كتَّاب إيلاف

هل فعلا نحن أمة عربية واحدة؟ (1)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أعرف مسبقاً حساسية هذا الموضوع الذي أحاول مناقشته في هذه الدراسة، وسبب هذه الحساسية عائد في الأساس إلى ضيق حرية الرأي والتفكير في الشرق الأوسط بشكل عام، مع نسب مختلفة من قطر إلى آخر، و إلا فقياسا على تجربة الشعوب الأوروبية لا توجد مسلّمات ولا (تابوات) غير قابلة للنقاش، مهما بالغ البعض في نقاشهم وخالفوا الإجماع حول قضية محددة، فهم يجدون من يناقشهم ويفند آراءهم بطريقة علمية موضوعية خالية من الشتم والتجريح وزجّ التهم كما تعودنا في الشرق الأوسط،، وأعتقد أنّ اتساع هامش حرية التفكير والرأي هي التي أتاحت للفكر الغربي أن ينطلق نحو آفاق واسعة في مختلف العلوم والفنون، حيث ما زلنا نعيش في الشرق على إبداعاته في مجالات حياتنا المختلفة النظرية والتطبيقية. إن الخروج من (تابو) المحرمات والممنوعات لا بد منه خطوة أولى نحو تحرير الإنسان وفكره في بلادنا،وانطلاقاً من ذلك وعودة إلى الموضوع الحساس الذي أشرت إليه أقول: هل يسمح التفكير النمطي السائد في الشرق الأوسط، طرح موضوع (الأمة العربية الواحدة) و(قضية القومية العربية) بشكل مختلف دون اتهام من يشكك في صحة ذلك بأنه جاسوس وعميل للقوى الإمبريالية والحركة الصهيونية وغيرها؟. رغم كل هذه المحاذير التي يعيها الكاتب إلا أنه يرى أن ستين عاماً تكفي للركض وراء سراب ووهم، لم يتقدم معتنقوه نحو الهدف متراً واحداً، وبالتالي لماذا لا نواجه الواقع وتشخيصه على حقيقته وصولاً إلى احتمالات واقعية من الممكن تطبيقها وتطويرها، بدلا من استمرار وهم(الوحدة العربية) وما يسميه البعض(الأمة العربية الواحدة) التي تزداد شرذمة وعداوة وتناقضاً. إن دراسة الواقع العربي السائد طوال ستين عاما مضت هو ما تحاول هذه الدراسة رصده وصولاً لإجابة واقعية على التساؤل الرئيسي وهو: أمّة عربية واحدة أم شعوب عربية مختلفة؟. إن تجربة الستين عاما الماضية التي هي عمر ما يسمى زمن الاستقلال لمعظم الدول العربية وفي الوقت ذاته عمر الجامعة العربية، قد شهد تجربة عربية ذات وجهين مختلفين إلى حد النقيض:

