نهاية العراق من دون شهادة وفاة! (1/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كتاب يطالب بشهادات ميلاد لثلاثة كانتونات؟
مقدمة لدراسة نقدية
دعوني اليوم اقدم محاولة لقراءة نقدية في كتاب بيتر غاليبيرث الذي صدر قبل ايام بعد ان سمعنا به ومن قبل مؤلفه عنه قبل شهرين والكتاب بعنوان: نهاية العراق: كيف عجز الامريكيون في خلق حرب بلا نهاية " (= The End of Iraq: How American Incompetence Created A War Without End, New York: Simon amp; Schuster: Rockfeller, 2006) لقد صدر الكتاب قبل ايام في كل من نيويورك ولندن وتورنتو وسدني، بعد انتظارنا له منذ شهور، ويسجل مؤلفه جملة من افكاره واخباره وآرائه وذكرياته في العراق، ويلخص في عمله نهاية العراق على ايدي الامريكان بعد ان تتّبع طبيعة تطور المشكلات العراقية منذ مجيئ البعثيين الى السلطة عام 1968 وتكريس هيمنتهم في الحكم منذ العام 1970 وانتهاء باخبار العراق في الشهور الاولى من العام 2006 وهو يترنّح اليوم ليسقط نهائيا اذ ينبغي - كما يتوّقع صاحب
الفوضى العراقية: صناعة امريكية
ان بيتر غاليبيرث يعترف بأن ثمة مسلسل او سيناريو امريكي لجعل العراق وقد وصل الى هذه الدرجة المتدنية من التمزق وهو ينتظر ان تمنحه الولايات المتحدة الامريكية شهادات ولادة لكيانات ثلاثة تنبثق عن اوصاله المتقطّعة! ويشّخص في كتابه معالم تلك التي سمّاها بـ "الجريمة الكاملة" التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في العراق! وان الاستراتيجية التي أقرها وصنعها ونفّذها ساسة وخبراء ورجال مخابرات لم يتعّرف بعضهم على ماهية العراق ولم يتمرسوا على الاداء الخارجي وهم جماعة من الفاسدين الذين أسندت إليهم المهام الخطيرة نظرا لما لهم من ولاء للمحافظين الجدد. وعليه، فبقدر ما نجحت خططهم في جعل العراق بؤرة مخربة تصلح عشا للدبابير لتجمع الارهابيين، فلقد فشلت في الحفاظ على نسيج الوحدة الاجتماعية الهش في العراق! يقول بيتر غالييرث: " لقد رجعت الى واشنطن في شهر مايو 2003، وبقيت قرابة الساعة في البنتاغون بمعية بول ولفيتس Paul Wolfowitz وانا اوجز له ما رأيته وشاهدته في العراق.. وقد غضب مني نظرا لواقعيتي وصراحتي وانتقاداتي لما جرى.. ومنذ تلك اللحظة اقفل بول ولفيتس وطاقمه تلفوناتهم معي وقطعوا أي اتصال بي، وبعد ذلك بخمس شهور غادرت عملي في الحكومة الامريكية.. " (ص 113).
من هو بيتر دبليو غاليبيرث؟
هو سياسي واداري ودبلوماسي امريكي، وأحد أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأمريكي في عقدي الثمانينات والتسعينات الماضيين مما سمح له أن يطّلع من حيث موقعه على الكثير من التقارير والاوراق والخطط والوثائق السرية، التي كانت تقدم للكونجرس ولا تذاع ابدا على الرأي العام. وكان قد خدم غاليبيرث في إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون كسفير لواشنطن في كرواتيا، بعد أن شهد بنفسه انهيار يوغوسلافيا، التي يقول إنها تشبه إلى حد كبير العراق من حيث التباين المذهبي والطائفي ـ وهنا لا اتفق معه ابدا فالعراق هو غير يوغسلافيا من الناحيتين الاستراتيجية الجغرافية والاجتماعية الثقافية وساحاوره في هذا المقال لاحقا في مثل هذه المقارنة الفاشلة ـ. كما أنه كان أحد مهندسي اتفاق وقف إطلاق النار هناك. ومنذ ان ترك غاليبيرث الخدمة زار العراق عشرات المرات ككاتب معروف وصحفي مستقل وكمستشار لشبكة ايه. بي. سي. نيوز الأمريكية، وقام بتغطية حرب تحرير الكويت ثم رافق الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وارتبط بعلاقات قوية مع البعض من الساسة والقادة العراقيين الجدد الذين يظهرهم معه في عدة صور (انظر: كتابه)، ويسجّل العديد من ارائهم وافكارهم واقوالهم ويعّلق عليها وعلى ساسة عراقيين آخرين، ومنهم السادة: احمد الجلبي واياد علاوي وجلال الطالباني ومسعود البارزاني وغيرهم..
