النبش والتنقيب في التأريخ الأيزيدي القديم (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
اتهمت الأيزيدية بأنها عبادة الشر، وأنها تقدس الطاؤوس وتعتبره رمزاً للشر وتعتبره الهاً لها تقوم بعبادته، وأنها تعتقد بالوهية الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وانها تعتبر الشيخ الجليل عدي بن مسافر آلهاً آخر تعبده دون الله، والكثير من الأراجيف والقصص المختلقة التي تريد النيل منهم وأخفاء حقيقتهم وكلها إتهامات ظالمة وباطلة لاأساس لها من الصحة، غير أن اهم ما سنعالجه في هذا الحيز هو عبادة الشر وتبجيل رموزه والنزوع نحو أرتكاب فعل الشر الذي يتهم به الدين الأيزيدي، ويفترض المنطق ان يكون أتباع كل دين ملتزمين بما تفرضه عليهم ديانتهم وشريعتهم، ومن غير المنطق أن يكون الدين الأيزيدي دين الشر وأتباعه يسلكون طريق الخير لأن هذا الأمر يحدث التناقض والتصادم بين الفعل والأيمان، وبين السلوك والعقيدة، فأذا كانت الديانة الأيزيدية تقدس الشر يتوجب على أتباعها أن تمارسه وتلتزم به في السلوك والفعل، وأذا كانت الأيزيدية تقدس الشر يتحتم أن تأتي النصوص الدينية والأدعية لتبرير هذا الشر، أو تدافع عنه على الاقل، او أن يقوم رجال الدين بتبرير نزوع دينهم نحو الشر، أو ان عتاتهم وشقاتهم هم من يتصدر الدعوة لمثل هذا الدين، وما نعرفه بتواضع أن رجال الدين هم الجهة الوحيدة التي تفسر وتشرح وتبسط النصوص الدينية للناس، وجل هذه الشريحة من ألأتقياء والملتزمين بالخلق العالي والقيم الأنسانية ليكونوا مثالاً يقتدى به لغيرهم بالأضافة الى تطبيق صارم لأسس العقيدة على حالهم قبل تطبيقها على الناس، أن الأمر يتناقض مع تأريخهم البعيد كلياً عن الشر، أن جميع الأديان هي حركات أصلاحية لهداية المجتمعات في كل زمان ومكان، وهذه الحركات منها ما يستمد صيرورته من الخالق ومنها من الأنسان، غير أن لكل ديانة أفكار واضحة ينشرها سواء بكتب مقدسة أو بأقوال وأفعال يلتزم بها، ويسعى القسم الأكبر منها للأعتقاد بوحدانية الله، كما تدعو جميعها حتى التي لاتنضوي تحت الديانات التوحيدية دون أستثناء الى عمل الخير والفعل الصالح والأبتعاد عن كل ما يوجب الحساب الديني والدنيوي بالعقاب نتيجة فعل الشر، وجميع الديانات تدعو لتجنبه والحذر منه وتسعى إلى محاربته من داخل النفس البشرية وصولاً إلى كافة مظاهر الحياة، والأيزيدية من العبادات التي تدعو لتوحيد الله وتؤمن بعبادته وانه الخالق الأزل جهاراً، وانها من الديانات التي تؤمن بالحلول والتناسخ، وأن هذا التناسخ والحلول يجسد فعل الأنسان في الدنيا، فاذا كان شريراً فاسداً مسخه الله في جسد حيوان اوطير او كائن يتعذب، وأن كانت افعاله تتجه نحو صالح الناس ونحو الخير، أكرمه الله وأعزه وكافئه في الحلول بروح سعيدة ومرتاحة في حياة اخرى جديدة، وأذا كان هناك من تشابه في تطبيق نظرية الفيض عند الايزيدية، لإن هذه النظرية برزت منذ أيام أفلاطون والمدارس الفلسفية والديانة الهندوسية، حيث أن الأيزيدية تعتقد بأن الدنيا تفيض من نور الله ورغبته في الكينونة وهو الذي يأمر ملائكته الأرباب بتسيير شؤون الكون، وأن عناصر الكون الأربعة هي الماء والتراب والهواء والنار، وأذا كانت بعض الديانات التي أنتشرت في العالم تمجد قوى الطبيعة وتدعو لتمجيدها وعبادتها، أو انها تتخذ من الظواهر آلهة، فأن الأيزيدية منذ بداياتها أعتقدت أن هذه الظواهر وأن كانت جديرة بالتقديس الا انها آية من أيات الخالق ودليل على قدرة الله في منح الحياة مثل تلك الظواهر الخارقة، ولم تشرك بهذه الظواهر مع القدرة الربانية التي أكدت على وحدانيته وقدرته وربوبيته، وبعد كل هذا هل يمكن أن تؤمن ديانة تلتزم بما ذكر بالشر، فجميع الأقوال والادعية بعيدة كليا عن الشر او الالتزام به :
(( يارب نطلب منك بالخير المرحمات التالية
الكرامة والشفقة، اللسان والنطق
الدين والايمان
العقل والفهم ))
(( حقا الحمد لله رب العالمين
يارب تقبل دعائنا نحن المؤمنين الصالحين القائمين على ابواب الاولياء، اللهم آمين ))
(( انت صاحب التاج من الاول الى الاخر
اعط الخير واقلب عنا الشر ))
(( آمين آمين تبارك الدين الله احسن الخالقين ))
(( يارب انت الغوث وانت المدد
لالون لك ولالحن
يارب لايدري احد كيف انت ؟
يارب انت خالق السماوات
ومعطي القوت
انت الحليم والملكوت
يارب انت خالق الفقراء والملوك
انت الدائم الموجود ))
(( بحق اسمك يارب تفقد امور الكرد
وحال الايزيديين في الشرق والغرب ))
والمتمعن في نصوص هذه الأدعية وما يردده رجال الدين الأيزيدي والقوالين من دعاء جهاراً جميعها تدعو للخير، الخير ليس للأيزيدية فقط وأنما لكل الناس، ثمة من سيقول ان هذه الأدعية وضعها رجال الدين حديثاً، ولكن الأيزيدية يطرحون هذه الأدعية التي يغلب عليها البساطة والقدم وليس لهم سواها، وهم يرددونها منذ أن وجد اول أيزيدي نفسه على هذه الأرض، ثم لماذا يجاهرون بأدعية ويخفون غيرها، الا يمكن ان تظهر ما يناقضها بينهم ؟ ومن يعاند بصحة الأدعية عليه أثبات العكس، وليس هذا فقط أيضاً فقد شهد تأريخ المنطقة التي يعيش فيها الأيزيدية منذ القدم انهم بالرغم من كل ما لحقهم من المحن لم تكن لديهم نزعات للشر، او على الأقل ردة فعل سلبية أزاء مالحقهم من ظلم وتنكيل وتقتيل لم يكن ينالهم لو انهم كانوا بجوار أهل دين آخر مثل ما حصل لهم على أمتداد التأريخ المنقول والمكتوب في المنطقة التي خلقهم الله فيها .
ويعتقد الأيزيدية أن الخير من عند الله، ولايمكن ان تكون أفعال الشر الا من عند الأنسان وهو وحده من يرتكب الخطيئة ويحاسب عليها، وأن الصراع بين قوى الشر والخير مثل الصراع اليومي بين النور والظلام، ومثل هذه الطروحات الفلسفية لاتخلو من حكمة وتبصير لاتصدر عن جهل او عدم معرفة، بالأضافة الى تطبيق تقديس الارض التي خلقها الله من التراب بتحريم البصاق على هذه الأرض قطعاً، ومثل هذه الامور لاتنم عن جهالة بأمور الدنيا أو بأمر الخليقة أنما على العكس تدلل على معرفة وسعة أدراك وعلمية قد تفوق ما يتصف به رجال الدين الأيزيدي المحصورين ضمن نطاق المناطق التي يعيشون ضمنها مع كل ما لحقهم من حروب وهجمات وما لحقهم من منع القراءة والكتابة في فترة زمنية عصيبة لعدم تمكنهم من الأستقرار والأطمئنان في حياتهم اليومية.
ومع أن الباحث simon في العام 1685 أشار في بحثه عن اصل الاديان الى الفرق التي كانت قبل اليهودية، وأشار الى الفرق الدينية التي تعتبر الغواية تجسيداً للحكمة الالهية، ولم يكن simon موفقاً بخصوص الأيزيديـــة التي أطلق عليها الغنوسطية والتي تتناقض مع طرحه، فلم يعتقد الأيزيدية أن الغواية من عند الله بل العكس فهو يختص بكل شيء بدءاً من الخليقة وانتهاء بالروح، ولكنه لايبلي مخلوقاته التي كرمها وفضلها على كثير من المخلوقات بالغواية، أذ تعتقد الأيزيدية أن الأنسان هو الذي يرتكب المعاصي ولهذا فأنه من الطبيعي سيخضع للعقاب والحساب.
فأذا لم يكن الأيزيدية ممن يعبدون الشر ويقدسونه، فلم هذا التعتيم المظلم على حقيقة ديانتهم ؟ ولم هذا الأصرار على الأساءة اليهم وأخفاء حقيقة ديانتهم في نظر بعض من كتب بقصد التضليل والأساءة اليهم، أما يكون من الأجدر تثمين وأظهار قيم الخير والمحبة ورعاية هذه الأحاسيس الأنسانية من أجل التعايش الأنساني بسلام بين البشر ؟ أما يكون من الأجدر التعامل مع الديانة الأيزيدية بعقلانية بعيداً عن الذبح والدم والموت وأبادة الآخر ؟ وبعد كل تلك الأفعال الدموية التي مارستها جهات عديدة بحق الأيزيدية نلمس اليوم أن الأيزيدية ثابتة وباقية لم تهزها رياح الموت اليومي ولاغيرت نظرتها للحياة وتمسكها بقيم الشريعة وتعاليم السماء التي يتمسك بها المؤمنين بهذه الديانة، وكما أن الأيزيدية تعبد الله وتختلف في بعض التفاصيل مع بقية الأديان، فأن هذا الأختلاف في العقيدة طبيعياً وموجوداً داخل شريعة كل ديانة قائمة في الحياة اليوم أذ تختلف كل ديانة قائمة عن الأخرى بشيء من التفاصيل فبماذا تختلف الأيزيدية عن ذلك ؟ وهذا الأمر لاينسحب فقط على الديانة الأيزيدية أنما يتطلب الأمر العمل على نشر الثقافة التي تعتمد الحقيقة بالنسبة لما يشاع عن بقية الأديان الزرادشتية أو البوذية على سبيل المثال لاالحصر، وعلى أساس أن الدين لله لايمكن حصره بكتلة بشرية واحدة ولايمكن تسجيلة وتجييره لفئة دون غيرها من الكتل التي تتشكل منها الأنسانية، وبعد ان أتفقت جميع الأديان دون خلاف على أن الله كرم الأنسان وفضلــه على كثير من المخلوقات، فمن غير المقبول ان يتم احترام ديانات تقدس الحيوانات وتسجد لأصنام وتركع لها، في الوقت الذي يتم الأستخفاف بديانة تؤمن بوحدانية الله ولاتركع لبشر او مخلوق، وأن كانت الديانة الأيزيدية من الديانات التي تدعو لأصلاح النفس البشرية وتوجيهها نحو أفعال الخير يتحتم علينا ان نلج في بدايات الدعوة، وان ننبش في التاريخ المطمور منه والمخفي بجرأة وبنية صادقة وصافية، فما من حركة أصلاحية أو ديانة ليس لها جذور، كما ليس من المعقول ان تتطابق الدعوة الأيزيدية في الفلسفة والتصوف والأعتقاد مع ما يعتقده فيلسوف انتشر أسمه وعلمه في عصـــره مثل الحلاج ( أبي المغيث الحسين بن منصور ) (المصلوب ببغداد عام 309هـ/922م بتهمة الزندقة زورا وبهتانا، وبعد أن تم صلبه وتعليق جسده تم أنزاله بعد ثلاث ليالي، ليتم أحراق الجسد ويجمع الرماد وينثر في ماء دجلة ببغداد ) وهو المشهود له بالزهد والورع والفقه والتصوف، ومن غريب التاريخ أن يتم أهمال اتهام الأيزيدية كونها تسعى لأستعادة الحكم الأموي وانها فرقة سياسية، في حين ان الحكم العباسي لم يتعرض لها كما تعرض لها غيره من السلطات، ولم يسجل التأريخ القديم والحديث اي تصرف أو واقعة تدل على أن الحلم الأموي بأستعادة السلطة لم يزل يراود مخيلة أبناء الأيزيدية، ولم تكن الأيزيدية ملتزمة باللعن الذي كان منتشراً في الزمن الأموي بشتم العلويين، ومثلما لم تلتزم باللعن في الزمن العباسي بشتم الأمويين، ولايعقل ان لاتلتزم جماعة سياسية أو مذهبية بما تفرضه عليها الأعراف والأحكام في زمانها، وخصوصاً أذا عرفنا أن الأيزيدية قامت في أرض لالش ومنها أنتشرت، ولو قدر لها ان تكون من الديانات التبشيرية لأكتسحت مدن وبلدان عديدة في ذلك الزمن السحيق قبــل أن تحل الديانات التي تلتها، لابل غي هذا الزمن حيث لم يزل العديد من البشر دون ديانة ودون ضوابط روحية في بلدان لاتلزم الأنسان بديانة معينة، بالنظر للتعاليم والدعوات نحو الخير وبناء حياة الأنسان تحت أسس الأقرار بوحدانية الله وعبادته والخضوع له والالتزام بتعاليمه، وبالتالي أنشاء حياة تليق بهذا الكائن المميز في الحياة.
وأذا كان بعض يطلق كلمة ( اليزيدية ) جزافاً على تلك الجماعات الأنسانية، فليس من باب المصادفة أن يكون ( أيزيد ) هو بمعنى الاله، والأيزيدية بمعنى عبدة الأله لتفريقهم عمن يعبد غير الله من القوم في المنطقة، حيث أن العقل لايتقبل أن تكون فرقة دينية تتبع الخليفة الأموي يزيد بن معاوية( 60-63هـ / 680-683 م )، لعدم وجود أرث ديني أو فقه او فكر تركه الرجل خلال تلك الفترة الزمنية التي اشتهر فيها وأنصرافه الى الملذات بل ولم يكن ملتزماً دينيا بالرغم من كونه خليفة المسلمين قبلوا ذلك أم رفضوا، ومايراد سوى ان يتم إلصاق أسم يزيد بهذه الفرقة الدينية من فرق الله إمعاناً في الحط من قيمة ديانتهم والأساءة اليهم.
والمتابع للتأريخ الأيزيدي لايجد أي تناحر أو عداء مستعر بين الأيزيدية وبين الشيعة الجعفرية في العراق، وكل ماتم تأسيسه ونشره لايعدو الا أراجيف باطلة لاسند لها من الحقيقة والتأريخ فلا يوجد في الموروث الأيزيدي ما يؤسس الكراهية والحقد تجاه هذه الشريحة الكبيرة في العراق، كما لاتوجد حواجز أنسانية ترسمها الأيزيدية ضد هذا المذهب، وأذ يتم التعامل معهم بكل الموجبات التي تتعامل بها الأيزيدية مع الأديان التي تختلف معها، وأذ يتم تطبيق الكرافة وهي من الأعراف التي تفردت بها الأيزيدية وألتزمت بها، فأن الأمر يثبت لنا تقويض دعائم الأتهامات التي تم ترويجها في فترة زمنية معينة بزعم العداء التأريخي بين الأيزيدية وبين الشيعة، والأمر نفسه يؤدي الى أثبات عدم صحة كون الأيزيدية فرقة أموية سياسية تريد أعادة السلطة الى البيت الأموي، وأن هذا الأمر سيبدو أكثر سخرية وأضحاكاً حين تجد أن الأيزيدية اليوم ينتشرون في دول بعيدة عن العراق وعن مساحة التأريخ العربي حيث يبدو الأتهام مخالف للمنطق والواقع.
لم يكن الايزيدية وحدهم من يعتقد ان هذا الفضاء الواسع لم يكن سوى ظلمات تجري من تحته الامواج وتعصف به الرياح وليس به سوى الله القائم بوحدانيته والمنفرد بربويته، ولما اراد الله خلق الكائنات اوجد من نوره الازلي كل معالم الخليقة والكون، فقد تلتها وكانت معها أديان عديدة أوردت نفس التصور وسردت في كتبها المقدسة وموروثها الديني نفس القصص التي تطابقت بها مع ما جاء عند الأيزيدية.
الخليقة في المعتقد الأيزيدي لاتختلف عن غيرها من معتقدات الاديان وخصوصاً ما يؤمن به المسلمين، غير أن الأيزيدية تقسم ايام الأسبوع في خلق الملائكة، كما تعتبر ( عزازيل ) طاؤوس الملائكة رئيساً لجميع الملائكة.
ورد في التفاسير عن قصة الخلق " فى قوله تعالى ( فإذا سويته ) دليل ظرف لأستقبال . ويرى ان قصة الخلق تتضمن الإشارة الأولى للبشر وفيها الذى خلق فسوى لأول مرة حيث كان الملائكة مخلوقين من قبلهم، ثم إشارة عامة لخلق الإنسان فى أحسن تقويم حتى ينتهى بتكريم بني آدم وحمله لهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات، ثم تفضيلهم على كثير من المخلوقات وتذكر قصة الخلق لأول مرة . وماتخللها من امر رباني بسجود الملائكة للأنسان، وفيها يقول سبحانه وتعالى (( إذا قال ربك للملائكة انى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين ))، ويشير الى ان هذا النص يتضمن اساسيات قصة الخلق من مبدئها الى ختامها وحتى اخبار الملائكة بأنه سيخلق البشر وخلق البشر من طين ثم النفخ وفيه أمر الملائكة بالسجود.
ان قصة سجود الملائكة لآدم ورفض إبليس السجود. لم تحدث كما نعتقد فى جلسة علنية يحضرها الباري عزة وجل والملائكة. ولكنها جاءت عن حضور غير مجسم عن طريق الوحى بالأمر الإلهى للملائكة وإن الهدف منها كان إثبات خدمة الملائكة للبشر . ( قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة - الدكتور عبد الصبور شاهين 1999 دار الروافد الثقافية - القاهرة )
وتخالف العقيدة الأيزيدية في مسألة السجود أذ تعتبر الأمر أمتحاناً للملائكة لم ينجح فيه سوى كبيرهم ( طاؤوس الملائكة )، الذي لم يسجد لغير الله بناء على الأمر الالهي السابق، ولم تختلف ديانة عن ذلك النص سوى الديانة الأيزيدية.
وكان تقديس الطواويس منتشراً بين العرب قبل الأسلام، حين كان العرب يعبدون الأصنام والأوثان والرموز، وكان من بين كبار العرب من يعبد الطواويس، وموضع الطواويس في داخل حجرة الحجر الأسود، ومن بين من كان يقدس الطواويس ويتعبدها أبو سفيان صخر بن حرب، ومن يتابع مشاهد فلم ( الرسالة ) الذي أخرجه مصطفى العقاد سيلمح مشهداً ثابتاً يتمثل في قيام ابو سفيان وزوجه بنقل الطواويس من دارة الكعبة الى دارهم، حيث بقيت هناك حتى أستلمها عنه ابنه معاوية، ويقال انه نقلها معه الى الشام حيث كان يعبدها حتى وهو خليفة للمسلمين في دمشق، وتلك قصة أخرى يراد تدقيقها وتمحيصها وأثبات مصادرها قد نتعرض لها في مجال أخر.
المتابع يجد أن قصة الخليقة لدى البابليين تذكر ان الكون كان في البدء ماء ومنه تكونت الكائنات، وتقول الأساطير الفرعونية أن الظلام كان يعم هذه المياه العظيمة حتى قرر الالــه (( آمون )) أن يبدأ الخلق، بينما تخالف اليهودية في سفر التكوين من ان الله خلق السماوات والأرض وبقي الخالق في عرشه فوق الماء، وخلق النور والسماء وأمر بظهور الأرض اليابسة، ثم أمر بأن تشرق الشمس ويظهر القمر ليلاً، وبعدها خلق الكائنات الحية، اما الاسلام فيؤكد أن الله خلق الكون في ستة أيام ثم أستوى على العرش، وكان عرشه على الماء.
والمدقق المحايد يجد في المجازر والمذابح التي تعرض لها أتباع الديانة الأيزيدية سبباً منطقياً ومقبولاً حول اختفاء وأنتهاء كتبهم المقدسة المكتوبة من التداول، مع أن المنطق يقضي بوجودها وتلاوتها ولكن الظروف التي أحاطت بهم لم تكن تحتمل بقاء مثل تلك الكتب وتناولها وقرائتها واستذكار ماورد فيها، ولهذا عمدوا الى تكليف رجال الدين بحفظ نصوصها وتداولها جيلاً بعد جيل، نلاحظ أن نفس المقدسات ونفس التعاليم تتجدد لدى معتنقي هذه الديانة، ومع عدم وجود نصوص مكتوبة يدل الأمر الى حتمية وجود تلك النصوص في فترات معينة، أذ لايمكن لرجل الدين أن يفرض مايعتقده على رجل الدين الذي يليه اولاً، ومن ثم لابد من تمرد العوام على ما يطرحه رجل الدين أذا كان دون سند او أرضية، ولهذا تجد أن المناقلة الشفاهية التي تمت بين رجال الدين لايختلف عليها أحد منهم، ولاننكر جهل المجتمع الأيزيدي وعدم ولوجه الساحة العلمية والمعرفية لأسباب تتعلق بطرق المحافظة على الحياة والتخلص من الظلم والأضطهاد التي تلحق به من جيرانه على الدوام والتي تصل في أحيان كثيرة الى الذبح والقتل وأستباحة الأرواح و المال والحلال بسبب تمسك الأيزيدية بديانتهم، وعدم اقتناعهم للولوج في ديانة أخرى قسراً، وإيجاد مبررات شرعية ومادية لأجبارهم على ترك تلك الديانة.
ونتفق أن لكل ديانة مهما قل شأنها أو كبر كتاب مقدس تستمد منه الثوابت والأسس التي تقوم عليها، وهذا الكتاب المقدس يحوي أما وصايا الاله المعبود أو تعاليم الشريعة، ولاينكر الأيزيدي أن له كتاب يدعى ( مصحف رش )، مثلما لاينكر كل التفاصيل التي وردت فيه والتي لم يثبت بطلانها ولا خلافها ولاعدم صحتها حتى اليوم، كما أن ما تناقله الكتاب وما نقله الرواة من نصوص كتاب ( الجلوة ) يدل ايضاً على الأتفاق والأجماع والقبول لكل ما ورد فيه وهو كتاب يخاطب به الخالق معبوداته ويوضح قدرته ووصاياه لهم، وهذا يعني أن صحائف الكتاب المقدس أن وجدت فهي موزعة ومخفية يمكن ان تكون قد اتلفت بفعل عامل الزمن والظروف التي أحاطت بهم، مثلما يمكن ان تكون هناك بعض صفحات متبقية بشكل مبعثر وخفي لدى بعض المهتمين أو من شيوخهم ورجالهم .
ومهما يكن الأمر فلن يكن بمقدور رجال الدين و جلهم من الأميين وسط مجتمع يعج بالأمية والجهل والخوف أن يتفقوا على نمط واحد من السرد والمواعظ والمحرمات والطقوس، في حين بقي رجال الدين الأيزيدي محافظين على كل ذلك وسط مجتمع كان يعيش خارج الدنيا بسبب الضغط والحصار والملاحقة القاسية التي تحملها اتباع هذه الديانة.
ولهذا تجد ان الميثولوجيا الأيزيدية لم تنتج قصصاً وأساطير وروايات عن فقهاء وقيادات دينية مثلما ورد في بقية الأديان والمذاهب والملل، بينما تعج الميثولوجيا الأيزيدية بقصص الاخلاص والتفاني والشجاعة والدفاع عن النفس والعرض وعن الكريف وكل ما يتعلق بالدفاع الشرعي وحماية الأنسان لحياته، وبتحليل هذا التوجه يتبين لنا المعاناة الأنسانية التي كان يعانيها الفرد الأيزيدي في سبيل النجاة والخلاص والدفاع عن النفس، وبالتالي أيجاد الوسائل والسبل التي تدعو لحمايته وبث روح الصمود والقدرة على حماية النفس والعرض والعائلة من هجمات الجيوش المسلحة ومجموعات القتل المنتشرة والتي تزعم انها تريد مرضاة الله ولكنها ترتكب أبشع الخطايا في قتلها الأنسان الذي حرم الله قتله الا بالحق، ومن يستقرأ الأساطير والحكايات الشعبية التي يعج بها المجتمع الأيزيدي يخرج بسفر من القصص الرمزية والحكايات التي تحمل المعاني النبيلة والقيم والتي لم يبدأ احد بنبشها وتصويرها.
وبالمقابل فأن ثوابت أساسية لم يستطع أحد تبديلها أو التمــرد عليها، منها التراتيبية الدينية ( نظام الطبقات الديني ) لدى الأيزيدية، والمكان المقدس في لالش، وهذه الثوابت الا تدل على عمق الأيمان والمعتقد في أعماق هذه المجموعة البشرية ؟ ألا يدل هذا التمسك بالثبات في العقيدة والأسس التي تقوم عليها.
ومن الغريب أن لايلتفت أحد الى عدم أتخاذ الأيزيدية ( الطوطمية ) للترميز الى الملائكة في الأعتقاد وممارسة الطقوس، بالرغم من الزمن السحيق الذي جاءت منه، مع ان هذا الأمر مبرراً في ذلك الزمان، الا ان القطع الأساس بوجود اله واحد ليس له ولد ولا شبيه ولاحدود لدى الأيزيدية، ميزهم دون تلك الديانات القديمة في عدم وجود أثر طوطمي أو نصب أو تمثال أو صنم لأي سبب كان، ولو أفترضنا أن الأيزيدية من الديانات الحديثة لأستفادت على الأقل مما سبقها من الديانات التي انتشرت في المنطقة، والتي تركت آثارها وتماثيلها وآلهتها باقية كشاهد من شواهد الأعتقاد والعبادة والشعائر التي آمنت بها تلك الناس في ذلك الزمن، غير أن الأختلاف الشاسع والواضح في العقيدة والأيمان وفي الرمزية بين تلك الديانات والأيزيدية يوحي بقدم الأيزيدية وتميزها وتمسكها بما يخالف الأديان القديمة والحديثة أيضاً.
وأذا كانت الأيزيدية ترمز لكبير الملائكة ( طاؤوس ملك ) بهذا الشكل التصوري والرمزي، فأن المسلمين أيضاً صوروا ( البراق ) التي امتطاهــا الرسول ( ص ) عند أسراءه الى السماء، كما ان المسيحية لم تزل لحد اليوم تتخذ من خشبة الصليب علامة لها وتقوم بتقديسها، كما تتخذ اليهودية من حائط المبكى رمزاً مقدساً يتداخل في طقوسها، مثلما تعتبر المندائية الصليب الذي تلفه الخرقة البيضاء الطاهرة رمزاً لطهارة دينها، غير أن جميع هذه العقائد تشترك في عبادة الله ووحدته في التكوين والخلق.
أن من ينسلخ عن مذهب أو ديانة ينبغي ان تبقى بعــض جذور ومفردات تلك الديانة معه قائمة، وهذا الأمر يتعلق باتهام الأيزيدية كونها فرقة من الأمويين، حيث أن فكرة الحلول والتناسخ تلغي تلك الأحتمالات، بالأضافة الى تمسك الأيزيدية بالأنغلاق في العقيدة وعدم قبول الأنتماء والأعتقاد بالأيزيدية أذا كان من ابوين غير أيزيديين أو أن احدهما غير أيزيدي،وفي هذا الأمر تناقض واضح مع فكرة الأنسلاخ، حيث أن من يريد الأنسلاخ والأنشقاق على ديانة أو حزب او جمعية عليه أن يقم بتوسيع دائرته لاغلقها، وعليه ايضاً أن يحاول كسب اكبر عدد ممكن من المؤازرين والأعضاء وعدم إيجاد الطرائق والحواجز التي تصدهم وتمنع قبولهم تحت أي ظرف ومهما كانت الأسباب، وليس هذا فقط أنما يتم منع عودة من مرق وخرج وغادر ديانتهم أيضاً.
في منطقة كوردستان كانت تنتشر اديان عديدة قبل أن يحل الأسلام، فقد كانت الزرادشتية واليهودية والمسيحية منتشرة، بالأضافة الى وجود المعابد والصوامع والكنائس والأديرة التي يمارس فيها الناس طقوسهم وعبادتهم، أيضاً كانت الأيزيدية موجودة فقد كان الداسنيون وهم من بقايا الاشوريين يدينون بهذه الديانة بالاضافة الى وجود عبادة الشمس، وبعد ان جاء الأسلام وبدأت موجات الفتوحات الأسلامية تصل الى مشارق الأرض ومغاربها، انضم الى الأسلام اعداد غير قليلة من تلك الديانات، بل وأضمحل أثر كثير من تلك الديانات، فقد غابت تلك الجموع الزرادشتية وتقهقهر الوجود اليهودي وضعف الوجود المسيحي، بينما بقيت الأيزيدية غير متأثرة بتلك الفتوحات بالنظر للعقلية المنفتحة والتعاليم السمحة للرسالة المحمدية وللقائمين على نشرها، وأستمر الحال في التعايش المنسجم بين كل تلك الديانات المقيمة في المنطقة، وتزخر منطقة كوردستان العراق ليس فقط بالتنوع الديني للعديد من الأديان وأنما بوجود المذاهب والمعتقدات والطرق الصوفية وثبات التعايش الأنساني والأنسجام بين كل العقائد والأديان، حتى تبدل الحال وتغيرت عقول الحكام الذين كانوا يحكمون بأسم الله ويبغون توسيع سلطانهم ومملكتهم على حساب الأنسان، وكان الأيزيدية من ضحايا تلك الفترات فأنحسرت الديانات الأخرى وتقلصت وتقوقعت في اماكن معينة، وأذا كان انحسار هذه المذاهب والأديان في المنطقة بسبب حلول الدين الجديد، الا يعني ثبات وبقاء الأيزيدية بالرغم من أنغلاقها وتقوقعها دليل على قوة عقيدتها و ثباتها وأصالتها وعراقتها، غير أن ما يلفت النظر أن الأيزيدية التي نشأت في أرض الكورد توزعت بين منطقتي الشيخان - لالش - سنجار، بقيت صامدة في تلك المناطق بالرغم من الحروب والدعوات لأجتثاث الدين والرموز وهدر دم من يؤمن به، ثمة مهاجرين فروا الى بلاد أخرى، غير أن ايزيدية تركيا وسوريا وأيران وأرمينيا لم يتزحزحوا عن مكانهم ودافعوا عن وجودهم دفاعاً مستحيلاً.
وإذا تمعنا في بعض المحرمات سنجد التطابق في العديد من المفردات الشرعية، وعلى سبيل المثال لاالحصر فقد سبقت الأيزيدية جميع الأديان بتحريم أكل لحم الخنزير واسهبت في شرح الأسباب الموجبة لهذا التحريم، مع ان اليهودية حرمت الخنزير بسبب شق الظلف وكونه لايجتر طعامه، ثم حرمه الأسلام من بعد لقذارته وبسبب وجود بعض الامراض في لحمه اذا لم ينضج جيداً، غير أن الأيزيدية جمعت كل الأسباب عند تحريمها أكل لحمه بل وأعتبرت أن روح الأنسان الشرير تحل في جسد الخنزير أذا ما عادت الروح مرة أخرى الى الحياة، وترمز الأيزيدية الى الشر بشكل الخنزير، ويبدو ان هذه الرمزية مستمدة من الأساطير القديمة لدى الشعوب التي أعتبرت الخنازير رمزاً للشر.
تمارس الأيزيدية طقوساً غاية في البساطة بضمنها طقس التعميد الذي جرت عليه اغلب الديانات القديمة، غير أن اغلب هذه الطقوس ما أشارت له الكتب والرقم الطينية التي مارسها البابليين في بلاد الرافدين، لذا فمن غير المعقول أن يكون التشابه والتطابق وأستمرار الألتزام بتلك الطقوس عفوياً أو محض صدفة.
وللأيزيدية مثل غيرها من الديانات لغة خاصة لها أبجديتها وحروفها، ويمكن أن تكون الكتابات المنقوشة على الجدار الخارجي لمعبد لالش أنموذجاً لهذه الكتابة التي لم يسبر غورها أحد منالباحثين والمهتمين بجوانب التأريخ الأيزيدي، كما يمكن أن تكون الكتابة الأيزيدية القديمة التي كتب بها الكتاب المقدس والموجودة في متحف النمسا، دليلاً آخر على وجود هذه الكتابة، حيث وجدت نسخة الكتاب في مناطق الأيزيدية، كما انها لم تكن من الكتابات العبرية أو اللاتينية أو العربية التي كتب بها الكتاب المقدس.
ومن الغريب أن علماء اللغة والتأريخ لم يعيروا تلك الأهمية والأهتمام لهذا الجانب من التأريخ الأيزيدي، حيث لايمكن القبول أن الأيزيدية لم تكن لهم لغة ولم تكن لهم كتابات، مع أن الشواهد التي وجدت تدل على غير ذلك، حيث لم تزل الايزيدية حتى اليوم تجعل لشهر نيسان قدسية خاصة وتعتمد على التقويم الشرقي - الشمسي - وهذا التقويم ماخوذ من البابليين، أذ تبدأ السنة الأيزيدية في أول أربعاء من شهر نيسان، كما تعتقد الأيزيدية أن بدء الخليقة كان في نيسان أيضاً، وتتم التضحية من قبل الأيزيدي في شهر نيسان، ولكون شهر نيسان من شهور الربيع والخصب فقد خصته الأيزيدية بهذه المكانة والأهتمام والتقديس، ولم يكن هذا الطقس الا أمتداداً لما كان يعتقد به البابليين والسومريين في هذا الشهر حيث يتم زواج اله الخصب والذكورة بالالهة عشتار لتنتج الحياة وتبدا دورتها، ويمكن أذا ما أتيحت الفرصة لبعض الآثاريين والباحثين في المنطقة ومن المهتمين بتأريخ الديانة الأيزيدية، أن يساهموا بالنبش والتنقيب بغية أستخراج الحقائق المطمورة وجلي التاريخ لتلك الكتابات التي ستفصح حتماً عن أحداث تأريخية وروايات وأحداث لأوقات متأخرة.