حضرة المحترم نجيب محفوظ العائش فى الحقيقة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"الحقيقة، اعبدوا الحقيقة عبادة، ليس ثمة ما هو أثمن ولا أجل منها فى الوجود، اعبدوها واكفروا بأى شيء يتهددها بالفساد". (نجيب محفوظ فى رواية "المرايا" على لسان إبراهيم عقل الإستاذ الجامعى يخاطب تلاميذه فى الجامعة)
تعرفت على نجيب محفوظ منذ سنوات طويلة، والفضل فى هذا يرجع إلى صديق العمر (محمد الكفراوى) ففى نهاية فترة المراهقة سألنى هل قرأت ثلاثية نجيب محفوظ lsquo; قلت له: "لأ"، فقال لى هل قرأت له أى شئ، قلت له: "لأ"، فقال لى: "ده إنت يومك مش فايت النهاردة، يجب أن تبدأ فورا قراءة نجيب محفوظ ولتبدأ بالثلاثية"، والحقيقة أننى إشتريت ملف رحيل نجيب محفوظ: مقالات، ذكريات ومتابعات من مصروفى الخاص (أيام كان المصروف الخاص يشترى كتبا)، الثلاثية وخان الخليلى، ومن هنا بدأت علاقتى بنجيب محفوظ، أو كما كنا نحب أن نطلق عليه (نجيب بيه)، وعندما بدأت قراءة الثلاثية فتحت لى عالما مسحورا بالرغم من واقعيته، وصفحات خفيفة الدم بالرغم من جديتها، ولفت نظرى إهتمامه بالتفاصيل مثل أى فنان يبدع لوحة، وإستمرت علاقتى به كعلاقة قارئ بكاتب من بعيد لبعيد، حتى تجرأت يوما وكلمته بالتليفون فى مكتبه بالأهرام حيث كان يذهب إلى هذا المكتب كل يوم خميس، وعرفته بنفسى قائلا:"أنا سامى البحيرى، بس ما فيش أى صلة قرابة بينى وبين سرحان البحيرى" (سرحان البحيرى هو أحد الشخصيات الإنتهازية فى رواية ميرامار")، فرد قائلا وهو يقهقه عاليا بضحكته الملعلعة: "أهلا إستاذ بحيرى"، وإستأذنت منه أن أحضر إلى مكتبه للتعرف عليه، وقال لى: "تعالى دلوقت أنا قاعد فى المكتب". وفوجئت بالبساطة والتواضع (وعرفت فيما بعد أن تلك هى إحدى صفات العبقرية فيه)، وذهبت إلى مكتبه وأنا أتوقع أن أقابل سكرتارية و(هلمة) ولكنى ما إن فتحت باب الغرفة حتى فوجئت (بنجيب بيه وجها لوجه)، وأخذنتى المفاجأة ولم أعرف كيف أبدأ الحديث، ونهض هو من مكتبه مرحبا بوجهه البشوش وضحكته الشعبية المخلصة، وسألنى أى خدمة ممكن أقوم بيها، فقلت له: "لأ أنا بس كان نفسى أشوفك" . فقال لى: "إنت ليه ما تشرفناش فى كازينو قصر النيل إحنا بنقعد هناك كل يوم جمعة من الساعة خمسة"، ولم أصدق أن (نجيب بيه) يعزمنى شخصيا على ندوته الأسبوعية من أول لقاء، ولكنه (نجيب بيه). وأصبح ميعاد الساعة الخامسة بعد ظهر كل يوم جمعة موعدا مقدسا لى لا بد من حضوره ما دمت فى القاهرة، وكنت أجهز لهذا الموعد كمن يقابل محبوبته لأول مرة، وأحرص على الحضور مبكرا حتى أحظى بكرسى أقرب ما يمكن بجوار (نجيب بيه)، وقد تعلمت ديموقراطية وأدب الحوار من نجيب بيه ومن ندوته، فقد كانت الندوة عبارة عن شريحة إجتماعية ثقافية، تجد هناك الشاب والكهل والفتاة والفتى، الكاتب والمهندس والطبيب والمحامى والشاعر والمدرس، وتجد الوفدى والأخوانى والشيوعى والناصرى وكل ألوان الطيف السياسى، وبعد جائزة نوبل أنضم إلى الندوة العديد من الأجانب من كل أنحاء العالم من دارسين ومعجبين وصحفيين، وكانت تلك الندوة بمثابة " بيت الأمة" وكان نجيب محفوظ يشارك بآرائه ويفتح صدره حتى لمعارضيه وكنا نشعر أنه "واحد مننا وعلينا" ولكننا فى الأعماق نشعر أنه الأب والأستاذ والمعلم والحضارة، وعلى رأى (محمد الكفراوى) بعد صدور روايته "العائش فى الحقيقة": "أنت يانجيب بيه (العائش فى الحقيقة)" .
ونجيب محفوظ لمن لا يعرف لم تتغير حياته بعد نوبل كثيرا، فقد تبرع (كما هو معروف بربع الجائزة للمحتاجين، والثلاث أرباع لأسرته)، وما أذكر كلمته الخالدة عندما جاءنا يوم جمعة فى الندوة قائلا: " الحمد لله الأسبوع ده خلصت منهم"، فسألناه:" خلصت من إيه يانجيب بيه"، فقال:"خلصت من فلوس نوبل، وأعطيتهم لأولاد الحلال يتصرفوا فيهم"، فقلنا له ضاحكين:" وإحنا يا نجيب بيه، مش كنا أولى من الغريب، ده إحنا برضه غلابة قوى"!! .
ونجيب محفوظ عاش معظم حياته فى شقة بالإيجار مكونة من غرفتين نوم، ولم يمتلك فى حياته سيارة، أو شيء من ممتلكات الحياة التى نجرى وراءها جميعا، لم يملك سوى قلمه، وكان بحق وحقيق "حضرة المحترم" .
وكان لا يحب الشهرة ولا الأضواء، حتى أنه رفض أن يذهب إلى ستوكهلم لإستلام جائزة نوبل وارسل إبنتيه نيابة عنه لإستلام الجائزة، وبالرغم من الإلحاح الشديد من كل أصدقائه للذهاب إلى السويد، إلا أنه رفض لأنه فضلا عن أنه كان لا يحب الأسفار، إلا أنه كان يكره الأضواء والرسميات، حتى أنه قال لنا على موضوع السفر لإستلام جائزة نوبل: "دول طالبين منى أنى ألبس بدلة مخصوصة بتاعة الحفلات الرسمية علشان أقابل بيها ملك السويد، وأنا أساسا ما باحبش ألبس كرافتة، يبقى حألبس بدلة الأراجوز دى وأقعد متكتف فيها كذا ساعة)!!
...
ولم تنقطع علاقتى بنجيب بيه بعد أن هاجرت وعشت فى أمريكا، وما زالت كلماته ترن فى إذنى عندما كلمته مرة وقال: "أنت حتيجى مصر إمتى، ده واحشنا جدا، ياراجل سيبك من أمريكا، ده أنت بتحب الأنس زى حلاتنا، تعالى هنا علشان نتونس بيك" .
وكان نجيب بيه بالفعل يحب الأنس، وكان أصدقاؤه وتلاميذه وحواريوه هم حياته، وكان هو أيضا جزءا لا يتجزأ من حياتنا، وسوف يظل كذلك، فكلما إشتقنا إليه فما علينا إلا أن نقرأ "الحرافيش"، أو "المرايا" أو (....)، (....) وسوف يظل نجيب حيا بيننا، لذلك لن أقول أى كلمة عزاء .
لقد كان نجيب بيه طوال عمره سواء فى رواياته أم فكره يبحث عن (الحقيقة) ويبحث عن السؤال الخالد:" سر الحياة وسر الموت"، وأعتقد أن نجيب بيه قد عرف سر الحياة، بمعنى أنه قد (فقس سر الحياة من بدرى، وعرف ما يجعله سعيدا وراضيا أكثر من أى شخص آخر)، لكنى لا أدرى إن كان عرف سر الموت؟!!
("حضرة المحترم" و"العائش فى الحقيقة" هى عناوين روايات لنجيب محفوظ)