كتَّاب إيلاف

دستور الاسلام المستنير ( 12): المواطنة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ملحوظة . تأخر نشر هذه الدراسة مدة طويلة ، لسبب لا يرجع الى المؤلف او يعود الى الموقع . وعندما يحين الحين فسوف يُكشف عن السبب الحقيقي في التأخير .

خلال العصور الوسطي ، كان قد حدث ثمة فرز للناس على أساس ديني ، للمناطق والاقاليم . ففي الشرق الاوسط غلب الاسلام ، مع وجود أقليات متعددة . وفي اوروبا سادت المسيحية بمناطقها المختلفة . وفي الشرق الاقصي كانت الهندوسية تغلب في الهند وفي بعض المناطق الملاصقة بينما توزعت البوذية - بشقيها الشمالي والجنوبي - في باقي المناطق .
وفي فرنسا، كان الناس موزعين توزيعاً طبقيا . فالاشراف في طبقة الاشراف ، ورجال الكهنوت في طبقة رجال الدين ، وباقي الناس في طبقة العوام . وكان المجلس التشريعي (آنذاك يسمي مجلس طبقات الامة) لا يستوى على اساس حزبي بحيث تكون الغلبة للحزب الذي يفوز بأغلبية الاعضاء ، لكنه كان يقوم على أساس الطبقات الثلاث، وكان ذلك واضحاً في اسم المجلس النيابي ذاته . وكانت كل طبقة منها ثابتة متحجرة، لا يمكن الانتقال منها الى أي من الطبقتين الاخريتين . فران الجمود على كل طبقة ، وكان التمثيل النيابي تمثيلاً يرعي شئون الطبقة النافذة بحيث يندر ان يُعني احد الاشراف او واحد من رجال الدين بطبقة العامة ، الا من قبيل التجمّل والتكرم والتفضل ، لا دفاعاً عن مصلحة هذه الطبقة ولا رعاية للامة الفرنسية ككل، لأن مفهوم الطبقات الثلاث كان يجعل من أبناء كل طبقة كتلة ملتصقة بطبقتها ، بحيث لا يجد الفرد العدل والامان الا في طبقته وفي تحقيق مصالحها، فيصعب بذلك ، ان لم يكن من المستحيل ، ان تنشأ الا للمفكرين ، لا للسياسيين ولا لغيرهم ، انتباهة الى مصالح الامة ككل ولو كان ذلك ضد مصالح طبقته .
قدم المفكرون امثال فولتير وديدرو ومونتسكيو وجان جاك روسو مفاهيم جديدة عن حكم الشعب وحرية الفكر والعمل وحقوق الانسان ، وصادف ذلك نشوء المدن التي تقيم فيها الطبقة البرجوازية (نسبة الى لفظة برج العربية ، لانهم تكونوا من التجمع حول الابراج التى كانت تقام فيما بين الاقطاعات، حيث يتزود المسافرون فيها بالطعام او يستطيعوا المنام) وكانت هذه المدن بطبيعتها ، بعيدة عن الافطاعيين مستقلة عن رجال الدين .
وفي الجو العام الذي نتج عن الاستنارة ، ولضائقة مالية وقعت فيها الدولة ، ذاب الشعور الطبقي او تخلخل ، فبدأ عدد من الاشراف ومن صغار رجال الدين في الانضمام الى العامة ، وطالبوا جميعاً بإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية شاملة، وغيروا اسم "مجلس طبقات الامة" الى ان يكون "جمعية وطنية" . وبهذا بدأت الامور تسير في اتجاه الثورة ، فاندلعت الثورة الفرنسية (عام 1791م) . كان أهم نتاج الثورة إلغاء نظام الطبقات ، واعتبار ان فرنسا كلها مدينة واحدة هي وطن للجميع ، وبهذا نشأ مفهوم المواطنة (بالفرنسية Citoeyn وبإلانجليزية Citizen ) ، ومن مقتضي ذلك ان صار كل الافرد الفرنسيين ، مهما كانت الاختلافات بينهم ، جنسية ، أو طبقية ، او معتقدية ، مواطنين ، يستمد كل مواطن منهم حقوقه ويعرف إلتزماته من الدستور الذي وضعته الامة كلها بمندوبين عنها .
وفي مصر ، وفي البلاد العربية ، كان كل فرد فيها خلال القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر ، وفي بعض البلاد ، حتي القرن العشرين "رعية عثمانية"، أي إنه كان رعية للسلطان العثماني في الاستانة او لولاته الذين يعينون منه لمباشرة أعمال الحكم التي كانت تهدف الى السلب والنهب . وكانت فكرة الحقوق العامة خافية وغير معروفة ، لان السلطان وولاته ، كانوا هم الذين يمنحون الحق وهم الذين يفرضون الالتزام ، وليست للشعوب كلمة او حتي احتجاج ، فحوّلهم طول القهر الي ان يكونوا مستسلمين لا يفكرون في تغيير شئ إلا ان يغيره الله ، في حين ان القاعدة القرآنية عكس ذلك إذ تقرر ان "لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم" .
