أدب القضاة (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حفل تأريخ الادب العربي بعدد باذخ من القضاة الذين اغنوا المكتبة الثقافية بوسيع علمهم وأدبهم وفقههم منذ ان احتلوا مواقعهم الرفيعة في مجالس القضاء على امتداد الرقعة الجغرافية الممتدة من الشمال الافريقي حتى آخر مرفأ في اليمن السعيدة؛ بل ان موسوعة تجلياتهم قد غطت مساحات واسعة من العالم الذي سافروا او هاجروا اليه ليحكوموا بين الناس بالعدل. والتأريخ جد ممهد لاغداق اخبار اولئك الافذاذ الذين لم يألوا جهدا في نشر الوعي الثقافي بين الناس عبر العصور.
وبالعودة الى تأريخنا المعاصر نجد ان هناك امتدادا متواصلا يشد بلحمته تلك الاجيال السابقة بالاجيال اللاحقة من ابناء العراق. فلو رجعت الى (ملفات) القضاة التي تحفل بها وزارة العدل لحصلت على سير معمقة ناصعة الجذور بالكفاءة القانونية المطعمة بالمواهب الادبية. وان نقابة المحامين العراقيين العريقة تحتفظ هي الاخرى بكنز وفير من (آرشيف) القضاة الذين عملوا في ساحتها كمحامين بعد ابتعادهم عن منصة القضاء لسبب او آخر. ولقد كشفت مجلة "القضاء" (التي دأبت النقابة على اصدارها منذ الثلاثينات من القرن الماضي)؛ عن جمهرة كبيرة من تلك المواهب الاخاذة في مختلف االاصناف الادبية كالقصة والشعر والنقد والصور القلمية... الخ. وفي هذه الدراسة ساحاول ان القي الضوء على بعض النماذج الفريدة التي أمدت الحياة الادبية بالعاطر من نسائم أريجها الابداعي؛ والساحر من نتاجها المؤصل؛ دونما تقيد بفترات الاسبقية الزمنية او الشهرة؛ محاولا ان تكون هذه اللمحات التعريفية في غاية التكثيف والاختصار وراجيا ان تكون حافزا للآخرين لاستكمالها بما تجود به اقلامهم من معلومات عن قضاة آخرين لم يسعف الحظ تغطية اعمالهم الشعرية والادبية في هذا العرض التعريفي الموجز : ــ
احمد حامد الصراف: ـ في الحلة فتح عينيه؛وفي كربلاء تعلم وتهذب؛ وكانت امه العلوية ذات السمعة العطرة في المباديءالقرآنية والادب؛ مدرسته الاولى في اللغة العربية وتذوق الشعر والادب والترتيل الديني و قرآءات المنبر..مما سهل عليه اغتراف المعرفة الواسعة من منابعها الاصيلة بكل الوانها المحببة اليه؛ حتى غدا واحدا من اثقف الشخصيات واكثرها قدرة على تواصل الوان الحديث والحوار والنقاش والابداع في النتاج الفكري في القرن الماضي.
الصراف موسوعة متنقلة تجمع التراث و اللغات والشعر والفلسفة والتاريخ؛ واناقتة في المظهر الباذخ لا تعادلها؛ الا اناقته في الحديث؛ وسحره في انتقاء الكلمة الجذابة الذائبة في سكر التنقل؛ لهذا قال عنه اكثر من اديب لبناني وسوري (اذا زرت العراق ولم تتعرف على الصراف فكأنك ما زرته) وفيه يقول الاخطل الصغير:
بدأ الكأس وثنى وسقى الشعر وغنى
طائر من دجلـة الخلد الى لبنان حنا
كلما انشد قلنـا عمر الخيـام معنــا
ينثر الانس على المجلس من هنا وهنـا
يا رسول الادب العالي سلام الشعر عنا
يجيد الصراف التركية والفارسية ويحسن الفرنسية والانكليزية؛ وقد نهل من هذه اللغات خزينا كبيرا من ثقافته؛ وتعتبر ترجمته النثرية لرباعيات الخيام من ارقى ما ترجم الى اللغة العربية؛ الى جانب ترجمات الصافي؛والبستاني ؛ والسباعي؛ ورامي؛ وعبد الحق فاضل؛ كما يعتبر كتابه الضخم في (الشبك) من اثرى الدراسات في هذا الموضوع العميق.
كان الصراف؛ من اقرب الشخصيات الى الشاعر الكبير الزهاوي؛ وقد اصطحبه معه الى الاحتفال الكبير في الفردوسي الذي اقيم في ايران في الثلاثينات من القرن الماضي؛ فكان خير جليس ومحدث اعجب به الادباء هناك الى حد كبير؛ وقد كان للغته الفارسية العالية الاثر الهام في ذلك. وكان لهذه العلاقة الصميمة ان تنتج كثيرا من المقالات والبحوث ووالردود والمعارك الادبية التي أدارها الصراف بكفاءة في الصحف والندوات والمجالس الادبية؛ انتصارا للزهاوي ودفاعا عنه.
انتخب الصراف في المجمع العربي في دمشق وفي مجمع(فرهنكستان) اللغوي في ايران؛ وفي العديد من الجمعيات والتجمعات الثقافية الرفيعة الاخرى.وله من المقالات والمحاضرات والندوات ما تملأ مجلدات في حقول شتى من المعرفة؛ كما ان له من التسجيلات الصوتية ما يشكل اضعاف ما نشر ولعل من اواخرها.....؛ محاضرته عن (الاحجار الكريمة) التي القاها في الجمعية البغدادية في السبعينات من القرن الماضي والتي كان لي شرف تقديمه فيها الى الجمهور.
كان الصراف قاضيا متميزا في جميع المناصب التي احتلها؛ ومن اهمها في (كربلاء؛ وبغداد والموصل وكركوك والحلة والكوت)؛ حيث عرف بسعة لافق والتي كانت تميل في كثير من الاحيان الى الاخذ بقاعدة (القانون الاصلح للمتهم) ؛ وكان للغته العربية المتينة وثقافته القانونية الواسعة الدور الهام في تماسك قراراته ورصانة سبكها. وقد انعكس ذلك على عمله في المحاماة بعدئذ فاصبح شاهد اثبات على تعدد ملكاته وقوة حجته... لعل الكثيرين من معارف الصراف يجهلون بأنه ذو صوت غنائي واسع الطبقة رخيم النبرة؛ سواء اثناء انشاده المتميز لما يحفظ من قصائد لاتحصى لقراء المنبر الحسيني اومن منتخبات الاغاني الرصينة لائمة الطرب كسيد درويش وعبدو الحمولي و عبد الوهاب و صالح عبد الحي ؛ فيا طالما شنف اسماعنا اثناء جلسات أدبية خاصة بنخبة من محفوظاته الملتزمة بضبط اللحن ودقة الاداء... لما تميز به من قرار عالي الاصداح وجواب عميق الاستقرارو يمتلك الصراف حافظة قل نظيرها ؛ فهو يحفظ من الحكم والامثال والشعر الشعبي والشعر الفصيح ونوادر التاريخ وحكايات الذكريات؛ ما يشكلخزينا متنقلا واسعا ؛ فقد عرف عنه حفظه لمقدمات عدة لبعض من الكتب التي اعجب بها؛ او تلك التي اراد بها السخرية من مؤلفيها؛. و مما اذكره بهذا الصدد؛هو انني كنت في مجلس ادبي بغدادي في الستينات من القرن الماضي؛ حينما حاول احد الادباء المرموقين ان يستشهد ببيت للشاعر الشيخ عباس علي النجفي من شعراء القرن التاسع عشر الذي يقول فيه (عديني وأمطلي وعدي؛ عديني وديني بالصبابة فهي ديني) فتلعثم وقدم وأخر في ذلك البيت فما كان من الصراف الا وانشد القصيدة بكاملها بل اضاف اليها كل ما اثير حولها من معارضات او تعليقات ؛ فنال من الحاضرين الاستعادة والتقديروالاعجاب.
يجلس الصراف على منصة القضاء فيمنح كرسيه المهابة والوقار من دون تزمت ولا تشدد بل بعلم غزير واحاطة موسوعية؛ فيمنح الماثل امامه (محاميا كان ام متهما) الثقة والاستقرار النفسي. بل لطالما داعب الخصوم فرفع عن كواهلم الاضطراب والخوف وطمأنهم على قرار قانوني عادل. لقد جاورنا هذا القاضي الكبير في كربلاء والكوت اولا؛ وفي الاعظمية ـــ راغبة خاتون ـــ اخيرا لمدة تزيد على ربع قرن من الزمن؛ فحصلنا على علاقة ثقافية وأسرية كان من محصلتها تلك الذكريات العاطرة الغزيرة التي لا توفي ذخيرتها هذه السطور المتواضعة من الوفاء.
