بنية الثقافة العراقية: دراسة في الاجيال الراحلة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نص المحاضرة الشفوية المطولة التي ألقاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في مجلس العمل العراقي، على قاعة ابن ماجد بالمجمع الثقافي في العاصمة ابو ظبي مساء يوم الاربعاء 8 شباط / فبراير 2006.. وقد قدّم للمحاضرة الاستاذ عيسى العزاوي. أما المحاضر فلقد قدّمه الاستاذ الدكتور بارق شّبر وحضرها لفيف من الشخصيات العراقية ووفد على مستوى عال من وزارة الثقافية العراقية ممثّلا بالاستاذة ميسون الدملوجي وكيل الوزارة الاقدم والاستاذ كامل شّياع مستشار الوزارة.. فضلا عن نخبة من المثقفين العراقيين والعرب.
تقديم
سيداتي سادتي
الاصدقاء الاعزاء
اسعدتم مساء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. انني سعيد جدا ان القاكم جميعا شاكرا للصديق الاستاذ الكبير طالب خان رئيس مجلس العمل العراقي على استضافته لي، واثمّن جدا حضور الوفد العراقي الرسمي لوزارة الثقافة العراقية عالي المستوى ممثلا بالاستاذة ميسون الدملوجي وكيل وزارة اقدم والاستاذ كامل شيّاع مستشار الوزارة على مشاركتهما هذه الامسية التي اتمنى ان تكون لها قيمتها ونفعها وضرورتها.. ويسعدني ان اعلن للملأ انني ساتحّدى بمحاضراتي وقلمي كل من يعترض علّي وكل من لا يريد للعراق خيرا وخصوصا اولئك الذين جعلوا من انفسهم اوصياء على الاخرين في مدينة كسيحة كئيبة احالوا نورها الى ظلام دامس، وانا أرى واسمع كل الذين وقفوا معي بوطنية وشرف للنضال من اجل وطن موحّد متمدن حر مزدهر ومتقدم. والكل لابد ان يدرك بأن العراقيين يؤسسون لهم كيانا جديدا في القرن الواحد والعشرين وان مجتمعنا يمر بتحولات جذرية ومخاضات صعبة.. وللمثقف دوره كما هو للسياسي ولكل انسان عراقي في هذا الوجود.. ولا ادري كيف صنعت الصدفة لأن تأتي محاضرتي هذه في تاريخ 8 شباط الذي يذّكر العراقيين بذكرى مؤلمة جدا، ويذّكرني باصطدام ساخن جدا بين قوتين اساسيتين من المثقفين العراقيين قبل اكثر من اربعين سنة، فالعملية لم تكن مقتصرة على سيطرة قطعات عسكرية او قصف رشقات جوية او معركة قوى بعثية بشيوعية.. وانما هي صراع دموي بين ثقافتين سياسيتين كانتا قد تأسستا في العراق منذ انبثاق الكيان السياسي للعراق دولة ومجتمعا في القرن العشرين - وساتناول ذلك بالتفصيل بعد قليل -.
المدخلات
ان هذا " الموضوع " الذي ساتحدث به اليوم سيخرج بعدة من الاستنتاجات التي اجدها وبتواضع كبير فلسفة عمل من اجل سيرورة الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين. ان محاضرتي هذه ساعالجها من خلال ثلاثة محاور اساسية: المدخلات في التنظير نظرا لحاجتنا معرفة ما الذي سأقوله في المحور الثاني الذي يشكّل عمودا فقريا للموضوع معالجا تركيب اجيال الثقافة العراقية في كل من القرنين التاسع عشر والعشرين، ثم انتهى الى الاستنتاجات التي ازعم انها مهمة للغاية اذ انها ترسم ملامح او خطوط للمستقبل ان بدأ العراقيون خطواتهم في بناء المجتمع واصلاح السايكلوجيات واستعادة اللحمة الوطنية - وهي عندي - اهم بكثير من اي عملية اخرى في البناء الصعب ونحن نعلم بأن مهمة البناء هي الصعبة ازاء عملية الهدم السهلة.
(1) الثقافة والمثقفون: المصطلح والمضمون
ان الجذر التاريخي لاستخدام كل من مصطلح " الثقافة " ومصطلح " المثقفون" شفويا وتحريريا لا يربو في حياة العرب على سبعين سنة من الزمن في الاعم الاغلب. والمصطلح بصيغته المتعارف عليه: كلمة مولدة، اذ هي ترجمة للكلمة الانكليزية Intellectual وللكلمة الفرنسية Intellectuel التي يرقى استعمالها في الادبيات الانكليزية الى القرن السابع عشر، ولكن تم تشكيل حمولتها على مدى اكثر من قرن من الزمن لدى الفرنسيين. والمصطلح بصيغته المرجعية في المضمون العام مشتق من Intellect الذي يرمز الى العقل في تشكيله او الفكر في بنائه، وصاحبه هو الذي له ميل أو نزوع نحو الفكر، وهو الذي اكتسب في حياته شؤون الفكر، فاصبح في عداد أصحابه، مقتربا في ذلك الى النشاط العقلي، وهو الانتماء الاعلى لسمو الحياة.وان ذلك لا يتم ـ حسب المفاهيم الانكلوسكسونية ـ الا بواسطة التربية الاولى ثم من خلال آليات التربية العليا Education and high Education.
وبذلك، فان هكذا مثقف يختلف في رؤيته وتفكيره عن ثقافة المجتمع والمحيط التي تدعى عادة بـ Culture الانكليزية أو الفرنسية. والمصطلح كان قد انطلق أصلا في معناه الحقيقي من " فلاحة الارض "، ثم تبلور عن مجموع العمليات التي تمكن أساليبه المنظمة من استنبات ما ينفع الانسان والحيوانات الاليفة التي تحيطه.. ثم تطور معناها المجازي كي يعطي دلالات جديدة عن " تنمية بعض الملكات العقلية بواسطة تدريبات وممارسات وتمرينات " للانسان في بيئة معينة او مجموعة بيئات متنوعة، حتى وصلت الدلالات لمضامين من نوع واسع في تعريفاتها التي منها: " مجموع المعارف المكتسبة التي يتمكن الانسان بواسطتها من تنمية ملكاته في النقد والذوق والابداع واقرار الاحكام في الحياة "، أو هي بمعنى أوسع وكبيرآخر: " اسلوب حياة للانسان في بيئة معينة وظروف ملائمة ولغة (او: اكثر)..
وعليه، فان المثقف (أي مثقف بهذا المعنى او ذاك)، سيكون هو ذاك الذي اكتسب بالتربية والتعليم اولا وبالتدريب وفهم الحياة ابان مرحلة تكوينه التي لا تقل عن الثلاثين سنة بعد ولادته، جملة من المعارف والاساليب التي تنمي قدراته وملكاته، وعاداته وتقاليده ولغته في دواخل أي مجتمع يعيش فيه، ويتميز المثقف هنا باسلوب حياته ونمط عيشه وتفكيره.. وعليه ايضا، فان هذا المعنى لا يتطابق بالضرورة مع مفهوم المثقف الذي كان قد تجاوز صيغ اسلوب الحياة Culture للوصول الى حالة Intellectual كمفهوم أوضحنا سماته قبل قليل، والذي يتسع ليشمل انساق النخبوية في المجتمع المدني لا الديني او الايديولوجي، أي يشمل اولئك الذين يمتهنون العمل الفكري والابداعي والنقدي والسياسي والاكاديمي والتخصصي وحتى المهني.
(2) " البنية الثقافية ": المعنى والخصوصية
أما لماذا " البنية "؟ فالبنية (بكسر الباء) والبنية (بضم الباء) سّيان لما بنيته، والبنية: الهيئة التي بني عليها. وبنى فلان بيتا بناء وابتنى دارا. انشد الفارسي عن ابي الحسن: "اولئك قوم، ان بنوا أحسنوا البنى وان عاهدوا اوفوا، وان عقدوا شّدوا" (لسان العرب، 14/ 94).
اولا: البنيان المرصوص:
انها بنية متراصة لا يمكن ان اجدها في ثقافة (او: تاريخ ثقافة) اخرى الا بصعوبة.. في حين تتوفر كاملة غير منقوصة في الثقافة العراقية.. فهي بنية متراصة من انساق متنوعة ومتعددة لا حدود لها. والنسق لا يقتصر على شكل معين، بل على مضمون واحد او عدة مضامين - كما تقول افكار ميشيل فوكو -.. وهذا ما لم نجده في ثقافات اخرى. هذه الانساق لم تجد نفسها بين يوم وليلة، بل لها امتداداتها في اعماق الزمن البعيد، لكي نجد بقاياها وبعض رواسبها حاضرة اليوم.. وتجسدها عادات وتقاليد لمكّونات اجتماعية ربما تتعايش معا في الظاهر، ولكنها تتباين على اشد ما يكون التباين في الباطن.
ثانيا: الخصوصيات سر الجماليات:
لقد سمعت من بعض الاصدقاء نقدهم لعنوان هذه " المحاضرة " اذ انهم يعدون ثقافتنا العراقية جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية الواسعة، فلماذا كل هذه " الخصوصية " والتأكيد عليها؟ ويتساءلون: الا يعد ذلك خروجا عن سياق التكوين الثقافي في العراق ويؤسس لشعوبية جديدة؟ وانني اجيبهم - سامحهم الله - لاختزال الوقت بأن عليهم ان يتعرّفوا على معاني الخصوصية والشعوبية ويتأملوا طويلا في الوان الثقافة العراقية التي تعتبر تواريخها وجغرافياتها مستقرا للثقافة العربية كلها منذ ازمان وازمان، ولكن ثمة خصوصيات تتمتلكها الثقافة العراقية مع اعتزازنا بالعروبة وبثقافتنا العربية، ولكن لو قورن العراق بغيره لوجدنا ان ثمة ثقافات عديدة تنتشر في العراق منها ما يعود الى الاف السنين لاقوام لم تزل تزاول ثقافتها في الكنائس والاديرة التي يعود تاريخها الى القرن الاول لميلاد السيد المسيح.. وهناك ثقافة نهرية لدجلة للصابئة المندائيين التي لم تزل حية ترزق حتى يومنا هذا من دون الاخرين.. وهناك لغة وثقافة كردية عراقية لها تميزها ليس على مستوى تقاليد الناس حسب، بل ثمة مجمع علمي للاكراد ومثله للسريان الاراميين في العاصمة بغداد.. وثمة ثقافة تركمانية لها خصوصيتها وعراقتها وخصبها.. ثمة تقاليد ثقافية عراقية يتميز بها اليهود العراقيون ومازالوا يتشبثون بها حتى وهم في اسرائيل.. ثمة ثقافات مغلقة لدى بعض العراقيين لكل من اليزيدية في الشمال والمعدان في الجنوب.. ثمة تباينات واسعة في ثقافة العراقيين العرب من منطقة الى اخرى ومن مدينة الى اخرى.. الخ كل هذا وذاك لا نجده في اي مجتمع عربي مهما بلغت به التنوعات ولنأخذ لبنان مثلا في المشرق او الجزائر في المغرب.. لا نجد فيهما ما نجده في العراق، فليفقه كل العراقيين ما نقول فمن الضرورة ان تعترف الثقافة العربية نفسها بأن الثقافة العراقية هي المصدر الاول لمواريثها قاطبة منذ الاف السنين.. وينبغي على العراقيين ان يدركوا ان تنوعات ثقافتهم هي سر جماليات تلك الثقافة.
ثالثا: انعدام الانسجامات وتلازم الانساق
وعليه، فان بنية الثقافة العراقية تختزن في داخلها تنوعات فاعلة تعمل على الارض وهي متعايشة برغم انعدام تجانساتها.. ان الانساق الثقافية العراقية غير متجانسة ابدا، ولكنها مترابطة مع بعضها البعض ترابطا عضويا ولا يمكنها ان تنفصم ابدا، فالنسق - اي نسق - لا يمكنه ان يحيا لوحده من دون ترابطه بالنسق الاخر. دعونا نتوقف قليلا عند الانساق المتباعدة اذ اجد ثمة افتراقات واسعة داخل بنية المجتمع العراقي كانت سببا في نتاج تناقضاته التي لا تنضب ابدا، وهي بحاجة الى سياسات مجّردة من كل ميول او اتجاهات.. من كل ما يتعلّق بتعاطف قبلي او بيئي او جهوي..
لنعترف ان ليس هناك اية انسجامات ثقافية بين ثقافات المدن والريف والبادية (واذا كان الراحل الكبير علي الوردي قد اعتمد في نظريته العراقية على ثنائية البداوة والحضر متأثرا بابن خلدون قبل اكثر من ستة قرون، فأنني اعتمدت في الابعاد الثلاثية في نظريتي العراقية: المدينة والريف والبادية.. وقد وافقني الراحل الوردي قبل رحيله على ما كتبت). من طرف آخر، ينبغي ان نعترف ان ليس هناك انسجامات بين ثقافة عرب الشمال عن عرب الجنوب وبين ثقافة ابناء الجزيرة الفراتية عن ابناء الفرات الاعلى عن ابناء الفرات الاوسط عن ابناء الجنوب.. بل لنعترف -ان اسرار قوة الثقافة العراقية في الوانها ومصادرها وطبيعة تكويناتها ومنتجاتها لاجزاء جغرافية طولية ثقافة شرق دجلة اللواحقية التعددية وثقافة ما بين النهرين الاساسية والمختلطة وثقافة غرب الفرات البدوية.
رابعا: انسجام الاساليب
لنعترف بأن ليس هناك انسجامات ثقافية في اسلوب حياة العراقيين بين ثقافة المسيحيين العراقيين الارامية الكلدانية ام السريانية ام اليعقوبية ام الاثورية.. وثمة ثنائية ثقافية للاكراد السورانيين والاكراد البهدينانيين.. عن ثقافة الكرد الفويليين المتنوعة.. ثمة ازدواجية بين ثقافة التركمان المدينية والقروية.. وهناك ثقافة الصابئة العراقيين النهرية عن ثقافة اليهود العراقيين القديمة عن ثقافة اليزيديين المغلقة عن ثقافة الشبك المتشابكة بين الثقافات المحلية عن خصوصية ثقافة الارمن الاقلية العراقية.
لنعترف بالوان الثقافات المحلية والجهوية والهامشية.. ثقافة البغداديين الملونة بشتى الالوان وثقافة البصرة الجنوبية التي تمثّل رأس الخليج وثقافة الموصليين بخصوصيتها الجامعة للاطياف وثقافة محليات الكركوكيين والنجفيين والكربلائيين واهل الحلة واهل الناصرية واهل الكوت وديالى والدليم.. ثقافة اهل الجبل وثقافة اهل الهور (= المعدان) وثقافة العشائر وثقافة القبائل وثقافة القرويين وثقافة البادية وثقافة مدن الفرات الاعلى وثقافة قرى دجلة الاوسط.. الخ
خامسا: تصنيف آخر من الثقافة
هناك تصنيف آخر من الثقافة حيث تنتشر الوان لا حصر لها من ثقافات الطبقات والمهن والاعمال الحرفية والوظائف الرسمية المدنية والعسكرية.. ثقافة باشوية قديمة وثقافة بكوية متوارثة وثقافة التجار الجلبية وثقافة الافندية وثقافة الملالي وثقافة علماء الدين وثقافة المعلمين وتلحق بها للمحامين والاطباء والمهندسين والاساتذة الجامعيين والضباط العسكريين والفنانين.. انتقالا الى ثقافة المزارعين والعمال الكادحين وثمة صراع من نوع ما بين العسكريين والمدنيين العراقيين، فكل منهما يرى نفسه افضل من الاخر، بل وان التناقض واضح جدا بين ابو خليل وابو اسماعيل.. ثمة ثقافة للفقراء والمسحوقين.. اما ان توغلنا في الثقافة الاجتماعية وتغلغلنا في عالم المرأة العراقية لوجدنا ان ثمة ثقافة نسوية عراقية متنوعة هي الاخرى وخصوصا عند الطبقتين العليا والوسطى في المجتمع ناهيكم عن ثقافة المرأة لدى الطبقات الفقيرة.
سادسا: خطايا العراقيين
كنت اتمنى لو كانت هناك سياسات عراقية حقيقية من قبل الدولة التي عاشت في القرن العشرين بنظاميها السياسيين الملكي والجمهوري لتأسيس ثقافة عراقية حقيقية تتنوع فيها كل الصنوف، ولكن تجديدها على نحو مدني معاصر تحل الانسجامات بدل الخلافات، وتتمفصل التشابهات بديلا عن التباينات.. كنت اتمنى على الحكومات العراقية المتعاقبة ان تجمع العراقيين على قيم ثقافية مدنية مشتركة تخلصّهم من كل بقايا الماضي وترسبّات التاريخ ووعثاء التمذهبات.. كنت اتمنى ان يقوم الاعلام العراقي بدور مؤثر في تأسيس تعايشات ثقافية وردم الهوة الاجتماعية بين الطبقات وتعزيز الاتجاهات الانواع.. كنت اتمنى ان تنشغل كل الحكومات والاحزاب العراقية بما هو حيوي اجتماعي بدل الانشغال بالمناصب والصراعات السياسية والثقافات الايديولوجية.
سابعا: من هو المثقف؟
ان لفظ " مثقف " والذي يتم استخدامه اليوم في لغتنا العربية المعاصرة هو لفظ مولد ـ كما هو معروف ـ، اذ لايمكن العثور عليه في الادبيات العربية القديمة، وهو اسم مفعول من الفعل " ثقف"، أي: بمعنى: حذق. فلقد جاء في " لسان العرب ": " ثقف الشيىء ثقفا وثقافا وثقوفة: حذقه. ورجل ثقف (بفتح الثاء والقاف) وثقف (بفتح الثاء وكسر القاف) وثقف (بفتح الثاء وضم القاف): حاذق فهم.." ولم نعثر أبدا على لفظ " مثقف ". أما لفظ " الثقافة "، فقد ورد كمصدر: بمعنى: الحذق. يقولون: " وثقف الرجل ثقافة: أي: صار حاذقا خفيفا "، أي: ماهرا، وبرغم وجود أصله في اللغة العربية القديمة، الا أن استخدامه كان نادرا. أي بمعنى: الحذق في أي صنعة من الصناعات المادية والفكرية (لسان العرب، 9 / 19). والمثقف عندي كلمة صعبة لا يمكن ان تطلق على من هّب ودّب حتى ولو كان هذا من حملة الشهادات العليا، فالشهادة لا تمنح صاحبها اية ثقافة. المثقف الحقيقي هو المحترف الحاذق الذي يمتلك مهارات متعددة في القول والفعل وتحمّل المسؤولية والمعلومات والارادة والتعبير عن ضمير المجتمع اصدق تعبير لا ان يكون اي ذيل لأي سلطة او نظام او دكتاتور اي انه يقع تحت سطوة اي ايديولوجية ومذهب وطائفة وقبيلة وحزب ومعتقد.. اذن الثقافة هي الحذاقة وقوة الشخصية واستقلالية الرأي وصحة المعلومة وسلامة التفكير وحداثة الفكر وتجديد المعاني وخصب العطاء وروعة الابداع.
ثامنا: حاجتنا الى الفصل بين الدلالات
وعليه، فان " الثقافة " مصطلحا ومفهوما، دلالة ومضمونا، حاضرا وتاريخا لم يكن لفظا متوازيا مع ما يستخدمه العرب اليوم في لغتهم الحالية وخطابهم المعاصر، فلا هي " الثقافة" كما عرفها العرب القدماء، ولا هي " الثقافة" التي نجدها في اللغتين الاساسيتين: الانكليزية والفرنسية اليوم. ولابد من الفصل بين الدلالات، للوقوف على المعاني الاساسية التي نريد االمقاربة منها. واذا كانت المجامع اللغوية والعلمية العربية لم تفصل حتى يومنا هذا بين هكذا مفاهيم ومصطلحات، وبقي الخطاب العربي المعاصر لا يميز بين " الحاذق " وبين " المتربي " وبين " المتكوّن " وبين " المفّكر" وبين " المهني " وبين " صاحب اسلوب حياة ".. التي يجمعها كاملة مصطلح " المثقف ".. فان الحاجة والضرورة الاساسية باتت تطالبنا نحن العرب وخصوصا عند من يكتب تاريخ الثقافة العربية الحديثة، أو الباحث المتوّغل في أي جزئية منها أن يراعي هذا الجانب الحيوي، لأنه سيفصل في تفكيره وبحثه وخطابه بين ما هو حقيقي من المفاهيم وما هو غير حقيقي من المصطلحات أو يكاد ان يكون دارسا حاذقا ان يجمع الاثنين في درس متنوع المضامين.
تاسعا: مصطلح النخبة
أما مصطلح " النخبة " (وجمعها: نخب) فهي من انتخب الشئ واختاره. والنخبة: ما اختاره منه، ونخبة القوم ونخبتهم عند اللغويين العرب: خيارهم. قال الاصمعي: يقال هم نخبة القوم، بضم النون وفتح الخاء. وقال ابو منصور وغيره: يقال نخبة، باسكان الخاء. واللغة الجيدة ما اختاره الاصمعي. ويقال: جاء في نخب اصحابه اي في خيارهم. ونخبته، أنخبه اذا نزعته. والانتخاب: الاختيار والانتقاء، ومنه النخّبة، وهم الجماعة تختار من الرجال، فتنتزع منهم. وفي حديث علي بن ابي طالب، وقيل لعمر بن الخطاب: وخرجنا في النخّبة، والنخبة، بالضم: المنتخبون من الناس، المنتقون. وفي حديث ابن الاكوع: انتخب من القوم مائة رجل، ونخبة المتاع: المختار ينتزع منه (لسان العرب 1/ 751-752).
(3) جذور ورموز وبقايا
اولا: الارض الكلاسيكية: الجذور الاولى للعالم
العراق هو الارض الكلاسيكية كما وصفتها في دراستي لرحلة جوستن بيركنس، أو الارض الطيبة كما وصفتها في دراسة اخرى.والعراق في جغرافيته المركزية من العالم كله، هو انتاج لعبقرية المكان الذي سماه الاغريق ببلاد وادي الرافدين.. انه ميزوبوتيميا العريقة جدا بين النهرين العظيمين الأزليين: دجلة والفرات حيث بدأ الإنسان في وجوده وتفكيره واستقراره وتنظيمه.. فلا غرابة ان تكون هذه النقطة او الفجوة المركزية في جيو تاريخية العالم كله بؤرة للتوتر والصراع والحروب، نظرا لكونها بؤرة للتجمع والالتقاء البشري من كل اصناف البشر. وعليه، فان ميزوبوتيميا العراق كانت على امتداد الاحقاب التاريخية مركزية جاذبة وطاردة لمختلف العناصر البشرية والثقافات والمعاني والاشياء.
هذا هو الرد الحقيقي على الذين يتهمون أهل العراق حتى اليوم ومن ابناء عروبتنا بالكفر والنفاق وسيىء الاخلاق باطلا، وحاشا أن يكون اهل العراق كذلك الا الاعتراف الشجاع بتبدلاتهم بين زمن واخر وتلوناتهم من عهد لاخر وبروزهم ايام مجدهم وتطورهم باصحاب الثقافة الراقية ووصفهم ايام تشتتهم وضعفهم باصحاب الثقافة المتوحشة.. وهذا ما ينبغي الاعتراف به علنا. وهو رد على الذين يتهمون مناخه القاري بشتى النعوت والصفات، فاذا كان مناخ العراق قد أثر في الامزجة والعواطف والمواقف والالوان، الا أنه منح أصحابه القوة والجلد وخصب التفكير والانشداد والانفة والكبرياء.. وهو رد حقيقي على من يقول بأن اللعنة الازلية لاحقت وسوف تلاحق العراقيين.. لا أبدا! فهم ليسوا من عجينة واحدة، وهم ليسوا من بيئة جرداء، وهم ليسوا من ارض خاملة، وهم ليسوا بلا ثقافات او بلا تواريخ وحضارات، وهم ليسوا بلا تواصل او بلا علاقات او بلا مسالك او بلا ارتباطات!!
ثانيا: النخلة: رمز العراق
بلاد ما بين النهرين تشتمل على بيئتين مترابطتين: أرض السواد امتدادا نحو اعالي بلاد الجزيرة الفراتية وجبال كردستان وحتى أعماق البحر جنوبا داكنة الاخضرار، ويكفي أن ملايين اشجار النخيل قد عرفت منذ عهود السومريين، وكانت النخلة ولم تزل عنوان العراق ورمزه في الوجود (وكم تمنيت وطالبت مرارا ان تكون النخلة رمزا في علم العراق كما هو حال ارزة لبنان) والنخلة: هي الشجرة الوحيدة التي بحاجة الى ان تمد جذورها في الاعماق، ولكن ليس في أي تربة، انها بحاجة الى التربة القوية المتماسكة.. والنخلة في العراق لا تحتاج الى أن تسقى بالماء.. لأن العراق يطفو على الماء، فمنذ ملايين السنين والماء يجري في الفراتين والزابين وعشرات الانهر والشطوط والبحيرات والاهوار.. والنخلة العراقية هي الام الرؤوم بشكلها الباسق الفارع في الاعالي حيث تنثر شعرها بجمالية لا تضاهى. ولقد تنوعت الطبيعة العراقية ورسمت لوحاتها على نحو متنوع وغاية في الجمالية والتصوير الخلاق: جبال وسهول وسهوب وهضاب وشواطىء وصحراوات وواحات.. وكانت الشمس العراقية متميزة هي الاخرى بحيث كانت اله عبادة وتقديس عند العراقيين القدماء، كما وعدّ شهر تموز شهرا عراقيا له خصوصيته تنجذب اليه احداث الحياة والتاريخ المريرة منذ العصور الغابرة.
ثالثا: البلاد المركزية للثقافة البشرية:
في اجتماعات اللجنة العليا الخاصة بتحرير موسوعة تاريخ الثقافة البشرية عن اليونسكو قبل 15 سنة، وكنت مشاركا فيها سجلنا والعديد من المؤرخين الدوليين بأن العراق هو الارض الكلاسيكية العريقة التي عرفت نفسها لاول مرة في العالم كونها (بلاد) في التاريخ.. فهي بلاد عرفت استقرار الانسان لأول مرة في وجوده عند ضفاف الانهار المركزية للعالم. وانها بلاد اكتشفت فيها الزراعة، ونشأت فيها أول تجارب لتجمعات اجتماعية.. وهي بلاد اكتشفت القرية فيها والتي تطورت اولى التجمعات الانسانية.. وبلاد اكتشفت فيها أول مدينة ممثلة بأور، وأول دولة في التاريخ ممثلة بالسومريين الذين عرفوا العجلة والري.. وبلاد اكتشفت فيها الكتابة لأول مرة، ومنها الكتابات المسمارية القديمة التي سجلوا بها تاريخهم الاول واساطيرهم واشعارهم وافكارهم.. وبلاد اكتشف فيها القانون لأول مرة ممثلة بقانون حمورابي ومسلته الشهيرة، وبلاد عرفت الثقافة والابداع في النصوص والخطوط والرسوم والطهي والتنظيم والتسلح وفن العلاقات.. وبلاد عرفت فيها الموسيقى لاول مرة في التاريخ، فالسومريون اول من اكتشف آلة العود بوترين، وبلاد عرفت المكتبات في الوجود فيها مكتبة آشوربانيبال بنينوى العاصمة الكبرى للاشوريين، وبلاد اكتشف فيها الجيش وتنظيماته الحربية لأول مرة في التاريخ، وبلاد الجنائن المعلقة احدى عجائب الدنيا السبع في بابل، وبلاد عرفت منذ القدم بالملاحم والمدونات والاساطير، وبلاد فيها أول قصة للطوفان التي ترويها ملحمة كلكامش الاسطورية. وهي بلاد امتدت منها اغلب الاساطير والاديان، اذ أنبثق فيها أبو الانبياء ابراهيم والعديد من الانبياء، وبلاد غدت قاعدة مركزية أساسية لانطلاق الاسلام نحو العالم في الشرق الفسيح، وبلاد برز فيها أعتى شعراء العربية، وبلاد برز فيها أبرز أئمة المذاهب الاسلامية، وبلاد نبت فيها أعظم علماء الكلام والفلسفة والترجمة والمنطق، وبلاد ظهرت فيها أعظم مدارس النحو العربي واللغة العربية، وبلاد انجبت أعظم العمالقة من الشعراء العرب، وبلاد استقطبت كبار المؤرخين والجغرافيين والمفسرين والفقهاء والاطباء والرحالة والكتاب والفلكيين والكيميائيين واللغويين والموسيقيين.. وبلاد تكاثر فيها عدد الزهاد والمتصوفة في العديد من طرائقهم واساليبهم ومنتجاتهم. ولكنها بلاد تعاني اليوم من اقسى حالات الجهالة والقسوة والتخّلف كونها ارتدت بسرعة مخيفة نحو الاسفل بكل امراضها واوجاعها واحزانها ومآسيها.
رابعا: بلاد التحديات القاسية
انها البلاد المركزية للثقافة البشرية الاولى منذ جذور التاريخ، وانها البلاد المركزية للثقافة العربية والاسلامية على امتداد العصور الوسطى، وانها البلاد المركزية لكل الخصب والنماء والشمس والماء ولكل الطاقة في الظاهر والباطن.. وقد انتجت وازهرت على امتداد القرون جملة من الوان الثقافات نظرا لمن تعايش فيها من اصناف الطوائف والمذاهب والديانات والعناصر والقوميات في بنية جغرافية واحدة.. ولكنها بلاد حلت بها اقسى التحديات، ومرت باعتى الكوارث والنكبات والفيضانات والمجاعات والطواعين، وتعرضت لاشرس عوامل القهر والحملات والحروب والحصارات، وعانى الانسان في العراق أقسى أنواع المعاناة وحمل بقاياها في ثقافته واساليب حياته وتصرفاته وترديد حكمه وأمثاله واستمرار طقوسه وعاداته وتقاليده اليوم.. وما زال يحمل على كاهله ثقل التاريخ وسطوة الجغرافية ولعب السياسات وآثار الحروب الصعبة ودمارات السايكلوجية المزدوجة وكل اغترابات الماضي. ولقد توزعت كل هذه وتلك على الوان تكويناته الاجتماعية واطيافه السكانية.. فهي بنية لثقافة معقّدة جدا وعلى اشد ما يكون التعقيد، وهي بحاجة ماسة الى من يتوغل في انساقها لمعرفة مواطن الخلل المستحكمة. وكنت أتأمّل ان يقف الدارسون العراقيون من الاكاديميين والعلماء السوسيولوجيين وقفات علمية حقيقية على غرار تجربة الاستاذ الوردي، ولكنهم انشغلوا بالتنظيرات السياسية والمؤثرات الايديولوجية هربا من توضيح ادران الثقافة العراقية المعاصرة بشتى معطياتها في المجتمع، والاستفادة من المنتجات الثقافية العراقية التي تعّبر عن حياة المجتمع وتلمّس ما ينفع ويضر!
خامسا: الثقافة العراقية المتوحشة
انه بقدر ما نخّلد الصفحات الناصعة في تاريخ ثقافتنا العراقية، فاننا لابد ان نفصح عن بقايا ثقافة متوحشة يختزنها العراق ممثّلة في اساليب وتصرفات وافعال واقلام وقرارات وافكار عراقيين متنوعين يمّثلون هذا الجانب من الفكر المتوّحش.. وبقدر ما أؤمن بتأثير البداوة التي رسّخها الاستاذ الوردي، بقدر ما اقول بأن بقايا التاريخ تفعل فعلها اولا، ثم تأثير العناصر الوافدة من اعماق الشرق ثانيا.. وقساوة التحديات واوضار الحياة عند بعض العراقيين تجعل منهم بشرا يحمل ثقافة متوحشة. ان هجرة وهرب وتعذيب ومصرع العشرات بل المئات من المثقفين العراقيين المعاصرين تجد في التاريخ امثلة ساطعة على هرب الامام الشافعي من بغداد الى القاهرة واعدام المتصوف الحلاج في بغداد وكان للامام ابن حنبل محنته وللامام ابي حنيفة النعمان سجنه.. ولا يمكن ان نتخّيل كيف وضع ابن المقفع على مسامير في تنور مسجور! وكيف قتل الشاعر المتنبي في الصحراء غيلة!
انني استنكر من هنا ثقافة التوحش التي تسود العراق اليوم بعد سلسلة من الاحداث البشعة والازمنة المرعبة التي مرّت بالعراقيين على مدى نصف قرن من الزمن.. اليوم هو نتاج الامس، فكم سقط من المثقفين العراقيين؟ وكم قتل من الاكاديميين العراقيين؟ وكم تشّرد مهاجرا او نازحا او هاربا من المبدعين والمختصين العراقيين؟ انني اشّدد على اهمية دور الثقافة والمثقفين الحقيقيين في استعادة روح المدنية والتحضّر للعراق والعراقيين. انني انادي بضرورة السعي من اجل احلال ثقافة انسانية متسامحة بديلا لثقافة العنف والتوّحش التي تبلورت بشكل لا يليق بالعراق والعراقيين. ان ما حدث بعد سقوط الدكتاتورية يختلف كثيرا عن حلمي الذي عشت من اجله بالعراق والعراقيين! علينا ان لا نكتفي بما هو معروف في المدن الاساسية، بل علينا ان نتعرف عن ثقافة العراقيين في افقها الواسع وهي الكيفيات التي يعيش عليها كل العراقيين سواء في شرق دجلة ام في ما بين النهرين ام في غرب الفرات.. وكيف نرفع مستوى الشعب الى ان يكون في مستوى راق كما كان يتحّلى بقيمه وتقاليده.. على العراقيين ان ينفتحوا على العالم وان يعودوا الى حياتهم الطبيعية من دون ان يغتالهم الخوف.. من اجل هذا كله كنت قد طرحت على الملأ مشروع فترة نقاهة للعراق والعراقيين لا تقل عن اربع سنوات قبل الانتقال الى الحكم البرلماني حتى نداوي ونعالج جراحات المجتمع ونستعيد الثقة بكل العراقيين.. ونعمل على تحقيق استحقاقات العراق لما بعد الحرب.. ولكن هذا لم يتحقق مع الاسف، فكان ان طبخت الاحداث بسرعة.. وع كل هذا وذاك، فثمة كيفيات تجعل للكفاءة مكانا في قيادة العراق باستشارة اهل التجارب والمثقفين والتكنوقراط الذين لا علاقة لهم بأي توجّه او حزب او جماعة او ملّة.. ما ضرّهم لو حدث ذلك؟ لماذا يتصارعون مع تغييب المثقفين العراقيين الحقيقيين الذين يدركون ما يحتاجه العراق من دواء؟
(4) العراق: المجتمع / الثقافة / المصادر
لقد عاش المجتمع العراقي حياة صعبة وغير متكافئة أبداً أبان العهود العثمانية، وقد تفاقمت المشاكل السياسية والإدارية في بغداد وبقية الأقاليم العراقية كثيراً، وانعكست تلك الظروف والأحوال على الأوضاع العلمية والمضامين الأدبية والثقافية، وعلى الأخص في القرن التاسع عشر الذي تبلورت خلاله عدة أسر عراقية تكاملت بنيتها المتوارثة، وتصاهرت في أنسابها وفروعها، فتفاعلت أساليبها وطرق تفكيرها وخصوصياتها الفئوية والاجتماعية على الرغم من بعض الخصومات وصراع المستويات وتباين المرجعيات.
ويبدو لنا من خلال التاريخ المقارن، أن علماء بغداد ومثقفيها وأدبائها خلال القرن الثامن عشر كانوا قلة مقارنة بما كان عليه الحال في كل من مدينة الموصل الجليلية ومدينة النجف الاشرف (وكم وجدت من مبادلات ومساجلات ادبية وثقافية وشعرية بين الموصل والنجف مذ بدأت بالشاعر عبد الباقي الفاروقي ومّرت بالشاعر حسن عبد الباقي الموصلي وانتهت بالموسيقار الملا عثمان الموصلي)، الا أن بغداد ستبدأ حياتها الادبية والنهضوية منذ عهد الوالي داود باشا في بدايات القرن التاسع عشر، فيزداد عدد علمائها ومؤلفيها ومدرّسيها وأدبائها بشكل ملفت للنظر. وستختص بعض الاسر البغدادية العريقة بذلك ناهيكم عن تبلور عامل آخر شكّل رافدا من روافدها، الا وهو: هجرة عدد كبير من العلماء الشعراء والمدرسين والمتصوفة إليها، وتوضح لنا المعلومات وبعض المخطوطات أنهم جاءوا من الموصل وبلاد الشام ونجد وبلاد إيران ومن الهند وقفقاسيا والأناضول.. فبرز على أيدي البعض منهم عدة رجالات وشخصيات بغدادية وعراقية مرموقة، كانت هويتهم عراقية صرفة، وكان انتماؤهم لوطنهم العراق كبيرا جدا، اذ عملوا على رقي مجتمعه وازدهار ثقافته من جميع النواحي. ويتطور فضاء الحوزة في النجف بتخريجها العديد من العلماء والادباء.. ويكثر الشعراء في العراق ابان القرن التاسع عشر كثيرا.
إن التنظيمات الإصلاحية والإجراءات الجديدة مع أفكار نهضوية تبناها البعض من الولاة كداود باشا ومدحت باشا، لم تؤثر في سياقات الحياة الثقافية العراقية، فقد بقيت الأساليب الإنشائية القديمة على حالها والتقليد الدراسية على منوالها حتى مع تأسيس المدارس الرشدية العثمانية، واستمرت المضامين الفكرية والشكليات الأدبية على وتيرتها دون أي تغيير أو إصلاح يذكر على مستوى الذاكرة والخطاب!! صحيح جداً أن فجر الثقافة العراقية قد انبثق على عهد داود باشا 1817-1831م، إلا أن نورها سيتأخر بزوغه طويلاً حتى الحرب العالمية الأولى وبدايات القرن العشرين، ومع اطلالة النهضة العراقية المعاصرة عند تشكيل الدولة ومؤسساتها بعد عام 1921.
لقد استفدت كثيراً من مصادر ومراجع تاريخية وأدبية وبايوغرافية عدة، وقد أفادتني بعض المخطوطات والمجاميع والدواوين الشعرية والأوراق الأسرية القديمة لعدد من عوائل بغدادية وموصلية وبصرية ونجفية وكربلائية وكركوكلية وكردية معروفة فضلاً عن بعض الدراسات والرسائل العلمية وبعض الكتب والمقالات، إن الحاجة ضرورية لمعرفة ما يكمن في بعض المكتبات العراقية المرموقة وما خلفته أجيال القرن التاسع عشر من المثقفين العراقيين الذين ما زالت بحوثنا ودراساتنا عنهم قليلة جداً وليس لنا منها الا النزر اليسير. وكم سيكون الامر مريحا لو تقصّى بعض الدارسين والباحثين المحدثين ادوار رجالات من المثقفين العراقيين النهضويين في اماكن عديدة من العالم الاسلامي كالدولة العثمانية وايران القاجارية وهجرة بعضهم الى مصر الخديوية، وحتى في اوروبا وهم كثر لم ينفض البحث التاريخي عنهم اردية النسيان والاهمال تحت حجج واهية وخصوصا ابان القرن التاسع عشر، فلابد لأي عراقي أن يتساءل عن الادوار التاريخية التي جسدها مثلا رجال مثل: مصطفى ذهني باشا بابان وسليمان نظيف بك ومحمود شوكت باشا ومصطفى باشا ياملكي وسامي باشا الفاروقي وعزت بك خندان وسعيد باشا خندان ومعروف الرصافي واحمد عزت الاعظمي وعلي افندي الجميل ومحمد حبيب العبيدي وفاروق الدملوجي وغيرهم كثير في العاصمة العثمانية استانبول.. او ادوار كل من الفريق اسماعيل حقي باشا ومحمد امين الكردي ومحمد الكاشف ابو كل من عائشة التيمورية واحمد تيمور باشا وهناك الموسيقار الملا عثمان الموصلي والفنان نجيب الريحاني والشاعر عبد المحسن الكاظمي وغيرهم في مصر، فضلا عن ادوار مثقفين عراقيين ومبدعين نهضويين كان لهم شأنهم في بلاد الشام.. اضافة الى ادوار علماء ومثقفين عراقيين متميزين وصلوا الى اوروبا وبلغوا فيها شأوا كبيرا في القرن التاسع عشر، ومنهم: رسول مستي افندي واقليمس يوسف داود وحنا رسام وهرمزد رسام وغيرهم، ان اسماء هؤلاء العراقيين تعيدني الى ذكر اسماء أخرى لمثقفين عراقيين كبار اشتهروا في القرن السادس عشر، امثال الشعراء فضولي البغدادي وفضلي وشمسي وعهدي وغيرهم كثير.. او في القرن السابع عشر عندما نذكر الياس بن حنا الموصلي الذي يعتبر اول مستكشف اسيوي يصل الى امريكا اللاتينية ويضع سفرا خالدا عن استكشافه ذاك، وايضا بالمستشرق يوسف عتيشه الذي غادر العراق ودرس في المانيا واصبح من كبار علمائها وغيرهما. ويعتبر القرن الثامن عشر من اثقل المراحل التاريخية في حياة العراق الثقافية لما حدث وظهر فيه من آثار وحركات وكتابات وتواريخ وعلاقات.. الخ
إن مصادر تاريخ بغداد خلال القرن التاسع عشر، تفصح كثيراً عن جملة من الأشكال والمعلومات والنصوص والروايات والأخبار والأشعار، التي يحتاج لمعرفتها حاضرنا في نهايات هذا القرن، فلقد كانت منتجات القرن التاسع عشر الأدبية والكتابية العراقية تعكس إلى حد كبير حالة المجتمع، وهي أكبر بكثير مما أنتجه العراقيون في القرن الثامن عشرzwj;! ولا بد من القول، أنه لا يمكننا البتة معرفة مفاصل الثقافة العراقية المعاصرة اليوم وكشف دواخل المجتمع العراقي الحديث من دون الاضطلاع بأدبيات العراق ومصادره التي أنتجها رجالاته ومثقفوه الاوائل في القرن التاسع عشر.
(5) المجايلة التاريخية لانتلجينسيا العراق:
الاستنتاجات: الخصوصية والمواصفات
ثمة تساؤلات لا بد من إثارتها: لماذا بالضبط دور المثقفين في بناء العراق المعاصر، فضلاً عن مكانتهم الأساسية في طبيعة سيرورته التاريخية لكل من الدولة والمجتمع؟ ولماذا نطرح هذا الموضوع في هذه الأيام بشكل خاص؟ ولماذا لم نسمع أو لا نكاد نسمع عن مثل هذا الموضوع في بلاد أخرى عربية كانت أم أجنبية؟ هل لكون المثقفين في تلك البلدان لم يطرحوا أية مشكلة أم أنهم لم يقوموا بأي عمل تاريخي محدد؟ أم لأن مشاكلهم وقضاياهم وأدوارهم ليس بالقدر الذي يهم تلك البلدان مقارنة بما هو عليه الحال في تاريخ العراق المعاصر؟ وهل ثمة خصوصية متميزة في حياة الثقافة العراقية والمثقفين العراقيين على امتداد اجيالهم منذ بدأ تكويناتهم الاولى وبلورة تشكيلاتهم وتصانيفهم وطبيعة علاقاتهم وخصب منتجاتهم على امتداد القرن العشرين؟
نجيب على هذه التساؤلات قائلين: نعم، ثمة خصوصية عراقية في هذا المجال تمتاز بها الأجيال العراقية منذ مطلع القرن العشرين وعلى امتداد عقوده، توضحها وتحللها وتبحث في خضمها فصول هذا الكتاب، والواقع أن إثارة مثل هذا الموضوع، يعني في الأساس: طرح مسألة أزمة المثقفين العراقيين ومكانتهم ودورهم التاريخ العربي المعاصر، وهي حالة استثنائية لها مقوماتها وعناصرها وآفاقها ومضامينها، وقد كان العراق ولم يزل يمتلك خصوصيته المتفردة في القرن العشرين وعلى امتداد مراحل اربعة أجيال من المثقفين تميزت بتواصلها وحيويتها، وكانت لها منتجاتها الاجتماعية، ومواقفها الفكرية، ونضالاتها السياسية، وأدوارها القومية والوطنية، ومعطياتها الثقافية، وإبداعاتها الفنية، وتجلياتها الأدبية، واهتماماتها الرياضية، وحركتها الكشفية، وتدريباتها العسكرية(= الفتوة)، ناهيكم عن تعدديتها السياسية وتنوعاتها وخلافاتها وانقساماتها التي أنتجت نفسها يوماً بعد آخر بما أتاحته مؤثراتها الصعبة في نصفين اثنين من القرن العشرين.
وقد كان لنخبة العراق من المثقفين المتنوعين الدور الفعال ليس على المستوى الوطني حسب، بل اندفعت تتجلى على أرض الشتات لا أرض العروبة حسب متميزة بتفوقها ورصانتها في ميادين عدة. وكان للمرأة العراقية دوراً مؤثراً في البناء والمعاصرة، وعلى نحو ريادي أو نخبوي أو فئوي أو جماهيري.
ولا بد لي أن أقول محللاً - في هذه التقدمة -حجم الفوارق الكمية والنوعية من خلال عملية المقارنة التاريخية بين ما كان عليه مثقفو العراق على امتداد النصف الأول من القرن العشرين وبين الذي آلت إليه ثقافتهم ومكانتهم الاجتماعية والسياسية في النصف الثاني من القرن الثاني، وبين عهود وانظمة سياسية متعددة على الرغم من ضعف الإمكانيات والقدرات و الموارد ووسائل الاتصالات والخبرات عند الاجيال القديمة مقارنة بما حظيت به الأجيال الجديدة ويعزى السبب الأساسي في ذلك إلى حجم الفجوة الواسعة في تكويناتهم التربوية، ومعارفهم التعليمية، ناهيكم عن طبيعة الاهتمامات والمشاكل والتطلعات التي فصلت بين أجيال المثقفين العراقية، وتعد سنة 1958م، فاصلاً تاريخياً بين الأجيال القديمة والاجيال الحديثة تبرزها ليس الشكليات والرموز والشعارات والافكار حسب بل نسجتها المضامين والمبادىء والرؤى والقناعات وحتى الثوابت .
ملاحظة خاصة:
ابلغني احد الاصدقاء بأن الاخ الدكتور مسارع الراوي الذي حضر محاضرتي مشكورا رفقة شخصيات عراقية قد انتقدني سّرا انتقادا مريرا في غير محلّه. اذ لم يقبل انتقاداتي في بداية محاضرتي انقلاب يوم 8 شباط 1963 كحدث دموي في حين يصفه الاخ مسارع بـ"عروس الثورات". وكنت اتمنى على الاخ مسارع ان ينتقدني وجها لوجه في الحوار الذي جرى بعد القائي المحاضرة، لأعلمه بأنني لست لا مع الانقلابيين ولا مع الشيوعيين، ولكنني ادرك كمؤرخ محايد ان العراق قد فقد في يومين اثنين 8 - 9 شباط 1963 قرابة 2500 ضحية من العراقيين.. وان دموية الحدث لا يمكن ان ينكرها احد، فماذا تريدون ان اقول؟
يتبع