وفي مصر ، عند وضع دستور 1923 ، كانت مصر قد استقلت عن السلطنة العثمانية ، فأتجه مشرعو الدستور الى ابتناء ما سموه "الدولة المصرية" على مفهوم المواطنة . هيأ لذلك أن كانت ثورة 1919 قد أذابت بتوهجها اى مفهوم عنصري او قبلي او معتقدي ، وصار الكل مصريين، يرسم الدستور حقوقهم والتزاماتهم ، فسيستمدون منه الحقوق ويؤدون الالتزمات، وفقاً لما رسمه الدستور، وما صدر من قوانين مكلمة له . ووجد كل مواطن الامن والعدل في هذا الوضع الذي كان الكل فيه مصرياً ، فلا تتوزع الامة بين مسلم وقبطي ، اوبين حضري وبدوي ، او بين مزارع وموظف ، او بين مصري ونوبي .... وهكذا ، عاشت مصر كتلة واحدة يتداعي كل مواطن فيها بكل المواطنين ، ويجد في هذه الرابطة راحة عظمي وسعادة بالغة .
عندما قام الانقلاب العسكري في 23 يوليو 1952 حدث تلاحم شديد وسريع بين الضباط الانقلابيين ومن أيدهم من صغار الرتب ، وبسرعة أدى هذا الوضع الى وجود استقطاب حاد بين العسكريين والمدنيين . وإذ حَكم العسكر وكانوا في كل أعمالهم قليلي الخبرة ،
متعجرفي الطباع ، قصار النظر ، رافضين للمشورة ، فقد كان نتيجة ذلك ان تفتت المصريون في طبقة العسكرتاريا (التي كانت مقصورة على قادة الانقلاب والموالين لهم الضباط) وطبقة المثقفين (التي كانت تنكر استيلاء العسكر على السلطة وعلى حكمهم برعونة وتسرع ، وبنظرة جزئية قصيرة المدي . وكان ضمن المثقفين كثير من الاقباط) ، وتوالي التفتييت بين مزارع واقطاعي ، مستأجر ومالك ، عامل وموظف ، أهل الخبرة وأهل الثقة ، الموالين للثورة وأعداء الثورة ، مشجعي نادي الاهلي ومشجعي نادي الزمالك ، والصعايدة والبحاروة .. وهكذا . وبصدور قانون الازهر عام 1963 لسحب البساط من تحت الاخوان المسلمين نشأت طبقة علماء الدين وصارت على الضد من المتحررين (الليبراليين) والمستنيرين . ثم ، اعتباراً من سنة 1970 ، حدث تفتت على اساس ديني كانت نتيجته وجود اسلاميين ، ومسلمين ، وأقباط ( وكانت مشكلة الاقباط قد بدأت مع مشكلة المثقفين ، قبل ذلك ، ومنذ بداية الانقلاب ) .
كان من شأن أسلوب الحكم الجاهل الأرعن المستبد انه لم يعد أحد يجد نفسه وعدله وأمنه الا في مجموعة خاصة به لا في المواطنة، إذ لم تعد هناك ثقة بالدستور الجديد ، ولا بغابة القوانين ولا بنظم الحكم . ولما بلغ التقصير من السلطة حاجات الناس من خدمات تعليمية ، واقتصادية ، ومعيشية ، وجدوا البديل فيما تقدمه الجماعات الاسلامية للفقراء والمعوزين ، وما تقدمه الكنيسة لمن تعوزه حاجة من الاقباط . فزاد التصاق مُقتضِي الخدمات او طالبيها بمن يوفرها لهم ، ونأوا عن السلطة وعن مفهموم المواطنة، ووجد أغلب الناس انفسهم غرباء فيما كان وطناً لهم . وزاد الامر سوءا على سوء ان ابناء العمال والفلاحين الذين كان الانقلابيون يجتذبونهم بما يسمي مكاسب الثورة (!!) هؤلاء الابناء تلقوا التعليم وصاروا مؤهلين بشهادات عليا (في الغالب) ، ولزيادة اعداد حملة الشهادات فقد طال خط المتعطلين طالبي الوظائف ، ولم يعد هؤلاء يشكرون منْحهم فرص التعليم ، بل تحولوا الى ناقمين من طول البطالة ، وتقاربت مشاعرهم الناقمة من اعباء التبطل مع مشاعر غيرهم، ممن كانوا يعتبرون اعداء لأهاليهم في بداية الانقلاب، واقتصرت بعض الوظائف على ايجاد وساطة نافذة أو دفع رشوة ضخمة، لم يكن الكثيرون من طالبي العمل قادرين على هذه او تلك. وتطور الاحباط الى غضب، والغضب الى نقمة، فزاد عدد المنكرين للمواطنة، ولم يعد الكثيرون يجدون لها مفهوماً او مدلولاً او يرون منها رعاية او حماية .