كتاب نهاية العراق
المضامين:
يتألف من احد عشر فصلا وبعض الملاحق المهمة.. واعتقد ان المؤلف قد نجح في ايصال ما تضمنته فصوله في قصة كتابه المثير الذي ربما اتفق مع ما تضمنّه بعض من افكاره ومعلوماته، ولكنني اختلف مع كل ما تضمّنه من نتائج واستنتاجات لا تعكس مصالح العراقيين الحقيقية..
1/ البداية:
يحكي بيتر غاليبيرث قصة العراق باختصار منذ ان تفاقمت ازمة العراق مع كل من الاقليم والمحيط وهو ينطلق من فصله الاول (= موعد في سامراء) الذي يعتبره نتيجة تاريخية وحصيلة ما عاشه العراق من حروب وويلات على امتداد ربع قرن من الزمن فتأخر كثيرا مقارنة بتحولات العالم المذهلة، وقد تحوّلت مشاكل العراق الاقليمية الى تدخلات دولية سافرة.. يبدأ المؤلف من نهاية مأساة العراق قبل اشهر ليمتد نحو الماضي معالجا المشكلات التي تراكمت عبر الزمن ابان حكم النظام السابق والتي انتجت هذا الطوفان الذي لا يليق ابدا لا بالعراق ولا بالعراقيين.
2/ من السكون.. الى العاصفة
اذ يرجع في الفصل الثاني (= السكون) الى 22 سبتمبر 1880 عندما اندلعت الحرب الشعواء مع ايران وايامها المأساوية، وفي الفصل الثالث (= لقد حدّق في شعبه) يتضّح لنا التمادي في تلك الحرب القاسية والدور الزئبقي الامريكي وخصوصا في ادارة رونالد ريغان من خلال تسليح ايران وانفضاح الدور في ايران غيت حتى لتصبح تلك الحرب المأساوية حربا منسية لم تقض على أي من النظامين القويين في ايران والعراق.. في الفصل الرابع (= الانتفاضة) تندلع ازمة الكويت ويؤكد المؤلف هنا على الدور الامريكي الخفي، وخصوصا من خلال ما دار بين السفيرة غلاسبي وصدام حسين، ومفاجئة العالم بغزو الكويت وتشبثه بها، ثم اندلاع الحرب ضد العراق وهزيمته وانسحاق الجيش العراقي وانهيار البنية التحتية للعراق واندلاع الانتفاضة التي ساهم في تشجيعها الامريكان ثم خذلوا العراقيين، ليتمّ سحقها من قبل صدام حسين من خلال معلومات سرية..
3/ الغطرسة والجهالة تقود الى الجحيم:
في الفصل الخامس (= المتغطرس والجهالة) لم يستفد صدام حسين بكل عنجهيته وغطرسته من الدروس والتجارب، وبقي لا يدرك من يكون ولا الى اين سيكون ولا يعرف صناعة قراراته.. هذا الفصل الذي يبدأ بعد احداث سبتمبر 2001 من خلال الدور الذي يلعبه كل من احمد الجلبي والاكراد في 29 يناير 2002 ويتألب الى حين الفصل السادس " الآثار " في الحرب على العراق وسقوط نظام صدام حسين وآثار السقوط، ومن ثم السياسة الخاطئة التي اتبعتها الولايات المتحدة منذ اللحظة التاريخية لسقوط النظام وبداية اعمال العنف في الفلوجة بعد اعمال السلب والنهب وتدمير المتحف العراقي والمكتبة الوطنية والمؤسسات المركزية باستثناء وزارة النفط وحمايتها.. وهنا ادانة كاملة للسياسة الامريكية التي سمحت باندلاع الفوضى لتجّر من ورائها شبح العنف من دون أي ضوابط ولا روابط.. اذ بقي العراق ولم يزل سائبا معطلا ولم تعرف الاسباب الحقيقية الا لاحقا من خلال التحليلات التي ينتقد اصحابها فيها ما اتبعه الامريكان في العراق.
4/ زمن الفوضى:
ينتقل بعد ذلك الى الفصل السابع " لم تتم الاحاطة بأي شيئ " ويسجل رؤيته لكل من غاي غارنر وبول بريمر وفشلهما من نظر العراقيين في ادارة العراق ونجاحهما (وخصوصا بول بريمر) من نظر الامريكيين المحافظين الجدد في خلق الازمات وادارة اعمال العنف وترتيب ما يمكن تسويقه على عجل من ديمقراطية وحكومة منتخبة ودستور دائم! انه ينتقد غارنر، ولكن يقف وقفة مطولة عند تجربة بول بريمر لينتقدها نقدا لاذعا، ويوّضح عقم اختيار بريمر لادارة شؤون العراق في احرج فترة تاريخية كان يمر بها العراق.. يقول: " بريمر لم يعرف العراق ابدا، ولم يزره قط من قبل.. لم يتكلم العربية ولم يخدم ابدا في في اطار ازمات العراق.. لم تكن لديه اية تجارب في البناء الوطني.. وقد قضى اقل من اسبوعين فقط ليقرأ جدوله الجديد قبل ان يصل العاصمة بغداد في 12 مايو / ايار 2003 " (ص 118). وهنا ينبغي علينا ان نتوقف كي نشارك المؤلف اسئلته، وهي اسئلة معّبرة وحقيقية وكأن المؤلف يريد القول بأن هناك من الامريكيين من له القدرة على ادارة شؤون العراق افضل بكثير من بول بريمر.. بل وانني اتلمس في المؤلف وهو يقارن بطريقة غير مباشرة بينه وبين بريمر من حيث ما ذكره.. وهنا نستنتج منذ اللحظة الاولى لوصول بريمر انه اداري فاشل وكان سببا في تراكم مشكلات لا حصر لها!
5/ كردستان العراق:
منتقلا الى الفصل الثامن (= كردستان) وهو يحكي لنا عن اقليم كردستان ورؤيته له منطلقا من الدور الامريكي وتأثيره في اذكاء الصراع الداخلي في العراق منذ بيان 11 آذار/ مارس 1970 وزيارة كل من نيكسون وكيسنجر ايران وتزويد الشاه محمد رضا بهلوي بالسلاح في دعم التمرد الكردي ـ كما يسمّيه ـ ورفض العرض العراقي في العام 1974 مما يضطر العراق من خلال صدام حسين الى ان يتفق مع الشاه في 6 آذار / مارس 1975 لسحق الاكراد في مؤامرة دولية تهندسها الولايات المتحدة وتربح ايران نصف شط العرب على حساب قضية قومية عراقية كان بالامكان حّلها داخليا بابسط الوسائل! واخيرا، تستقل الادارة الكردية في التسعينيات بعد هزيمة العراق 1991 لتغدو اليوم على قاب قوسين او ادنى من الاستقلال وتحقيق حلم الاكراد لولا البعبع التركي الذي له حسابات استراتيجية تتلاقى مع ايران اليوم حول هذا الشأن، والتي تبحث عن مصالحها فقط برغم كونها عمقا للاكراد في تهديد العراق ماضيا!
6/ الحرب الاهلية والحل السريع!
وفي الفصل التاسع (= الحرب الاهلية) يتوغل المؤلف في ظاهرة الحرب الاهلية بين السنة والشيعة في العراق والتي خلقتها الادارة الامريكية باذكاء روح الانقسام السياسي المؤسس على الروح الطائفية التي تجد في المجتمع العراقي كل مادتها فالانقسام الطائفي هو الذي ولّد الانقسام السياسي وموجة العنف الرهيب.. ولم تأل الولايات المتحدة جهدا في بث معلومات كاذبة مكرّسة الانقسام بشكل فاضح بين السنة والشيعة العراقيين. وفي الفصل العاشر (= ثلاث دول: هو الحل!)، يحدّثنا بيتر غاليبيرث انه كان يشرب الشاي في غرفة ملاصقة لغرفة كبيرة يجتمع فيها الشيعة والسنة العرب مع مسعود البارزاني في 22 آب / اغسطس 2005 وسمع الاصوات ترتفع والغضب يعلو بين الطرفين السنة والشيعة في اقرار مواد الدستور!! (ص 191) ويتوقف المؤلف عند لعبة ما يسمى بالانتخابات والديمقراطية العراقية وكيف نجحت امريكا في بلورة الانقسامات الى واقع دستوري عندما كّرست دستور لا يستحقه العراق في 22 آب / اغسطس 2005 مما زاد في اشتعال العراق الذي لم يعد ابناء العراق ينشغلون بما هو خارج عليهم، اذ يأكل بعضهم البعض الاخر في الداخل من دون أي حلول عملية امريكية لهكذا وضع شاذ والقادة الجدد منهم من انزوى وابعد ومنهم من لاذ بالفرار ومنهم من جلس في السلطة ولا حول له ولا قوة.. وتدرك الولايات المتحدة حجم هؤلاء العراقيين الذين ليس لهم أي نفوذ او سلطة او قوة وهي لا تهتم ابدا لمن يسرق او يختلس او ينهب او يصلح او يقتل او يهرب.. المهم انها حقّقت الاهداف التي رسمتها..
7/ شهادات ميلاد!!
وفي الفصل الاخير (= كيف يتحقق الخروج من العراق) الذي يعتبر خلاصة جولة او نهاية عقدة او قفلة موضوع يسجل المؤلف اراءه في التجربة العراقية المريرة وقد تبلورت قناعته بأن لا حياة للعراق السابق ابدا، وهو ينطلق من المقالة التي كتبها رامسفيلد في الواشنطن بوست يوم 19 آذار / مارس 2006 وان المخرج من العراق، أي من العراق القديم يتم بتقسيم العراق الى ثلاث اوصال يقترح على الادارة الامريكية اخراج ثلاث شهادات ميلاد لكل من الكانتونات الثلاثة!
سيناريو التقسيم: الكارثة المرعبة
يرسم غاليبيرث سيناريو يعتقد انه واقعي لمستقبل العراق وانه المخّلص للعراقيين من انقساماتهم، اذ يرى ان لا مستقبل للعراق الذي انتهى حّقا، الا بولادة ثلاث دويلات: الاولى كردية في شماله وهي موالية للغرب، والثانية شيعية في الجنوب موالية لايران.. والثالثة من العرب السنة في الوسط وتعمها الفوضى وهي موالية للعرب برغم ان رؤيتها ستحدد مستقبلا. انه يقول بأن كتابه يعد كشف حساب للتورط الامريكي في العراق قائلا: " ان خطايا السياسة الامريكية قد جعلت العراق ينجرف وهو ينزف دما بلا توقف ليفتح الباب على مصراعيه امام حرب اهلية لم يشهد العالم لها مثيلا من قبل " ويستطرد قائلا: " اذا كان ثمن وحدة العراق وجود دكتاتورية اخرى، فان هذا سيكون ثمنا باهظا فاحش الغلاء " (ص 19). وهنا، لا ادرى لماذا خرج المؤلف بهذا البديل الاحادي، وكأنه يقول بأن العراقيين امام خيارين: فاما التقسيم واما الدكتاتورية.. وكأن العراقيين لا يدركون خطورة الاثنين على مستقبلهما، فلا التقسيم يصلح للعراقيين، اذ انه سيبقيهم يتناحرون دهرا طويلا حتى يتشرذم وطنهم اقليميا بين تركيا وايران نظرا لصراع هاتين الدولتين تاريخيا على العراق.. ولا الدكتاتورية قادرة بعد اليوم على ان توحّدهم، فلقد انفلتت كل قوتهم باتجاهات مختلفة وبطريقة متشظية لا يعرف لها أي ركود او حدود..
الحرب المفتوحة
يقول غاليبيرث: "إن الأمريكيين يخوضون الآن في العراق حرباً مفتوحة يمكن أن تستمر مائة عام، وإن سياساتهم التي أعقبت غزوهم واحتلالهم لهذا البلد قد مزقته إرباً اربا، وإنه لم يعد بمقدور الأمريكيين ولا غيرهم إعادة تجميعه، وإن حرباً أهلية مدمرة ستكون عنواناً للسنوات المقبلة، حتى تستقر عملية التقسيم، ويتم الانتهاء من ترسيم حدود هذه الدويلات، وكتابة شهادات ميلاد العراق الجديد ". وانا اقول، الامر ليس بهذه البساطة ان تبقي العراق مائة سنة في حرب مفتوحة مع الامريكان، وكأنه يقول بأن الامريكيين لهم القدرة على البقاء مائة سنة في العراق! وماذا بعد؟ هل باستطاعة المؤلف ان يكون بعيد النظر قليلا، فكيف باستطاعة العراق وقد غدا اربا اربا ان يبقى مائة سنة في حرب مع الامريكيين؟ وهل باستطاعة الامريكان اعادة تجميع العراق بعد ان دمّروا كل شيئ فيه؟ ولقد ثبت للعالم اجمع ان الحرب الاهلية العراقية التي راهن عليها الامريكيون لم تقع بالصورة التي يتخيلونها.. واذا ما حّل التقسيم بالعراق، فانني اعتقد بأنه سيكون رغم انف العراقيين وحتفهم، فالعراقيون اليوم قد انقسموا ازاء مسألة التقسيم، فمن له الوعي بالتاريخ والتحسس بالمستقبل لا يقبل التقسيم ابدا.. ومن ترّبى على كراهية العراق والعراقيين، فهو من المؤيدين للتقسيم.. العراقيون منقسمون اليوم بين من يريد الحفاظ على هويته ووطنيته العراقية وبين من يريد ان يصنع له هوية جديدة ووطنا بديلا.. وربما يكون هؤلاء لا يدركون مخاطر ما يؤمنون به والكارثة التي ستلحق بكل العراق والعراقيين اذا ما حّل التقسيم بالعراق؟
العراق ازاء مستنقعات تفيض بالدماء!
ان المشكلة يدركها عدد من القادة والزعماء والخبراء والعلماء العراقيين، وهناك من الامريكيين من ينتقد الزعماء الامريكان على سياستهم بابقاء العراق موحّدا، اذ يرون ان من الصواب تقسيم العراق مباشرة منذ العام 2003، ولكن الادارة الامريكية لم تفعل ذلك خوفا من تبعات ذلك مرحليا.. واليوم، اذا ما حّل التقسيم بالعراق، فبدل المستنقع الدموي الواحد ستجد الولايات المتحدة نفسها والعالم كله امام مستنقعات دموية عراقية تفيض بالدماء خصوصا اذا كانت تبني استراتيجيتها في العراق على معلومات خاطئة جملة وتفصيلا.. خصوصا وانها لم تحّصل على اهدافها الا بالطريقة التي تراها قياسا الى مصالحها العليا والتي يجهلها كل العالم. ويقول غاليبيرث في كتابه ما نصّه: " إن الولايات المتحدة التي غزت واحتلت العراق بهدف معلن هو تحويله لبلد ديموقراطي كنموذج يمكن تعميمه في الشرق الأوسط، ولكنها قد دمرته تماماً ودفعته بسياساتها المجرمة نحو تقسيم لا مفر منه، برغم أنه كان مؤهلاً له، إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال موالية للغرب وشيعية في الجنوب موالية لإيران وسنية في الوسط بلا هوية تعمها الفوضى ".
هذا تبرير غير مقبول يا غاليبيرث.. ربما اتفق معك بالهدف المعلن الذي خدع اغلب العراقيين، فلا يمكن ان نسّمي كل السيناريو الحاصل انه منتج للديمقراطية! واعتقد بأن العالم ليس من السذاجة بمكان ليصدّق الاكذوبة التي فضح بها الامريكيون انفسهم، فالعالم يعرف ما الديمقراطية ويدرك مستلزماتها.. وتدرك الظروف العراقية الصعبة التي لا يمكن من خلالها تطبيق أي ممارسة ديمقراطية شفافة في العراق والناس يقتلون ويذبحون في الشوارع والاسواق والحارات والبيوت.. ولقد التقت طموحات العراقيين الطوباوية الصادقة باكذوبات المحتلين المخادعة ولكن بعد ان مات الحلم لدى العراقيين المستنيرين الاحرار ببناء عراق حر حضاري مسالم وغني مزدهر.. وهنا يطالب غاليبيرث واشنطن بأن تعترف بخطيئتها وتسلم بأن "لا شيء سيعيد توحيد العراق، وتنتهي سريعا من ترسيم الحدود الجديدة وتحديد الذي سيحكم طبيعة العلاقات بين هذه الدويلات".
هنا اقول للمؤلف، كلا ابدا، ان مشكلات العراق والعراقيين سوف لن تنتهي ابدا ان بقيت الولايات المتحدة الامريكية ودول الاقليم المحيط يتدخلون في الشأن العراقي.. وان الذي سيعيد توحيد العراق عدة عوامل داخلية وخارجية، منها: عدم التدخّل السياسي الخارجي الدولي والاقليمي في الشأن العراقي، والعمل على وأد بؤر الارهاب التي صنعت في العراق، والفصل بين السلطات بادارة مدنية لا علاقة لها بالدين او المذهب او الطائفة، وتطبيق القانون وردع كل من يجني بحق العراق والعراقيين..
مصالحكم الامريكية ليست على حساب مصالحنا العراقية!
يستطرد المؤلف قائلا: أن "معالم الدولة في العراق قد تلاشت في العراق رويداً رويداً منذ الغزو ليس بسبب الإطاحة بالنظام ولكن بتفتيت جميع مؤسسات الدولة وأن التقسيم هو المخرج الوحيد لأمريكا من العراق". ويقول: "علينا تصحيح استراتيجيتنا الحالية لأن محاولة بناء مؤسسات وطنية أو قومية في بلد دمرنا فيه كل أسس ومقومات الدولة ليس سوى جهد ضائع. ولا يؤدي إلى أي شيء سوى الإبقاء على الولايات المتحدة في حرب بلا نهاية " (ص 160). صحيح حصول ذلك التلاشي ولكن التقسيم ليس هو المخرج الوحيد لامريكا من العراق، فكما تريد الحفاظ على مصالحك الامريكية، فليس معنى ذلك انه سيكون على حساب مصالحي العراقية، واذا انت لا تدرك معنى ان يكون العراق موحدّا، فان العراق هو غير امريكا.. ان العراق يقع بين دول مفترسة، فهو الموّحد لم يستطع الخلاص من شرورها، فكيف به وقد انقسم الى ثلاث اوصال لن تكون في الغالب الا كانتونات هزيلة تعيش برعاية الولايات المتحدة ووصايتها.. واعتقد ان غالبية العراقيين لم يعد يثقوا بالامريكيين ابدا.. بمن فيهم الاكراد، والمؤلف نفسه يكتب كيف زار بول بريمر كردستان في مايو / ايار 2003، وكان برفقة الاخ مسعود البارزاني وهو يطلعه على بورتريهات تخص الزعيم التاريخي الراحل الملا مصطفى البارزاني، فسأل بريمر متعجبا من دون ان يدرك وهو تلميذ كيسنجر ما رد الاخ مسعود عليه اذ قال لبريمر: الملا مصطفى البارزاني تعّلم الطريق الصعب ليس من خلال المساعدة الامريكية (ص 148)! وهذا ليس درسا يمكن ان ينساه ابنه.. واعتقد ان الاخ مسعود قد تعمّد ان يطلع بريمر على بورتريهات تاريخية كي يذكره بما حصل من قبل الامريكيين ازاء الحركة الكردية قبل ما يقارب الثلاثين سنة!
ترقبوا الحلقة الثانية
www.sayyaraljamil.com