ابراهيم الواعظ: ــ
شاعر رصين الديباجة؛ وقانوني ضليع المادة؛ وفقيه يصول ويجول في مصادر النص والتفسير والشرح؛ وخطيب لا يتلجلج و لايبهته موقف؛ كان القضاء والادب الساحة الواسعة التي صرف جل حياته فيها؛ فاذا غمض عليه نص قانوني اسعفه الادب في تفسيره وتوضيح جوانبه.انتخب نائبا عن الحلة عام 1930؛ ثم عام 1937؛ ولكن القضاء لا السياسة كان هاجسه وعالمه الذي يأنس اليه.؛ اشغل مناصب قضائية عدة منها؛ حاكم بداءة الموصل؛ ورئيس محكمة الاستئناف فيها؛ وانتدب لمدة عامين ليشغل منصب مدير الدائرة القانونية في الجامعة العربية في مصر؛ وحينما انهى مهمته هناك عادعام 1952 ليشغل رئاسة التفتيش العدلي مدة ست سنوات اعتزل بعدها الخدمة العامة.
في عام 1948 كنت طالبا في ثانوية الموصل حينما حل الامير عبد الاله الوصي على العرش في مدينة الحدباء العريقة ؛ لمناسبة افتتاح بناية المحاكم الجديدة فيها؛وحينما التأم الحفل في الصالة الكبرى؛ وقف القاضي الجليل الواعظ لا ليلقي كلمة الافتتاح كم جرت العادة بل ليلقي قصيدة رصينةعصماء؛ شرح فيها اهمية القضاء وعلو مكانته واستقلاليته حيث لاسلطان عليه الا القانون.
وللواعظ مؤلفات كثر منها: خريجو مدرسة محمد؛ و اسبوعياتي؛ والزباء (مسرحية شعرية) وعبد الرحمن بن عوف؛ وفتح مصر ؛ والعباس بن الاحنف؛ والروض الازهر؛ ومجموعة ضخمة من المقالات والتعليقات والمداخلات الادبية والشعرية والقانونية؛ تشكل مكتبة ثقافية بحد ذاتها؛ كما ان له ديوانا تناول فيه اغلب الاغراض الشعرية المعروفة و يعكف ابنه القاضي المعروف الاستاذ مصطفى الواعظ على تحقيقه وتهيأته للطبع مع مؤلفاته التي لم تنشر لحد الآن.
في الموصل؛ حينما كان رئيسا لمحاكمها؛ ترأس ندوة ادبية شعريةهي الندوة العمرية ؛ اجتمع فيها نخبة من شعراء وادباء الحدباء؛ من آل الجليلي وجلميران والصابونجي والعبيدي والجلبي وباش عالم؛ اضافة الى رجال الصحافة كمحي الدين ابي الخطاب؛ ومحمود مفتي الشافعية وابراهيم الجلبي وعبد الباسط يونس وغربي الحاج احمد... الخ وقد خلقت هذه الندوة جوا ثقافيا من الحوار الفكري والمطارحات والمعارضات الشعرية امتد اثره الى ادباء بغداد؛ والبصرة وكركوك؛ فتجمع من جراء ذلك نتاج غزير امد الصحافة الادبية بمواد ذات نفع عميم.وكانت مجلة الجزيرة الموصلية التي رأس تحريرها الشاعر المعروف ذو النون الشهاب تنشرلاعضاء الندوة وعلى رأسهم الواعظ كثيرا مما كان يطرح في تلك الندوة الثقافية الرائدة. عرف الواعظ بدماثة الخلق والتقوى وحب الخير والوفاء للاصقاء؛ وما زال موقفه من اقامة تمثال للسياسي الوطني الراحل (عبد المحسن السعدون) مضرب المثل في ذلك؛ وهو القائل:
وافعل فعل الخير للخير نفسه ولست ابالي بالثواب وبالاجر
ثم بعد كل هذا وذاك كا ن الواعظ من القلة الذين يعرفون القضاء العراقي منبعا ومصبا؛ ولا زلت اذكر قوله لي يوم زرته في رئاسة التفتيش العدلى عام 1957؛ حينما قال ناصحا (ليست هيبة القاضي في التجهم والصراخ والارعاب؛ بل ان مهابته تكمن في شخصيته المتوازنة وعلمه القانوني وتطبيقه للعدل)
رحم اله ذلك القلب الكبير والمشاعر الانسانية الزاخرة بالعطاء في حب الوطن حيث قال:
وطني؛ بكيت شجى عليك ولم ازل أبكيك من نفسي ومن أعلاقي
وطني فذا قلبي يذوب وادمعي تجري بحرقتها من الآماق
ولعل البيتين اللذين كتبهما تحت صورته يؤكدان أيمانه بسر الرحيل الابدي والفناء الجسدي:
تبقى الرسوم مدى الازمان خالدة والجسم يفنى ولا يبقى له أثر
هذي على الارض تمثال لصاحبها وذاك تحت طباق الترب مندثر
(يتبع)