الوجه الأول:
أ- ظهور الأحزاب القومية التي جعلت أهم أهدافها تحقيق الوحدة العربية عبر مفاهيم الأمة الواحدة ذات القومية واللغة الواحدة، ومن أهم هذه الاحزاب حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب القومي السوري الاجتماعي الذي كانت له أطروحاته الخاصة في هذا الميدان.
ب- ظهور قيادة جمال عبد الناصر في مصر عقب انقلاب يوليو1952 الذي أطاح بحكم الملك فاروق، واضعاً السلطة في يد مجموعة الضباط الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية (الضباط الأحرار).
ج- الإعلان عن العديد من مشروعات وتجارب الوحدة بين أقطار عربية لكنها جميعها وبدون استثناء كانت مشاريع فاشلة، أدت إلى الفرقة أكثر منها إلى الوحدة، وكان أهمها الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 التي عرفت باسم الجمهورية العربية المتحدة، وانتهت بانفصال سورية عام1961، ومشروع الوحدة بين مصروالعراق وسورية عام1963 ولم ير النور، وانتهى بحملات إعلامية متبادلة سممت الأجواء العربية، ومشروع الإتحاد الهاشمي بين الأردن والعراق الملكيين عام1958، وكان ردا على الوحدة بين مصر وسوريا، ومشروعات العقيد القذافي الوحدوية التي تكاد لا تحصى، فهي مرة للوحدة بين ليبيا ومصر،وثانية للوحدة بين مصر وليبيا والسودان، وثالثة للوحدة بين ليبيا والسودان، ورابعة للوحدة المغربية وخامسة للوحدة مع(تشاد)- دولة افريقية لا علاقة لها بالعروبة- وفي نهاية عام1998 أعلن العقيد القذافي يأسه من أمكانية تحقيق الوحدة العربية و توجه نحو أفريقيا.
المشروع الوحيد من مشروعات التنسيق والتكامل العربيين، الذي كتب له النجاح وما زال مستمراً منذ عام 1974، هو مشروع"مجلس التعاون الخليجي"، وقد شهد سلسلة من أمور التكامل بين دوله الأعضاء شكلت شذوذا واضحاً على المشاريع العربية المماثلة، وسر نجاحه أنه بني منذ البداية على أسس واقعية وهي (التعاون والتكامل) وليس ( الوحدة والتوحيد)، وهذا ما يعزز النتيجة الأخيرة التي تهدف هذه الدراسة الوصول إليها.

الوجه الثاني:
شهدت التجربة السياسية العربية في نفس فترة الستين عاما الماضية، نقيض ما شهدته في الوجه الأول أي أن نفس الفترة عرفت وعاشت الشيء ونقيضه، وهذا من النادر وجوده في التجربة الأوروبية التي تسعى للهدف نفسه في الوحدة والتكامل، وهذا يدل على التخبط العربي في مجال التفكير السياسي وبعده عن الواقع المطبق ميدانيا، ومن ملامح هذا التناقض الصارخ:
أ- انهيار حركة القوميين العرب عام1968 على يد بعض مؤسسيها مثل الدكتور جورج حبش وأبو ماهر اليماني ووديع حداد،عقب الإعلان عن تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والتخلي نهائيا عن فكر ومنهج الحركة، وتحديداً بعد انشقاق نايف حواتمة الشهير عام1969 وتشكيله الجبهة الديمقراطية وبيانه المثير (حركة القوميين العرب..لماذا)،وانسلاخه نهائياً عن كل تراثها وتبنيه الفكر والمنهج الماركسيين، ونتج عن ذلك تحول بقايا الحركة إلى أحزاب قطرية في بعض الأقطار العربية، ورث كل منها تراث الحركة وموجوداتها في كل قطر، مع الإشارة إلى التجربة المحدودة والقاصرة التي مثلها(حزب العمل العربي الأشتراكي) التي حاول من خلالها علي هاشم محسن وبعض أنصاره اعتبار هذا الحزب الوريث العربي لحركة القوميين العرب، لكنها كانت تجربة محدودة وسط ضجيج إعلامي فقط، انتهت حتى إعلاميا ًبعد شهور من إعلانها.
ب- التناقض حتى الصراع بالرصاص بين أجنحة الحزب الوحدوي الواحد كما شهد وعاش العالم العربي تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي بجناحيه السوري والعراقي، فهذا الحزب الذي رفع شعار(أمة عربية واحدة،ذات رسالة خالدة) لم يستطع خلال ما يزيد عن أربعين عاماً أن يقيم أي شكل من أشكال التنسيق والتكامل بين القطرين اللذين يحكمهما وهما سورية والعراق، والمصيبة الكبرى ليست في عدم قدرة هذا الحزب ورجاله الحاكمين في أن يقيموا الوحدة، ولكن في عدم قدرتهم على إمكانية التعايش السلمي بين قطريهما، فقد كانت العلاقة دوما محكومة بالتوتر والصراع والمؤامرات والسيارات المفخخة والاغتيالات، وصلت ذروتها في التصفيات الدموية التي قام بها صدام حسين عام1979 ضد رفاقه الذين أتهمهم بالعمالة والتخابر لصالح سورية بعد أن فشل مشروع الوحدة بين القطرين الذي عرف آنذاك بميثاق العمل القومي، وانتهي الأمر إلى قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق الحدود بين القطرين منذ عام 1979 وحتى انهيار نظام صدام عام 2003، وفي عام 1991 شارك جيش حافظ الأسد البعثي مع قوات التحالف الدولي التي طردت جيش صدام حسين البعثي من دولة الكويت. من يصدق هول وبشاعة هذه التجربة؟ علاقات دبلوماسية واقتصادية مقطوعة وحدود مغلقة طوال خمسة وثلاثين عاماً بين قطرين عربيين يحكمهما حزب واحد بمبادئ واحدة، تنص حسب ادعائه على وحدة الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة!!!.
المثالان السابقان هما أخطر ما شهده الوجه الثاني من التجربة السياسية العربية، في مجال الفكر والمشروعات الوحدوية..إلا أن انعكاس ذلك على الحياة اليومية العربية طوال الخمسين عاماً الماضية، هو أمر لا يصدقه عقل، وما زال بعضه مستمرا حتى اليوم بصورة من الصور، وتكفي الأمثلة التالية:
أ- الحملات الإعلامية البشعة التي أدارها إعلام نظام جمال عبد الناصر، ضد كل معارضيه من الحكام العرب مستعملاً فيها كل وسائل وفنون الردح اللا أخلاقي، التي شملت كثيرين منهم الملك حسين والملك فيصل وحكام سورية وحكام المغرب، وقد بادله البعض نفس الشتائم والحملات فإذا بالحياة العربية ذات رائحة كريهة تزكم الأنوف، ولم تتوقف تلك الحملات إلا بعد هزيمة عام1967..وفي فترات أخرى عاد صدام حسين لنفس الأسلوب بهجومه على كل الحكام العرب تقريبا،مطالبا شعوبهم بالثورة عليهم وإطاحتهم لأنهم لم يوافقوا على مخططاته وتوجهاته، وكأن عشرين قطراً عربيا وعشرين حاكماً عربياً على خطأ،وهو ونظامه فقط على صواب، وشهدت بعض القمم العربية التي سبقت سقوط نظامه شتائم من أعضاء الوفد العراقي بحق غالبية أعضاء المؤتمر.
ب-الحرب بين الجزائر والمغرب عام 1963 بسبب ترسيم الحدود، التي استعملت فيها كل أنواع الأسلحة واستمرت قرابة شهرين، و راح ضحيتها الآلاف وما زالت العلاقات الجزائرية المغربية متوترة وشبه مقطوعة وطالما شهدت اشتباكات عسكرية واسعة، والحدود مقفلة من حين إلى آخر،بسبب قضية الصحراء الغربية التي هي أساساً لولا الدعم الجزائري- لعمل انفصالي عن المغرب- لما عرفت هذه القضية التي لا تزال تشغل الشعب المغربي حتى الآن، ومنذ سنوات تتعثر مسألة الاستفتاء في الصحراء بإشراف الأمم المتحدة. ورغم فقر الدولتين فما تنفقانه على التسلح لمواجهة بعض يعد بالمليارات، التي لو خصصت للتنمية البشرية لتغير مستوى المواطن ومعيشته.
ج- الحرب المصرية- السعودية في اليمن الشمالي(آنذاك)عام1964،التي تدخل فيها نظام عبد الناصر لدعم انقلاب عبد الله السلال، وتدخلت السعودية لدعم نظام الإمام، واستمرت حرباً ضارية لم تتوقف إلا بعد هزيمة نظام عبد الناصر عام1967 حيث تم سحب الجيش المصري من اليمن، بعد أن قتل ألاف من الطرفين.
د- الحرب المصرية- الليبية الخاطفة عام1979، عقب زيارة أنور السادات إلى إسرائيل، تلك الحرب التي استمرت ساعات قليلة استعمل فيها الطيران المصري لتدمير قواعد ومعسكرات ليبية، ادّعى السادات إنها تستعمل للتآمر ضد مصر.
هـ- الحشود العسكرية بين الاردن وسورية عام1981 التي استمرت عدة أسابيع، وكادت تندلع حرب طاحنة لولا تحكيم العقل في اللحظات الأخيرة وتحديدا من جانب الاردن والملك حسين شخصياً.
و- حرب الزوارق البحرية بين قطر والبحرين عام1989 بسبب الخلاف على جزيرتين صغيرتين في مياه الخليج، تدعى كلاهما ملكيتها و مازالت هذه القضية مصدر توتر رغم قرارات محكمة العدل الدولية بخصوصها.
ز- وأخيراً- ونأمل أن يكون آخرا- حرب(أم الكوارث) في آب1990 التي احتل فيها صدام حسين دولة عربية مستقلة، عضوا في جامعة الدول العربية و هيئة الأمم المتحدة هي دولة الكويت.. إن هذا العمل اللا أخلاقي بكافة المقاييس العربية والدولية لا يمكن قبوله أو تبريره رغم محاولة صدام حسين تبرير ذلك باسم الوحدة العربية، عندما ادّعى أن دولة الكويت هي أحدى محافظات العراق، ونحن لسنا ضد الوحدة الطوعية بين أي قطرين عربيين، لكن الإسلوب الذي استعمله صدام - رغم أن مؤامرة احتلال الكويت أساساً لم تكن مشروعاً وحدويا يهدف إلى إعادة الفرع إلى الأصل - إن وافقنا عليه سنجد أنفسنا أمام عدة حروب أهلية، لأن التقسيمات الحدودية القائمة حاليا بين الأقطار العربية هي وليدة انهيار الخلافة العثمانية، وما ارتضته الدول المستعمرة خاصة بريطانيا وفرنسا من تقسيمات عقب الحرب العالمية الأولى. وقد ارتضت كافة الدول العربية هذه التقسيمات الحدودية، سواء كانت مجحفة أم لا، وعلى أساسها قامت جامعة الدول العربية عام1945، فإذا أخذنا بمنطق صدام حسين قلّما نجد دولة عربية لا ترى أن بعض مناطق الدول المجاورة جزءاً منها وتابعة لها، وهذا يعني فعلا عدة حروب عربية - عربية، كادت إحداها أن تندلع قبل سنوات قليلة بين مصر والسودان بسبب الخلافات على منطقة (حلايب). وعندما انسحب جيش صدام من الكويت بعد حرب تحرير الكويت التي خاضتها قوات التحالف الدولي بمشاركة جيوش عربية وإسلامية، أحرق جيشه المهزوم آبار النفط الكويتية، فلو كان فعلا شنّ حرب احتلاله لضم الفرع إلى الأصل كما ادعى، فكيف يحرق آبار نفط الفرع؟ فهل هناك من يحرق جزءا من وطنه حتى لو كان خارج سيطرته؟