ثم كانت المرحلة الاخيرة عندما بدأ بعض الأسلاميين (انصار الاسلام السياسي) يعتدون بالهوية الاسلامية وحدها ، ويرون ان "الاسلام وطن" ، وان غيرالمسلمين من أهل الكتاب، أقباطاً، او يهود ، هم في ذمة الاسلام، اي من أهل الذمة . بذلك اختفت المواطنة المصرية تماماً ، وأصبح الحديث يجري على اساس المسلمين (وهم الاسلاميين) او الاسلامويون وأهل الذمة من الاقباط، وهم نسبة كبيرة من المصريين . ودفع هذا اقباط مصر الى ان يهرعوا الى الكنيسة ، يجدون في رحابها الرعاية ممن يهدد مواطنتهم ، والحماية ممن يسفه معتقدهم . وانتقل هذا الفهم الخاطئ الى بلاد اخري فأصبحت تجري قسمة المواطنين ، بين حركات وطنية وحركات اسلامية .
وأصل فكرة اهل الذمة أن السكان الاصليين لمدينة روما (ويطلق علهم لفظ الممادنين ، نسبة الى المدينة ) كانوا يرفضون ان يدخل مدينتهم من ليس من ممادينها والاجاز لأي ممادن روماني ان يضع اليد عليه ويكتسب ملكيته لانه قد صار عبداً اي رقيقاً بإعتباره Pagan اي ما يفيد معني الوثني حالاً (حاليا) . وكان لا بد في مثل هذا الوضع القانوني ان يبحث له عن احد يحميه فيدخل روما في حمايته (بإلانجليزية Protege وبالفرنسية Protegee وباللاتينية Protegere (يراجع قاموس Ox ford ) ولا بد ان هذا الفكر كان قد نفذ الى الاسلام في عهد النبي لان ما نقل عنه ان اهل الكتاب في ذمته (هو شخصياً) ، وهو ذات الفهم الذي يجعل غير المسلم ، مسيحياً كان ام يهودياً ، شخصاً في ذمة النبي ، اي في حمايته . وقد ظل هذا المفهموم سائداً الى ما بعد وفاة النبي ، غير ان التعبير قد عُدل الى ان يقال ان اهل الكتاب هم في ذمة المسلمين . ويقول بعض الاسلاميين ان ذلك يعني ان يكون "لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على هؤلاء المسلمين" ، وهو تعبير غامض يردده القائل كالببغاء دون اي تمعن فيه ، فهل يكون على أهل الذمة حق الصلاة والزكاة والصوم والحج ، التي هي على المسلمين ؟ فإذا لم يكن الامر كذلك فهلا تحددت الحقوق وتبينت الالتزامات وتوضحت اجراءات هذه الالتزامات وتلك الحقوق ، فيظهر ما هو من الدين وما هو من الحياة؟ ومن المسئول عنها تحديداً ؟ وكيف يكون التصرف ان ظلم او غدر او اخلّ بذمته ؟
ان المواطنة ارقي واسمي وأدق واضبط مفهوم وصلت اليه الانسانية . فلقد كان الشخص ينسب الى مدينة ، كالممادن الروماني، او لعقيدة فيقال انه يهودي او مسيحي او مسلم ، او يُنسب لغير ذلك من قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وشيع ، ومازالت هذه تبدو لقبا في بعض الاسماء . وقد تتبعت الدراسة نشوء فكرة المواطنة وكيف انها تحقق المساواة بين الجميع ، وتنفي التبعية والرعوية لحاكم مهما كان ، فتجعل الحقوق والالتزامات نابعة من دستور يُتفق عليه ويصدر عن أباء الشعوب فيلتزم به الحاكم والمحكوم ، فيما حدد لكل من حدود وحقوق والتزمات ، فإذا حدث تجاوز من اي شخص رده القانون الى حده . فإذا كان الامر كذلك ، فما الذي يدعو البعض الى استحياء الهوية الدينية التي كانت سائدة في القرون الوسطي وقبل ان تظهر فكرة المواطنة ، بما فيها من عدالة ومساواة ؟ هل تتقدم الشعوب ام ترجع القهقري ؟
هذا هو الشأن في مصر ، وهو على نحو ما ، ما ينطبق على كثير من الشعوب العربية ، التي مازالت ترسف في القبائلية والعشائرية والثقافات الفولكورية وفي الطائفية والمذهبية ، وربما يتخذ الامر مدي بعيداً الى ان يتحقق مفهوم المواطنة ، او تنشأ ثقافة خاصة تروج له وتبين مزاياه . ولا يكون رفض مبدأ المواطنة الا بسبب التعالي الكاذب والعنجهية المريضة والجهالة المطبقة ، وأمثال هؤلاء هو من قال فيهم الشاعر أحمد شوقي (بتصرف)

لاقي الزمان تجدهموا .. عن ركْبة متخلفين

هم في الاواخر مولدا .. وعقولهم في الاقدمين

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف