثقافة العامة، بل كثيرا ما نستهجن على المرء انعدام دقته واطلاقه لاحكام غير صائبة ولا حكيمة نتيجة لانعدام قراءاته او انه يقوم باستلاب جهد الاخرين ليعرضه مشوها تماما سواء يتم ذلك عن قصد ام من دون قصد!
6/ التربويات الخاطئة
ومن المضحكات الاخرى ان اسمع فنانين عراقيين لا يعرفون لفظ الكلمات بطريقة صحيحة ولا مهارة لهم في مخارج الحروف مما يسبب مشكلات لا حصر لها.. وهي دليل ضعفهم وهزال ثقافتهم ازاء الاخرين.. ان بعضهم لا يعرف كيف يتكّلم ولا كيف يجادل او يحاور.. ثمة ظاهرة مفجعة اخرى في الثقافة العراقية اليوم، انها تعبير عن تربويات خاطئة ونتاج مدارس الخمسين سنة الماضية باستخدام نفس التفكير ونفس التعابير ونفس الشعارات ونفس التضليلات ونفس التشويهات التي تربى عليها اكثر من جيل.. ان جيل المد القومي 1949 - 1979 وجيل المد الديني 1979 - 2009 يبدو ان الثاني تربى في حاضنة الاول ونهل من شعاراته وافكاره وتعابيره الكثيرة.. انني لم ازل اسمع ترديد مصطلح (القطر) بديلا عن تعبير (البلاد)، ولم ازل اسمع توصيف حكومات القرن العشرين بطوله وعرضه صفة الحكومات الجائرة بديلا عن الحكومات السابقة ,, وايضا مصطلح جلاوزة النظام بدلا من اعوان النظام ومؤيديه..
7/ كائنات متوحشة وكائنات خائفة
لقد وجدت ان اغلب الضيوف من الفنانين والمثقفين العراقيين الذين استضافهم البرنامج كانوا يتكلمون وكأن على رؤوسهم الطير، انهم يبدون خائفين مرعوبين فلا يعبرون عن حقائق يؤمنون بها، بل يخفون اشياء كثيرة، او يستخدمون لغة رموز متساوقة شبيهة على طريقة: اياك اعني واسمعي يا جارة! ان الخوف لم يزل يكمن في الاعماق وخصوصا في الحديث عن المرحلة السابقة وكل احداثها ومجرياتها.. الخوف من الحيطان الموصدة.. الخوف من الكائنات الموحشة.. الخوف من التقارير الحزبية.. الخوف من نظرات العيون الزائغة والشوارب الكثة. لقد أبى الجميع ان يقولوا الحقيقة باستثناء ضيفين اثنين تحّلى كل منهما بالشجاعة في قول ما ارادا قوله!
8/ احتكار الخطاب
ومن اللقطات المؤثرة والمثيرة التي لم اتحملها عند بعض الضيوف في حلقة يوم 4 اكتوبر اجتماع ضيفين اثنين احدهما يلبس قبعة والثاني من دون قبعة.. ويبدو ان طبيعتهما وموقعهما غير متكافئ، أي بين عميد كلية وبين فنان ممثّل.. لقد بدا لي هذا الاخير مسكينا بشكل يثير الشفقة، بحيث لم يتكّلم شيئا الا وقاطعة الاول وقمعه واستحوذ على الكلام مستأسدا بطول الجلسة وعرضها.. قلت في نفسي: كم هي اخلاقيات المهنة واخلاقيات الحوار مهمة جدا في ان يعطي الانسان للاخر اكثر مما يأخذ لنفسه؟! وكم كنت أود ان نتوقف في هذه الحلقة عند الشاعر خالد الشواف الذي يعد صاحب المسرحية الشعرية في العراق، ولكن هذا لم يحدث ابدا! وارجو ان لا يتذرع احد بثقل الموضوع ازاء الوقت المختصر، اذ تلفت دقائق طوال بالتكلم في اشياء لا معنى لها.. وعلى انشائيات وعموميات وتنظيرات! ان من اسوأ الامور ان يسئل المرء عن معلومات وحقائق، ولكنه يتيه بنفسه في فجاجة من الكلمات والتعابير التي لا معنى لها، او يردد تنظيرات يحفظها على ظهر قلب ولا يفهمها الناس العاديين.. وهو نفسه لا يدري ما يقول.. وهذا ما اتلمسه عند اناس عراقيين لا يعرفون ابدا كيف يتكلمون ازاء نسوة ورجال من العراقيين الاذكياء من المهرة الحاذقين.
اخطاء ينبغي ان تصحح!
ارتكب بعض من كانوا ضيوفا على البرنامج جملة من الاخطاء التي لا يمكن قبولها البتة، وساقوم بتصويب بعضها نظرا لكثرة ما سمعته منها:
1/ ان الاحزاب العراقية قد ولدت منذ العام 1909، واستمرت في ولايات بغداد والموصل والبصرة.. وليس كما قال بعضهم: ان الاحزاب العراقية قد ولدت بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921!
2/ ومن الصواب القول ان الثورة البلشفية قد اندلعت في روسيا القيصرية عام 1917، وليس كما قال احدهم من انها اندلعت في الاتحاد السوفييتي!
3/ ومن الصواب القول ان الوزير مدحت باشا حكم بغداد ثلاث سنوات، للفترة 1869- 1871 اذ لم يكن يسّمى بوالي العراق، ولكنه منح صلاحيات واسعة من النفوذ على الولايات العراقية الثلاث.
4/ ان المجتمع العراقي لم يكن بدويا ـ كما ذكر احدهم ـ، فالمجتمع العراقي عرف المدنية والتحضّر منذ القدم، وبقي مجتمعه يتوزع بين الحضر والريف والبادية. وحتى ان كان هناك بدو من العراقيين، فما علاقة هؤلاء بالمسرح العراقي؟
5/ انكر احدهم على النهضوي المثقف اليساري الموصلي القديم يحي قاف ان يكون اول مؤسس لدار التمثيل العربي، وانكر على الاستاذ الدكتور عمر الطالب قوله " لا جدال ان دار التمثيل العربي هي اول دار مسرحية في العراق "! اذ عّلق قائلا: " محتمل هناك 29 قبله " ولم يذكر واحدة من هذه ال 29!!
6/ قال احدهم ان التقاليد الدينية كانت تحكم فترة العشرينيات! والدليل ان اكثر الاعمال تاريخية ودينية متقيدة بوضعية المجتمع.. ولا يدري هذا المسكين ان تنوع العشرينيات وما قبلها برغم التخلف في العراق كان يسمح لجذب المطربين والمطربات والراقصات وتأسيس الحانات والخمارات والملاهي بشكل لا يضاهى وان الانفتاح بدا لاقصى مداه حتى بابقاء دور البغاء القديمة في واقع قديم قبل احتلال الانكليز للعراق.. وعليه، لا يمكننا ان نسقط الواقع اليوم على الماضي وصبغه بالصبغة السائدة اليوم، فالتقاليد الدينية كانت موجودة ولكنها لم تكن تتحكم بالمجتمع ولا بالدولة!
7/ من المضحكات ان يستخدم احدهم اسم يحي حقي بدلا من الاسم الحقيقي يحي قاف! ومن سذاجة البعض الاخر ان يستخدم مصطلح (المحافظات) وهو يتكلم عن العهد الملكي او العهد الجمهوري الاول من دون ان يدرك ان نظام المحافظات قد عمل به في عهد احمد حسن البكر، فهو اذن لا يدرك معنى المصطلح الاداري السابق (لواء وجمعها ألوية العراق)!
8/ لا اعرف تفسير كيف كانت السلطة العراقية في العشرينيات مهادنة ومحايدة، ولكن السلطات ضيقّت الخناق على مسرحية الوطن؟؟ فالمعروف في عهد الملك فيصل الاول رحابة الثقافة وحرية الرأي وتجسير المثقفين وحيوية الاحزاب وتعدد الصحف والاهم من كل هذا وذاك انه لم يكن هناك أي رقابة ولا أي أمن ولا أي اضطهاد كالذي بدأ يتبلور في عقد الثلاثينيات ومع توقيع معاهدة 1930 وتطبيقها في العام 1932 التي جعلت العراق دولة مستقلة ذات سيادة وعضوة في عصبة الامم!
9/ انني اسأل عن تغييب اسماء او ذكر اسماء دون تعريف بها، فالفنانة المصلاوية انطوانيت اسكندر (اخت الفنانة عفيفة اسكندر) لم يعّرف بها ابدا، واقتصر على ذكر اسمها، بل لماذا لم يقّدم عنها وعن غيرها من الفنانات الاوائل أية معلومات تاريخية؟؟ معنى ذلك غياب للمؤرخ الحقيقي من البرنامج الذي لم يعرف الا الفنانين وبعض نقاد المسرح!
10/ اذا لم يستطع الضيف المسكين تلفظ بعض الكلمات الاجنبية، فلماذا يستخدمها عنوة.. كان من المضحك ان يستخدم احدهم مصطلح (انتلجينسيا) بشكل يثير الشفقة!! وهكذا بالنسبة لمصطلحات اخرى لا يدرك هذا او ذاك تلفظها، فهو يرطن بلغته العربية، فكيف به وقد أتى على مصطلحات لا قبل له بها!
يتبع القسم الثاني
www.sayyaraljamil.com