بعد كل هذا السرد الموثق لأوجه العلاقات بين الدول العربية طوال الخمسين عاماً الماضية، ماذا يبقى من قواسم مشتركة لإقامة الوحدة العربية؟.وهذا ما حدا بالمؤرخ البريطاني (برنارد لويس) أن يرى قبل عدة سنوات- تحديداً بعد احتلال صدام حسين للكويت "أن فكرة القومية العربية قد انتهت وتلاشت، وأن العالم العربي يتفكك كهوية سياسية، بمعنى إنه لا توجد هوية سياسية واحدة موحدة اسمها (العالم العربي)، فلكل قطر من أقطار هذا الوطن هويته السياسية ونظامه الاجتماعي والاقتصادي وأهدافه الحاضرة والمستقبلية، بعيداً عما يجري في أي قطر آخر، وأصبحت العلاقة بين أي قطرين مجرد علاقات دبلوماسية واقتصادية وتجارية مثل العلاقات بين أي قطر ودولة أوروبية أو أسيوية أو أمريكية، والدليل القاطع على ذلك هو قرار مؤتمر القمة العربي في الرباط عام1974، الذي أعلن فيه بالإجماع أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وكان التطبيق الميداني في أغلب الأقطار العربية هو الموقف من القضية الفلسطينية والتفاوض مع إسرائيل، عندما عُبّر عن ذلك بالقول "القضية قضية الشعب الفلسطيني ونحن نقبل بما يقبل به الفلسطينيون"، لذلك لم تعترض أية دولة عربية على اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين ودولة اسرائيل عام1993 سوى سورية، وليس لأسباب وطنية جذرية ولكن لانفراد الفلسطينيين بالتوقيع على اتفاقية سلام- أيا كانت - مع إسرائيل، وقد أعقب ذلك الاتفاقية الأردنية - الإسرائيلية عام1994، وكان قد سبق ذلك بعشرين عاماً الاتفاقية المصرية- الإسرائيلية.
من حق أحد دُعاة (القومية العربية) أو المؤمنين بها نظريا ولا يعتبرها مثلنا مجرد وهم وسراب، أن يرد على دعوانا هذه، باعتباره أن الواقع السائد الذي سردنا بعض مظاهره الحاصلة فعلا وحقيقة، هو من فعل الأنظمة الحاكمة التي مصلحتها في التشرذم، لكن الشعوب العربية وحدوية و تريد الوحدة وتسعى إليها...

وأرى أن رصد الواقع السائد بين هذه الشعوب فعلا، وبعيدا عن الأماني وأوهام الرغبات الذاتية، يجعلني أجزم أن الشعوب العربية أيضاً، ليست مع الوحدة العربية ولا تسعى إليها ولا ترغبها ولا تعمل من أجلها، وليست في برامج أية أحزاب شعبية عربية سوى كلمات نظرية أو مجرد ظاهرة صوتية كما هو واقع الشعوب وأنظمتها. الواقع السائد والممارس يقول ويعلن صراحة لا مواربة فيها: لا يوجد تكتل بشري واحد اسمه(الشعب العربي)رغم عامل اللغة والدين المشترك، الموجود فعلا مجموعة(شعوب عربية) تنطق بلسان واحد، ويدين أغلبها بدين واحد هو الإسلام، رغم تعدد مذاهبه تماماً على غرار تلك الشعوب التي تقطن القارة الأوربية، التي تسمى ( الشعوب الأوربية ) و يدين أغلبها بالديانة المسيحية، ولا يوجد بينها عامل اللغة المشتركة، كما هو حال الشعوب العربية، ورغم ذلك فإن الشعوب الأوربية تسير بخطى حثيثية نحو الوحدة والتكامل، كانت آخرها طرح (اليورو) كعملة أوربية موحدة للتداول في نهاية عام 2000، وفتح الحدود نهائيا بين خمسة وعشرين دولة للتنقل بدون جواز سفر، فلماذا تسير الشعوب الأوربية بدون لغة مشتركة نحو التفاهم والتكامل وفتح الحدود نهائيا أمام مواطنيها، والشعوب العربية رغم اللغة المشتركة تسير نحو عدم التفاهم والقطيعة، وتزداد الحدود بينها صلابة ورسوخاً، ويندر أن تجد دولة عربية لا تطلب تأشيرة دخول مسبقة من أغلب الشعوب العربية لدخول أرضيها، غير ناسين أن المواطن الفلسطيني ممنوع من دخول أية دولة عربية دون تأشيرة دخول مسبقة، بما فيها الأقطار التي يحمل وثائق سفرها مثل لبنان ومصر.

إن رصد ما تقوم به الشعوب العربية - رغم وجود عاملي اللغة والدين- يؤكد ما نراه من أنها شعوب لا تسعى نحو الوحدة، ويكفي التذكير ببعض المآسي التي شهدتها بعض تلك الشعوب على يد أبناء شعوب أخرى، خلال الثلاثين عاماً الماضية، لندرك أن كافة الحروب العربية- العربية التي أشرنا لبعضها سابقاً، كان مادتها الفاعلة ووقودها المشتعل، أبناء الشعوب العربية ذاتها ولم نسمع أن عددا من هذه الشعوب تمرد على أوامر الأنظمة التي أشعلت تلك الحروب وخططت لها، وبعكس ذلك كانت أفعال أبناء الشعوب العربية ضد أشقائهم تحمل من الأهوال ما لا يمكن تصوره..وهل يحتاج من يؤمن بالقومية والوحدة العربية إلى أمثلة؟
1- أن الطريقة التي عامل فيها أبناء الشعب العربي الليبي أشقاءهم وجيرانهم أبناء الشعب العربي المصري، عقب زيارة أنور السادات لإسرائيل عام 1979، لا يمكن وجود مثيل لها في كتب حروب ومغامرات وقراصنة القرون الوسطى. تم آنذاك طرد ألاف من العمال والموظفين المصريين، ونهبت بيوتهم وصودرت ممتلكاتهم، وكانوا يحشرون في مطار طرابلس القديم في العراء عدة ليال في انتظار الطائرات التي تعيدهم إلى مصر، ويتذكر الجميع أن موضوع ممتلكاتهم ومستحقاتهم المالية،ما زال معلقاً حتى الآن وقد وصلت دعاوي التحكيم فيه إلى منظمات عالمية منها منظمة العمل الدولية..وكل ذلك تحت قيادة العقيد القذافي الذي يحلو له أن يسمي نفسه رائد القومية العربية. وقد عاد أبناء الشعب العربي الليبي أنفسهم وتحت نفس القيادة بتكرار نفس الأهوال ضد أشقائهم من أبناء الشعب الفلسطيني في نهاية عام1997، عندما جمعوا غالبية العائلات الفلسطينية المقيمة والعاملة في ليبيا، وتم طردهم عبر الصحراء نحو مصر حيث رفضت مصر دخولهم أراضيها، فأقاموا على الحدود في خيام بالية عدة شهور، تحت رحمة وكالات الغوث الدولية، وقد مات منهم ومرض عشرات في العراء، وفي بداية عام1998 وبعد ضغوط دولية،اقتحمت قوات الأمن الليبي خيامهم، وأعادتهم إلى ليبيا بشكل خال من الإنسانية وروح الأخوة العربية التي يرى أنصار ودعاة الوحدة والقومية العربية أنها سمة الشعوب العربية.

2-الطريقة التي تعاملت بها القوات السورية عند دخولها لبنان عام 1976 مع أفراد المنظمات الفلسطينية وعموم أبناء الشعب الفلسطيني في لبنان، وجرائم الجيش السوري وتعدياته في لبنان لا يمكن تخيلها، وقد نتج عن ذلك قتل عدة مواطنيين سوريين، بعد انسحاب الجيش السوري الأخير بشكل فرار مذل بعد الضغوط الدولية والمظاهرات اللبنانية.

3-المجازر التي ارتكبها مئات من أبناء الشعب اللبناني ضد أشقائهم من الشعب الفلسطيني، أثناء ما سمي (مجازر صبراوشاتيلا) عام1982 وقبلها مذابح حصار وتدمير مخيم تل الزعترعام1976.

4-التدمير والتخريب الذي قام به أبناء الشعب العراقي من جيش صدام، في دولة الكويت العربية أثناء احتلالها في أب1990 وعند طردهم منها بعد شهور قليلة. لقد نهبوا الجامعات والمستشفيات والبنوك والمتاحف والأسواق والمخازن ونقلوا محتوياتها إلى بغداد، كما حرقوا أبار النفط، وكانت خسائر الكويت من جراء ذلك عشرات المليارات من الدولارات ومئات من القتلى والأسرى والمفقودين.

5. ألاف مؤلفة من عدة شعوب عربية، رقصت مبتهجة في الشوارع لاحتلال صدام لدولة الكويت، متناسية أنه احتلال لأرض شعب عربي، وما زالت ألاف مؤلفة من هذه الشعوب ومن ضمنها كتاب وصحفيون وسياسيون يمجدون صدام حسين الذي ارتكب بحق الشعب العراقي من الجرائم التي لا يمكن وصفها أو تبريرها بأي منطق.

6. سقوط صدام ونظامه الذي كان فرحة عارمة لدى الغالبية العظمى من العراقيين، هو نكبة لبعض الشعوب العربية، بدليل أن غالبية الانتحاريين الإرهابيين في العراق هم من خارج الحدود ومن عدة شعوب عربية بعضها لا حدود مشتركة له مع العراق.

7. ماذا تفعل الشعوب العربية كافة غير الفرجة على الجرائم البشعة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني خاصة في الأسابيع الماضية؟. وبالإضافة لذلك فهناك شامتون من العرب وفرحون لهذه الجرائم بحجة أن هناك فلسطينيون أيدوا احتلال صدام للكويت وبعضهم ما يزال يمجد الرئيس المؤمن صدام.

إن ما يجب تقريره بخصوص حالات العداوة بين الشعوب العربية - التي أشرنا لبعضها فقط - هي حالات اعتداء على شعب شقيق لا دخل له بسياسة الأنظمة التي كانت سببا لحالات العداء والاعتداء..فلا دخل للشعب المصري الذي طرده الليبيون وصادروا ممتلكاته عام1979 بزيارة أنور السادات إلى إسرائيل، فالسادات كرئيس دولة لم يستشر شعبه ولم يجرّ استفتاءاً على تلك الزيارة وكذلك القيادة الفلسطينية لم تأخذ رأي الشعب الفلسطيني في اتفاقية أوسلو التي وقعتها مع إسرائيل عام 1993..فلماذا يتحمل مئات الآلاف من العمال والموظفين المصريين والفلسطينيين في ليبيا،هذه المعاملة السيئة بسبب سياسات لا علاقة لهم بها....هل هناك تفسير لهذه العداوات المريرة بين شعوب يقال إنهم ينتمون إلى أمة عربية واحدة؟. و بعد كل هذه الأعمال والممارسات من أبناء الشعوب العربية ضد بعضهم البعض،هل يصمد القول بأن الأحقاد والمؤامرات والفرقة هي من أعمال الأنظمة العربية الحاكمة فقط؟..أم أن أداتها المنفذة ووقودها المشتعل هم نفس أبناء الشعوب العربية!!. ولنقلها صريحة: إذا أجرينا استفتاءا نزيها محايدا في كل قطر عربي على حدة، للإجابة على سؤال: هل أنت مع الوحدة العربية الشاملة، بمعنى فتح الحدود نهائيا بين كل الأقطار العربية، واعتبار كافة الأقطار العربية بلدا واحدا بجواز سفر واحد وثروة واحدة للجميع بالتساوي؟ كم قطر عربي سيصوت شعبه ب نعم ؟. أكاد أجزم أن غالبية الدول الغنية ذات التعداد السكاني المحدود، ستكون إجابة شعبها : لا. ولن يصوت ب نعم إلا بعض الشعوب الفقيرة ليست حبا في الوحدة العربية، ولكن أملا في نسبة من الثروة لتحسين حياتهم المعيشية، في حين أن دول الوحدة الأوربية الغنية، دفعت عشرات المليارات للدول الفقيرة لتحسين وضع مواطنها قبل دخول معاهدات الوحدة الأوربية.

إزاء هذا الواقع هل من المفيد استمرار العيش على وهم ( أمة عربية واحدة )، أم الأجدى أن نعترف بأننا شعوب عربية متنوعة على غرار الشعوب الأوربية، التي لم يمنعها هذا التنوع من الوصول إلى تنسيق مشترك في كافة المجالات هو أقرب إلى الوحدة الحقيقية، بينما نحن قادنا ذلك الوهم إلى مزيد من الفرقة والتشتت والعداوة،. إذن ما البديل ؟. هذا ما سندرسه في الحلقة الثانية.
ahmad64@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف