كتَّاب إيلاف

خيارات المثقف الفلسطيني (2)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

بعد المقال السابق، كنت أودّ مواصلة الحديث عن فساد السلطة، وفساد رموزها الثقافية، لاستخلاص الدروس والعبر، وكي، وهذا هو المهم والأهمّ، لا نكرر الخطأ فينقلب إلى خطيئة. لكن المتغيرات الحادثة، في المشهد الفلسطيني، أخيراً، توجب التوقف، ولو مؤقتاً، لنتحدث عما هو حاصل الآن ومرشح للحصول في المستقبل. فبعد تولي حزب حماس للسلطة، وتشكيله للحكومة، جدّت في الأمور أمورٌ، لا يمكن للمتابع أن يتجاهلها. ومن هذه الأمور، ما قاله السيد محمود الزهار، وزير خارجيتنا العتيد، في اليوم الأول لتوليه مهام منصبه الجديد، إذ قال، فور أن تسلّم الوزارة من خلفه الفتحاوي، السيد ناصر القدوة، أن سياسته، حيال موظفي وزارته، وموظفي جميع الوزارات، في العموم، تتلخص في التالي: (إن مبدأ المكافآت والعقوبات، سيكون على قاعدة الإحسان أو الإساءة لبرنامج الحكومة)، كما أشار أيضاً، وقد نقلت إشارته هذه وسائل الإعلام، من أنه (يُمنع على أي موظف أن يتصل أو يلتقي بأي طرف لا يعترف بالحكومة الحالية)... تصريحان خطيران لا يبشران بخير، أبداً. فالسيد الزهار يعرف، قبل غيره، أن (جسم) السلطة، التي تترأسها حكومة حماس الآن، هو فتحاوي في الأغلب، ويحتوي على كل أطياف منظمة التحرير، وكثير من المستقلين. والكل يعرف، مدى الخلاف بين هؤلاء وحركة حماس. فهل يعني هذا، أول ما يعني، أن الموظف الحمساوي فقط هو من سيحظى بالحظوة، وبتدبير أموره، جرياً على عادة فتح في المرحلة السوداء السابقة؟ فإن كان الحال، على هذا النحو، ونرجو ألا يكون، فأين هو التطبيق العملي لبرنامج حماس الانتخابي، القائل بأولوية (التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد الداخلي)؟ وإن كانت حماس ستتعامل مع موظفي الدولة، من غير حزبها، على أساس واحد وحيد هو (برنامج الحكومة)، أي الولاء فقط لبرنامج حماس، فماذا وبماذا افترقت عن فتح وسلطة فتح السابقة. أليست بهذا الصنيع، تعيد إنتاج تجربة شعبنا المريرة، ومعاناته المرعبة، من التفرد والاستقطاب، وهيمنة الفكر الأحادي؟

كلا نحن لا نريد حظوة أو مكافأة من أحد، لكننا لا نريد أيضاً، أن نُعاقب، فقط لأننا لسنا من مؤيدي برنامج حماس. فما هكذا تكون المعايير الصائبة، التي يُؤمل بأن تنقذ بقايا وطن من الزوال. فيكفي شعبنا ما ذاقه، طيلة اثنتي عشرة سنة مليئة بالمرارة والألم. إن (رجل الدولة) يختلف، من عدة نواح، عن (رجل الحزب أو الحركة).. يختلف، قولاً وفعلاً. والسيد الزهار، هو الآن، وزير خارجية كل الشعب الفلسطيني، وليس وزيراً لحماس وبرنامج حماس فحسب. لذا، نؤكد له، من منطلق وحيد، هو الحرص على تجنيب شعبنا، مزيداً من ويلات الفرقة والتناحر والمناكفات، وبالأخص في هذا الوقت الأصعب، إنه يتحتم عليه، أن يقبل بكل أطياف الشعب، وأن يقبل بالاختلاف، الفكري والثقافي، والاجتهاد السياسي، كمصدر للثراء والتنوّع، لا العكس. فهكذا تتقدم الشعوب، وهكذا تجتاز مراحل الخطر والاستهداف. إذ مضى، إلى غير رجعة، زمن التكلّس العقائدي، وما يستتبعه، بالنتيجة، وبالضرورة، من ميلاد الزعيم - الضرورة، وظاهرة (الأخ الأكبر) بالمفهوم الأورويلي البغيض. نحن الفلسطينيين، أكثر الشعوب العربية، تعليماً وتسييساً. بل إننا شعب مسيّس بأكمله - من الناشط الحزبي حتى الأمّي راكب الحمار. فكيف لشعب من هذا الطراز، أن يخضع لفكر واحد، مهما يكن هذا الفكر؟ لقد قيل، وهو قول يؤيده واقعُ الحال، إن إحدى خصائص وميزات الشعب الفلسطيني، أنه شعب يتمتع بعقل نقدي، تجاه كل تفاصيل حياته، السياسية والثقافية. شعب لم يعد يعوّل، مثل جيرانه، على فكرة تقديس أي أحد، رئيساً كان أم زعيم. فالكل بشر يخطئون ويصيبون، بمن فيهم القادة. ولا أحد فوق النقد، ولا ينبغي لأحد أن يكون. وإذا كان منطقياً، أن يختلف أبناء التيار الواحد، فيما بينهم، فكيف لا يختلف أبناء التيارات المختلفة أصلاً، وهم موجودون تحت سقف كل بيت؟
لسنا في وارد تصيد الهفوات لهذا المسئول أو ذاك، من قبطان سفينتنا الجدد. فنحن ندرك، حتى الألم والخوف، مقدار ما يتعرضون له من ضغوط هائلة، تنوء بحملها الجبال. ويكفي أن أمريكا، إمبراطورية العالم الأعظم، تعاديهم وتسعى جاهدة لإفشالهم، حتى لو تطلّب ذلك، تجويع شعبنا بأسره وحشره في وارد الحرب الأهلية. وهو الأمر الذي بات واضحاً، ولو على نحو جنيني أو نُذر إرهاصية، لكل ذي عينين. إننا ننتقد حماس، من أجل المصلحة العامة لا غير. عكس ما يفعل غيرنا من ذوي المصالح والحسابات. والدليل أننا كنا من دعاة ومؤيدي تشكيل حكومة وحدة وطنية، منذ اليوم الثاني للانتخابات. حكومة تكون قادرة على قيادة السفينة في لجة البحر العاصف. وحين رفضت الجبهة الشعبية المشاركة في الحكومة، أخيراً، تحت حجة عدم اعتراف حماس بالمنظمة، تألمنا من تهافت هذه الحجة، وتكلمنا مع الرفاق، بأنهم، كمن يدافع عن بيت من زجاج، في أحسن الأحوال، وفي أسوأها، كمن يدافع عن جثة متعفنة، كان يجب قبرها، ما لم تُنفخ في عروقها الحياة، منذ عقد زمني على الأقل. أي منذ اتفاق أوسلو. فسدنة هذا الاتفاق، هم من هلهلَ وأضعف منظمة التحرير، لحساب وجود السلطة الناشئة، ولحساب مصالحهم الفئوية أولاً وأخيراً. وهم من حاول إلغاءها من الأصل. وذلك عن طريق تعيين الحبايب والأزلام، ليكونوا خيالات مآتة حقيقية لا مجازية. وما ينطبق على حال المنظمة، ينطبق بحذافيره، على المجلس الوطني الفلسطيني. قلنا هذا وأكثر منه، لكن الرفاق، وبفارق تصويت بسيط جداً (عدة أصوات) اختاروا عدم المشاركة. إن أخطر ما يواجهه شعبنا الآن، هو التناحر والفرقة، ما بين التنظيمين الأكبرين: حماس وفتح. ونحن مع ما يجمع لا يفرّق. فالتحديات هائلة، وتكاد تكون فوق طاقة شعبنا المحدودة. والتركة جد ثقيلة وباهظة، بغض النظر مَن يحكم: حماس أو غير حماس. فقد وصل الفساد، قبل انهيار سلطة فتح، إلى حدّ الفضيحة، وزكمت رائحته الأنوف، حتى وصل الأمر حدّ اليأس المطلق من إمكانية أن تُصلح فتح نفسها بنفسها. وحماس الآن، ترث سلطة مثقلة بالهموم والشجون، وبآلاف المصائب: من بطالة خانقة إلى فلتان أمني، إلى أمراء مافيات، إلى انعدام السلع الضرورية في الأسواق، وهكذا دواليك. لذلك، لن نحكم على هذه الحكومة الجديدة، قبل التجربة، فهي بنت ساعات وأيام فقط، لكننا، وفي نفس اللحظة وذات الاتجاه، سنقف موقفاً نقدياً لا يجامل أحداً على حساب مصلحة عامة أو حقيقة عامة، لأنه ببساطة، موقف لا يخشى من شيء ولا يطمع في شيء، كما يليق بمهنة الكتابة وأخلاقياتها، حين تتعرّض للشأن العام، ولهموم وطن، هو الأكثر عرضة للظلم التاريخي، من بين كل الأوطان، طيلة قرن من الزمان. هذا هو قصدنا، ونرجو من الأخوة في حماس، أن يتقبلوه بصدر رحب، وأن يأخذوا به أو ببعضه. ولدينا، في هذه الجزئية، ما يدعو إلى بعض التفاؤل. فهم يقرؤون ويتابعون جيداً، وبالأخصّ، في مكتب السيد رئيس الوزراء. على خلاف سابقيهم، ممن كانوا يقولون لنا، نحن معشر الكتّاب، وبكل بجاحة لا يُحسدون عليها (اكتبوا ما تشاءون ونحن نفعل ما نشاء) !

قالت صديقتي، رئيسة تحرير المجلة الأدبية المشهورة، وصاحبة الفكر اليساري، إننا قد جرّبناهم أربعين عاماً بقضها وقضيضها، وتعني الفتحاويين، ففشلوا في الامتحان، على نحو كارثي. ومن حق قادة حماس أن يُعطوا الفرصة، ولو لأربع سنوات، ثم بعد ذلك، نحاكمهم. منطق لا بأس به، ومقبول نوعاً. لكننا، كما يقول لسان العامّة (استوينا)، ولم يعد فينا القدرة على تحمّل المزيد من التجريب وأخطاء التجريب، مع كلمة لا بد منها هنا، وهي أنهم، أي الحمساويين، خرجوا من عمق الشعب الفلسطيني، ومن مخيماته الأكثر معاناة وصموداً وبؤساً. أي أنهم لم ينزلوا علينا بالبراشوت، وبالألقاب التي تخجل منها دولة كالصين، مثل القادة السابقين. ولم يذيقونا حنظل المرّ، بمسلكياتهم السيئة، وبتعاليهم وعنجهيتهم، وغرورهم، والأنكى من كل ذلك، بتعاملهم معنا نحن عموم الناس، وكأننا عبيد لهم أو ملك أيديهم، أو ورثونا عن آبائهم الباشوات ! كلا حماس بنت الشارع، والأقرب إلى همومه ونبضه. أقول هذا، كشهادة لهم لا عليهم، وكتقرير لحقيقة معروفة في المقام الأول، حقيقة يعرفها الداني، ويوماً ما سيعرفها القاصي. رغم تضادّي معهم فكرياً، وسياسياً. ورغم إيماني بأن المهمة التاريخية لرجل القيادة والدولة، هي أن ينظر بالضرورة، إلى مسافة أبعد من المسافة التي يراها العامة، حتى لو خرج هو من بين ظهرانيهم، وإلا لمَ هو قائد أصلاً. من أجل هذا، نحن ننتقد، ليس لإغراق السفينة، بل لإبعادها عن خطر الجنوح أو الغرق. فتلك هي مهمتنا ككتّاب، منذ كنا وكانت الكتابة. أن ننتقد، وأن نمارس النقد وأحياناً حتى النقض، إذا دعت الضرورة. فمهمة الكاتب أن يرى أبعد من غيره، وأن يكون شاهداً على واقعه، وعلى عصره، لما فيه خير العموم قبل الخصوص. على الأقل هكذا أرى مهمة ومهنة كاتب الرأي. بعيداً عن تنظيرات المثقفين النخبويين.
وعليه، فإن أهمّ شيء، الآن، وأولى الأولويات بنظري، هو ألا تقع حكومة حماس فيما وقعت فيه حكومات فتح، من خطايا وأخطاء. وإلا سيكون مصير هذه الحكومة، مثل سابقاتها بالتأكيد. فنحن شعب قوي وعنيد، ولا يغفر لمن يجرح مشاعره ولا يحترم عقله. ينطبق هذا الكلام، بالخصوص، على الشأن الداخلي الفلسطيني، بكل دقائقه وتفاصيله. أما الشأن الخارجي، ذو الشجون الفادحة، فلذلك مقال آخر، في مقام آخر.
أخي محمود الزهار: حاسب موظفيك على معيار الكفاءة لا الولاء. الإبداع الوظيفي والانضباط لا المحسوبية، فهذه هي أقصر الطرق للنجاح. ضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وبذا تستنقذ هيكل السلطة من غول التعرية والذوبان. مع حقك الكامل، كرجل حركة، في توظيف ما تحتمل ميزانيةُ السلطة، من رجال وشباب حركتك، فقد حُرمَ هؤلاء طويلاً، وبشكل معيب ومدان، من لقمة عيش كريمة، هي حقهم، فقط لأنهم من حماس - مع أن الجميع يعرف، بأن فتح وضعت في المكان الذي يحتاج إلى موظف واحد، عشرة موظفين، فناءت مكاتب الحكومة بثقل البطالة المقنعة.
لقد كتبتُ، قبل أحد عشر عاماً، أن أسرائيل وضعتنا، بفضل اتفاق أوسلو، في زنزانة، لكنها لم تمنعنا، من حق إدارة شؤون زنزانتنا الداخلية، على نحو حسن وجيد، بل نحن من فعلنا ذلك، ونحن من أسأنا التصرف، بحماقة، تحسدنا عليها، حتى عقول العصافير !
فلنُحسن إدارة شؤون زنزانتنا، إذاً، إلى أن يُتاح لنا، شيء أفضل وأكبر. فبدون تراصّ الجبهة الداخلية، وتقويتها وتصليبها، لن نظفر بشيء، ولن يحترمنا العالم. والأحداث الأخيرة المؤسفة، بعد اغتيال القائد العام لكتائب المقاومة الشعبية، وتبادل الاتهامات، وسقوط ثلاثة قتلى وجرح 38، في شوارع غزة، لهي شيء لا يبشر بخير على الإطلاق. نعرف أن مهامّكم ثقيلة، بل تكاد تقترب من المستحيل، لكننا نعوّل على حكمة شعبنا وبعد نظر حكمائه، وهذا لا يكفي بالطبع، بل إنه يحتاج منكم ومن بقية القوى، أن تعملوا بأقصى طاقاتكم، وأن تصلوا الليل بالنهار، الآن الآن وليس غداً، لكي لا نبكي دماً وملحاً، بعد فوات الأوان.

الحلقة الأولى

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف