كتَّاب إيلاف

إيلاف البِكرالذي شدَّ إليه الانتباه

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"إنَّها حقًّا رائعة"

لم أدع الذكرى السادسة لولادة "بِكر" الصحافة العربيَّة الرقميَّة أن تمرُّ دون أن "أحتفل" بعيد ميلاد هذا "البكر" الذي شدَّ إليه الانتباه وجمع حوله المعجبين والهواة وهو ما يزال في أوَّل بهجة العمر. ورويدًا رويدًا بدأ هذا اليافع يترعرع وكأنَّه أحد أفراد أسرتنا، أو أنَّنا أصبحنا جزءًا منه، فبه نبدأ يومنا، وبه نودِّعه. ولشدَّ ما أحببناه، ورغبنا أن يشاركنا كلُّ من نعرف ولا نعرف في هذا الحبِّ، ولم تُغضبنا كثرةُ العشَّاق الذين باتت "إيلاف" لهم غذاء الفكر ونافذتهم على العالم إذا كانوا في البلاد العربيَّة مترامية الأطراف، ولكن نوافذهم مغلقة، أو في بلدان الاغتراب التي اختروها طواعية أم كراهة لتقرِّب مساقط رؤوسهم منهم، وتطلعهم على سرَّائها على قلِّتها، وضرَّائها التي ما برحت تجول فيها وكأنَّها قدر لا يمَّحي.
"إيلافُ"، وأكثر دقَّة، عثمان العمير لم يخترع الصحافة الرقميَّة، ولكنَّه نبغ في استعمالها، وسخَّرها لتحقيق الأهداف التي وجدت الصحافة من أجلها أصلاً - البحث عن الحقيقة، ولتكون الوسيلة التي ترشد مَن يبتغيها إلى الطريق الصحيح. وإذا كانت "إيلاف" من أوائل الذين اهتدوا إلى ضرورة استغلال التقنية الرقميّة الحديثة لجعل الصحافة تستعصي على مقصِّ الرقيب، وتتخطى الأسوار والحواجز التي أقيمت على حدود الأوطان وعلى عقول المواطنين، فإنَّها كسرت احتكار السلطة للصحافة، واحتكار رؤساء التحرير للصحيفة، فلم تعد مرتعًا لعصبة تمجِّد الحاكم، ولا مزرعة لمن رضي عنه الحاكم. وللحقِّ، يمكن أن يقال بأنَّ عثمان العمير خطَّ بداية جديدة لعصر الصحافة العربيَّة، وسابقة حذا حذوها كثيرون ليصبح المواطن العربي غير أسير لإعلام رسميٍّ يحاول وضع غشاوة على الأبصار وسترًا على العقول، أو للبحث عن وسيلة إعلام غير عربيَّة علَّه يجد فيها ضالَّته. لقد كانت الصحافة العربيَّة حتَّى ولادة "بكر" الصحافة رهينة المحبسين - "سجن الحاكم وغياب ضمير القائم عليها". أتت "إيلاف" فأعادت للحاكم صوابه ما أمكن، وللضمير صحوته، ليس اقتناعاً وطواعية، بل خوفًا ورهبة من آت مهما بدا بعيدًا آت لا محالة.
عهدي بـ "إيلاف"، يرجع لبضع سنوات خلت حينما أطلعني عليها، أو هداني لها دبلوماسي عربيُّ ممثلاً لبلده في كندا تربطه بناشرها صداقة وزمالة، فكانت رسالتي الأولى للزميل عثمان العمير مستفسرًا عن إمكانيَّة الكتابة في "إيلاف" وشروطها، فجاء الردُّ مشجِّعًا ونبيلاً كما توقعَّه صديقي الدبلوماسي العربي. فله الفضل في تقديمي لـ "بكر الصحافة" الرقميَّة التي أصبحت من عشَّاقها، فهي بداية صباحي، وهي خاتمة مسائي. أمَّا ما للزميل العمير من فضل، فيكفي أن أشير إلى الأصدقاء في القارَّات جميعها الذين لولا "إيلاف" لما تشرَّفت بمعرفتهم، ولا كانت لي مع كثيرين منهم مساجلات أدبيَّة وشعريَّة يرجع الفضل فيها لهذه "الوليدة" التي نحتفل بعيد ميلادها السادس، وكأنَّ عمر الصحافة الرقيمَّة تجمَّع فيها.
"إيلاف"، كما يعلم القرًَّاء على اختلاف مشاربهم وأفكارهم وانتماءاتهم السياسيَّة ومذاهبهم الدينيَّة استعصت هي أيضًا على الاحتكار، فلا "ليبراليُّو" الصحافة العربيَّة المغتربون شدُّوا وثاقها، ولا "التقليديُّون" استأثروا بها، وإن كان كلٌّ يدَّعي وصلاً بها. فيها تتعدَّد الآراء والأفكار، ومن معينها يروي القارئ العربي عطشه للأدب والثقافة والفن والسياسة، وهذا على ما أعتقد سرُّ عبقريَّة هذا "البكر" الذي يسهل وصفه، ويصعب تحديد صفاته هو لمَّا يزل بعد على عتبات عامه السادس.
"أخي أحمد، إنَّني أطالع "إيلاف" يوميًّا، إنَّها حقًّا رائعة." رسالة قصيرة بعث بها الزميل الصحافي المخضرم سليم الزبَّال من أبو ظبي حيث هو هناك في إجازة الآن، وسيعود لمونتريال المدينة التي يعمل لإيجاد "مركز توثيق عربيٍّ" فيها ستكون باكورة نتاجه دراسة عن "الإعلام العربي المغترب في كندا". نعم أخي سليم، "إيلاف" حقًّا رائعة وجديرة بأن تنال جائزة "نوبل!" للصحافة العربيَّة. فبها أصبح الإعلام العربي المكتوب عالميًّا، فهو لم يدخل البلدان العربيَّة دون إذن الرقيب فقط وقسرًا عنه، بل أخذ الإنسان العربي معه ليطوِّف به في أنحاء العالم. فكما أنت كنت رائدًا في تأسيس مجلَّة "العربي" في الكويت في منتصف القرن الماضي، كذلك الزميل عثمان العمير كان رائدًا في خلق الصحافة العربيَّة الرقميَّة في مطلع هذا القرن. فما أروعها "إيلاف"، وما أنبل ناشرها العمير.
بعد هذه المقدَّمة مباركة "إيلافنا" في عيدها السادس، حضرتني خاطرة كنت أعددتها للنشر قبل سنوات، ولكنَّها بقيت حبيسة الدرج والصدر، وتصادف ذكراها الأليمة مع هذه الذكرى المحبَّبة على اختلاف الأعوام بينهما. فبين الفرحة في ذكرى "إيلاف"، والألم فيما سأشارك القارئ فيه متَّسع في القلب لكليهما.
عندما يصبح النسيان نقمة
تمرُّ على الإنسان، كما الأممِ أحداثٌ يودُّ لو أنَّها تمَّحي من ذاكرته وتغيب عن تفكيره. وهنا يصبح النسيان نعمةً لا تعادلها نعمةٌ. ومن الطبيعي أن يحاول المُصابُ الخلاصَ من آلامه وعلله، ولكن أن يتشبَّث أحدنا بفاجعته، ويرجو ألاَّ تغيب عن ذاكرته، فهذا أمر ربَّما يبدو غريبًا!
حضرتني هذه الخاطرة، وأنا أتذكَّر مذبحة "دير ياسين" عام 1948 التي شدَّت وَثاق التفكير إلى ما بعدها بقليل "ذكرى استشهاد والدي"، الذي لم يختلف قتله سواء من حيث الوسيلة أو الهدف عن قتل شهداء مذبحة دير ياسين. ولعلاقة هاتين الذكريين بـِ "قتل" فلسطين وتشريد معظم أهلها بعدهما بقليل، أدركت أنَّ النسيان في هذا المُقام هو ضرب من الهروب من الواجب، و"تخليص" الضمير من وخزات موجعة، ولو حدث ذلك لكان نِقمةً أجدر بمن ابتُليَ بهما أن يؤثر الموت على الحياة.
منذ خمسين عامًا، والفلسطينيُّون "يتلذَّذون" بآلام نكبتهم، التي تمتلك تفكيرهم، وتملي عليهم سلوكهم. قيام "دولة إسرائيل" في ذلك العام، وامتدادها على مدى عشرات من الأعوام التي تلتها، هي الفاجعة التي لا يودُّ الفلسطيني الخلاص أو الهروب منها، لأنَّ ذلك يعنى فكَّ الارتباط التاريخي بينهما، والإذعان لواقع سياسي لا تتبيَّن معالمه في المدى المنظور على الأقل. ونهاية الآلام في العلاقة بين الفلسطيني وفلسطين لا تحتمل إلاَّ استنتاجًا واحدًا، ألا وهو التنازل عن الوطن مهما كانت المسمَّيات. ولأنَّنا لا نريد التنازل، ولا نتوقَّع احتمال العودة إلى أرض الآباء والأجداد في زمن منظورٍ، تبقى الذاكرة الأمرَ الوحيدَ الذي يشدُّنا، وتبقى الآلام معينًا للذاكرة التي استعصت على النسيان.
في الخامس عشر من أيَّار ستحتفل إسرائيل بذكرى قيامها. فهل سيحتفل أحد من الرسميِّين الفلسطينيِّين أو العرب معها! طالما هناك "سلام" قائم واعترافٌ متبادل حاصل بينهما! وبعد عامٍ، يصبح عمر الجرح الفلسطيني أكثر من نصف قرنٍ. فكيف يحتمل إنسانٌ عذاب نصف قرنٍ أو يزيد ولا يملُّ هذا العذاب؟ إنَّه الغرام بعينه.
نحن نكتب في هذه الذكرى لا لنتلذَّذ بآلامنا، ولا لنتمنَّى دوامها. نكتب، وهذا هو الواجب، نكتب لنذكِّر. وإلاَّ فقدنا مبرِّر وجودنا كأصحاب أقلام نحاول القيام بدورٍ ارتضيناه، وبطريقٍ سلكناه. فلعلَّ ذلك ينفع، ويرى أولادنا فيما نكتب باعثًا لحمل الرسالة للرجوع إلى أرض آبائهم وأجداهم. فإن نحن عجزنا عن العودة إلى أرض الآباء، فلا أقلَّ من أن نترك لخلفنا حقَّ العودة إليها.
تحضرني هذه الخاطرة فأبتسم متحرِّقًا وساخرًا. متحرِّقًا على الذين حاولوا فكَّ الارتباط التاريخي بينهم وبين فلسطين، ففكُّوا ارتباطهم بأنفسهم. وساخرًا من خصومٍ وأصدقاءَ يريدوننا أن نقترف الإثم نفسه. ولن نفعل.
عذاب الجراح وآلام الذاكرة، ولو بعد نصف قرنٍ آخر، خيرٌ من فقدان الذاكرة والوجود.

أحمد عيد مراد

كاتب المقال، رئيس المركز العربي الكندي للثقافة والإعلام - أوتاوا/ عضو مجلس إدارة نادي الصحافة الوطني الكندي/ ورئيس لجنة الارتباط بالهيئات الدبلوماسيَّة - أوتاوا.
editormurad@rogers.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف