محاولة في تشريح الطائفية في العراق! (1/4)

كان يمكن رؤية تصاعد حمى الجدل والتراشق بين قادة ورجل دين في الطائفتين الشيعية والسنية في العراق بعد سقوط النظام كحمى الجسد دليل حياة وحيوية لا دليل موت أو انهيار. لكن هذا قد استحال محض أمنية عندما أخذ طوراً رهيباً يذكر بتقلباته الدموية في العهد العثماني المتأخر، حيث كانت الطائفة توقع بالأخرى المجازر والانتهاكات الفظيعة، وكل جولة تحصد مئات الآلاف من رؤوس الشيعة والسنة ولم تكن تسلم فيها قبور أئمة وفقهاء الطائفتين من النبش والتدنيس، كانت تلك المآسي المفزعة تحدث في العراق مرة بتأجيج من العثمانيين في تركيا، ومرة بتأجيج من الصفويين في إيران، بينما كان يمكن للجدل الطائفي لو ظل في إطار العراق وإمكاناته الثقافية والروحية بعيداً عن تدخل مراكز خارجية لدى قادة في الطائفتين أن لا ينحدر لهذا الدرك الوحشي الدموي، ولا يستحيل لطائفية مدمرة، وربما بقي دليل حياة وحيوية في تعايش الطائفتين بسلام ولتطور نحو أوضاع تكفل الحلول العادلة لمشاكل الطائفتين ضمن الهوية العراقية!

يمكن أن يتلمس المتتبع بسهولة أن ثمة فتنة من الخارج في كل حريق طائفي يندلع في العراق، ليس لأن أهل العراق غير طائفيين، أو إنهم خلافاً لما يقال عنهم غير عنيفين بطبعهم بل لأنهم إذا تعلق الأمر بهم لا يحتاجون كثيراً للمفردات الطائفية في صراعاتهم العامة والسياسية خاصة.فلديهم تراث حضاري معقول يمكن أن يصنع طرائقهم للوصول إلى بعضهم أو للافتراق عن بعضهم! لقد كان أهل الجوار وخاصة إيران وتركيا تحتاجان الصراع الطائفي بينهما أكثر من أهل العراق، وفيهما مراكزه ومفاتيح اشتعاله فيخوضونه عنيفاً مدمراً بينهما دون أن يخسرا فيه قطرة دم واحدة، إذ كان يجري على حساب العراق، وقلبه هو الذي ينزف دماً ودموعاً . وبعد أن انتقلت تركيا إلى العلمانية منذ أوائل القرن الماضي بقيت إيران هي المحرك الأقوى للصراع الطائفي وحسب مصالحها خاصة بعد أن اتسع التشيع في العراق من معتنقيه القليلين ليشمل اليوم أكثرية العراقيين لأسباب كثيرة كانت الممارسة العثمانية المتعسفة والضيقة لأربعمائة عام أحد أسبابها الرئيسية. قديماً كان الحريق الطائفي يشتعل داخل العراق فيتحول إلى حريق يتدفأ أو يهتدي بنوره أهل الجوار ممن يشعلونه، ويرقصون على وقع لهبه، حتى صح القول" نار في الدار ورقص في الجوار"، ولكن اليوم في ظل الترابط العضوي في الشرق الأوسط وقضاياه المفتوحة والمكبوتة لا بد أن تتحول الفتنة الطائفية في لحظة ما إلى نار في الدار والجوار، ولانفجار هائل لا بد أن يطال المنطقة كلها، ويؤثر على أوضاع العالم النفطية والأمنية!
ولكي نعرف ما يشتعل من الطائفية بنوايا ونزق أهل العراق وقلة بصيرة قادتهم وما يشتعل بأنفاس حاقدة وأيدي شر من خارج الدار لا بد من التعرف على ملامح الطائفية فيها لنرى كيف تعيث رياحها المسمومة في هذه الأرض المنطوية على أعمق ذاكرة، والزاهية بباسقات النخيل!

كما هي الطائفية شرسة ومراوغة في الواقع فإن ملامحها وسماتها شرسة ومراوغة أيضاً وتبدو عصية على القنص والتثبيت في أية دراسة أو ملاحظة ومع ذلك فهي من الجهة الأخرى غاية في السذاجة والبدائية، حتى ليبدوا تقصي عناصرها هبوطاً إلى ابتذالها ذاته! لكن متابعتها وتحليلها تظل مغامرة ضرورية وملحة جداً خاصة والوضع في العراق اليوم ينزلق لما هو أسوء، وإن مستقبل العراق كله أضحى مرتبطاً بحل المسألة الطائفية الشائكة والعالقة كالروماتيزم في مفاصله!

أولى تفجرات المسألة الطائفية اقترفها الأمريكان أنفسهم فقد دخلوا العراق وقد غيروا شعارهم من التحرير إلى الاحتلال ودون توازن طائفي ضروري لرفاقهم العراقيين في رحلتهم التاريخية إلى وطنهم بعد عقود طويلة من الغياب تغيرت فيه الناس والأرض كثيراً. أو بعبارة أوضح دخلوا مع قادة ورجال دين مسيسين من المعارضة ( إذا استثنينا الكرد السنة كحالة خاصة) هم في أكثريتهم من الشيعة. بعضهم جاء مع جيوشه وميليشياته المسلحة من إيران، والبعض الآخر جاء من لندن يحمل ما يسمى بإعلان شيعة العراق المتضمن نفساً انعزالياً واستفزازياً واضحاً، مع ما أشيع عن اتفاقات سرية غامضة لهم مع الأمريكان حوله! وهذا ما جعل التغيير التاريخي في العراق يبدو وكأنه خلع للسنة وتنصيب للشيعة عليهم، أي قلب آلي سريع للساعة الرملية! ورغم إن هذا لم يحدث في الواقع، أو لم يجد فرصة كاملة للتحقق، لكنه أصاب السنة في العراق بالذعر والقلق والتحفز كما أثار قلق ومخاوف الدول الإسلامية السنية المحيطة في العراق خاصة وهم يجدون أو يعتقدون أن ثمة وشائج عضوية بين معظم القيادات الشيعية الدينية في العراق بالنظام الإيراني ومشاريعه! لقد كانت هذه الطريقة المختلة في التعامل مع مكونات الشعب من قبل الأمريكان الخطأ الفادح الأول الذي لا يقل في خطورته وآثاره السيئة عن حل الجيش وأجهزة الدولة الأخرى! بل يمكن القول أن هذا الخلل في التعامل الطائفي هو الذي جعل خطأ حل الجيش وقوى الأمن والمخابرات وليس تحييدها مدمراً وفادحاً بهذا القدر الذي يتفجر فيه كل يوم. إذ أن الجيش وقوى الأمن والمخابرات والذي كان بقيادة سنية غالبة قد تحول إلى قوة فاعلة في الوسط السني أعدت نفسها للتصدي ومقاومة أي تسلط يراد أن يفرض عليهم من طائفة يعتقدون أنها مشحونة بالحقد عليهم ورغبة الانتقام منهم وبدوافع إيرانية متعلقة بالحرب السابقة، وحروب التاريخ الأخرى! ولكن هذا القلق في أوساط السنة أضاع الكثير من حقه ومشروعيته حين تبنى أو تمازج مع مشروع البعث المطاح به في محاولته اليائسة للعودة للسلطة وفي احتضانه للإرهابيين والتكفيريين وحثالات القاعدة وجرائمهم البشعة والتي يسمونها جهاداً أو مقاومة والتي راح ضحيتها عشرات آلاف العراقيين الأبرياء من الشيعة والسنة والتي هي فتن خبيثة متواصلة عمقت النعرة الطائفية لحدود قصوى وأوصلت العراق إلى حافة الحرب الأهلية!

ومع كل هذا يمكن القول إن الأمريكان لم يجلبوا الطائفية والطوائف إلى العراق على ظهور دباباتهم أو في حقيبة بول بريمر. كانت الطائفية وحبالها الممتدة خارج الحدود موجودةَ في أسس وجدران البيت العراقي شقوقاً وشروخاً وتصدعات ومنذ مئات السنين تظهر تارة وتختفي تارة أخرى وراء طلاءات وأصباغ و(كماشات قوة) وترميمات سطحية ولم يحدث إلا في فترات قليلة أن جرى العمل لإعادة بناء البيت العراقي بشكل صحيح متين، ومع ذلك كان يقطع عمل البنائين الطيبين بأيدي خارجية على الأكثر، مرة عثمانية، ومرة فارسية ومرة عربية وأجنبية بعيدة!

ما حدث هو أن هدير الدبابات الأمريكية أسقط الطلاءات والأصباغ عن الأسس والجدران في البيت العراقي فبانت الشقوق والشروخ الطائفية فبزغت أطماع وأوهام لدي المتربصين وقلق وإحباط وأمل ورجاء لدى المخلصين للعراق، واصطف الناس بين من يريد اقتسام الوطن إلى بيت شيعي وبيت سني، وبين من يريد الإبقاء على العراق بيتاً كبيراً للجميع!

وبعد أن أسفرت الطائفية عن وجهها بأفظع صورة كان من الطبيعي أن يستغلها بقايا النظام المنهار، بعد أن تمرسوا في استغلالها وهم في السلطة، وأن تستغلها جهات خارجية لها مصلحة في بقاء العراق في حالة صراع مع نفسه مما يعيق أمريكا من الانتهاء منه والالتفات إليهم. وأن تستغلها أمريكا نفسها في عملية إدارة وضعها في العراق، وقد ظهر ذلك جلياً في صياغتها لتركيبة مجلس الحكم، والذي لم يكن هناك داعٍ لقيامه أصلاً، رغم إن إشاراته التقسيمية سبقتها إشارات مماثلة في مجلس مصغر أعقب انقلاب 14 تموز عام 1958 سمي بمجلس السيادة وضم ممثلين عن السنة والشيعة والكرد. وهدف أمريكا من (تفكيك) (المسألة العراقية) واضح فوجودها في أرض غريبة يحتم عليها أن تكون ملمة ومساهمة في تشكيل مزاج أهل البلاد واصطفافهم وتوجهاتهم. وما يزال المبدأ الشهير " فرق تسد " مقبولاً وفعالاً حتى لدى دولة أعلنت أنها جاءت لبناء الديمقراطية في هذا البلد وساعدت على اتخاذ خطوات جدية في هذا الاتجاه، وإن كانت نتائجها حتى الآن عكسية، أو في الأقل جرت المزيد من التخبط مما خلق ثغرات نفذت منها أشباح الطائفية والقتلة الملثمون معاً!

يتبع