في الذكرى السنوية لوحدة الجزيرة العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
على مدى عقود تاريخ العرب المعاصر ظلت للوحدة العربية مكانتها وأحلامها ورؤاها ومنطلقاتها، وبقيت حلما يداعب العواطف وتتلاعب به أنواء التحولات والتحالفات الدولية، وإتخذت العديد من القوى والأحزاب السياسية العربية قضية الوحدة كمبدأ حيوي ومباشر من مبادئها العملية وبرامجها السياسية، ومع ذلك لم تتحقق إلا أشكال بسيطة من أشكال الوحدة ووفق صيغ سياسية معينة سرعان ما فشلت وإنفرط عقدها لأنها لم تراع العديد من العوامل، ولأن عوامل العجلة وظروف العاطفة وعدم الإستقرار السياسي أو وجود المؤسسات الدستورية والكيانية الحامية لتلك الوحدة، فكان مصير أي صيغة وحدوية مستعجلة وعاطفية هو الفشل والفشل الدائم وقد فشلت الأحزاب القومية التي ترفع راية الوحدة وتلوح بشعاراتها من تحقيق أي هدف وحدوي رغم هيمنتها على دول لها مكانتها وأهميتها الجيوستراتيجية، وتحولت تلك الأحزاب الفاشلة بهياكلها وقياداتها التنظيمية وشعاراتها لمهزلة حقيقية ولجيب مريض من جيوب الفرقة والتشتت والفتنة القومية كما هو حال حزب البعث من خلال تجاربه الفاشلة في العراق وسوريا، فبدلا من وحدة الشعب زرعت بيوض وفايروسات العرقية والعشائرية والطائفية وتمزقت الأوطان وأستبيحت الثروات وفرض التخلف جناحه على مواقع مهمة من القلب العربي.
أسطورة وحدة الجزيرة العربية:
قبل أربعة وسبعون عاما بالتمام والكمال وتحديدا في عام 1351 هجري الموافق للثامن عشر من أيلول/سبتمبر 1932 ميلادي خرجت من رحم صحراء جزيرة العرب دولة جديدة / قديمة، وكيان وليد كان يحبو ويعاند الظروف الصعبة ومخاضات الولادة المعقدة في عالم كان يسير نحو آفاق صراع كوني جديد ينذر بشر مستطير في مرحلة مابين الحربين وقبل الحرب الكونية الثانية التي كانت تتجمع في أوروبا وقتها كل غيوم ونذر الإشتعال، ففي تلك الأيام ولدت ولادة شرعية ومن خلال سنوات وعقود طويلة من الكفاح والصراع والحروب المضنية المكلفة دولة إسمها (المملكة العربية السعودية) إستطاعت أن تفرض نفسها على الأجندة والخارطة الكونية رغم قلة الإمكانيات وقتها، ولكن عزيمة الرجال لا تعرف الكلل والملل، وأهل جزيرة العرب الذين تشرفوا بحمل لواء الرسالة الإسلامية ولقرون طويلة عبر العالم أثبتوا للجميع من أن الأحفاد في مستوى الأجداد، ومن أن وحدة الجزيرة العربية وقد تحققت بفضل تضحيات الرجال وقيادة المغفور له الملك الأسطوري (عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود) الذي أثبت كونه أحد صانعي التاريخ في القرن العشرين المنصرم، فقد كان منذ بواكير الصبا يعد نفسه ليوم التوحيد الشامل لجزيرة العرب، وهو منذ أن إنطلق من (الكويت) في ذلك الشتاء الصحراوي البارد في الخامس عشر من فبراير/ شباط عام 1902 متوجها وقلة من أنصاره نحو مدينته ومسقط رأسه (الرياض) التي تسلق أسوارها وتمكن من تحريرها معلنا بداية حملته وجهاده وكفاحه الذي دام عقودا طويلة شهد خلالها مختلف التحديات والتغيرات مؤسسا وبشجاعة منقطعة النظير وتكاد تكون أسطورية لأول مملكة وكيان موحد وحد أصقاع الجزيرة العربية المتنافرة المتصارعة والتي لم تشهد الإستقرار ولم تتسلل إليها رياح الحضارة وظل أهلها في حالات مستمرة من الصراع وفقدان الأمن الذي توج بهيمنة تركية/ عثمانية أجنبية على جوانبها وحافاتها في صورة غريبة ومتناقضة لما يمكن أن يكون عليه مهبط الوحي والرسالة الإسلامية الخالدة، فقبل ثمانية عقود حقق الملك عبد العزيز المعجزة وأعلن متوكلا على الله قيام الكيان العربي السعودي الذي إحتضن كل أبناء العروبة وطاقاتهم والذي وفر مدخلا لدخول الجزيرة العربية للعصر الحديث ولتحدياته وإشكالياته وهي عملية ليست سهلة أخذت من جهود وأعصاب الملك المؤسس الشيء الكثير، فالملك المؤسس لم يحقق وحدة الجزيرة العربية بسلاسة بل خاض من أجل ذلك الهدف المقدس كل متوجبات الصراع وعبر على صهوة جواده صحاري جزيرة العرب، وتعرض لمختلف المحن والشدائد والإصابات، وكان في مقدمة القوم في الكر، وكان لا يعرف الكلل ولا الملل ولا التردد، وكانت صلابته الأسطورية إحدى أهم العوامل التي مكنته من إسترداد حكم آبائه وأجداده ومن تحقيق المعجزة في زمن إنقرضت فيه المعجزات، كان يحارب ويقاتل ويبني ويوحد مستعينا بطاقات ورجال الأمة من العرب من عراقيين أو سوريين أو مصريين أو مغاربة، وكانت لا حدود لطموحاته وآماله، وكان شعلة من التوقد والحركة والشجاعة و الإصرار على المقارعة وتحقيق الهدف مع سمات الفروسية والنخوة، وكتب التاريخ مليئة بآلاف الشواهد والصور التي لا يمكن لمقال عابر أن يستوعبها، لم تكن وحدة الجزيرة العربية بالأمر الهين والسهل ولم تكن الطريق لذلك مزروعة بالورود بل كانت كل عوامل الإحباط والتطرف واليأس موجودة ولكن لا وجود لكلمة اليأس من حضور في قاموس الملك المؤسس الذي واجه ومنذ البواكير الأولى لقيام الكيان السعودي الجديد موجات التطرف والتخشب والتعصب العقائدي التي كان يمثلها فكر جماعة (الإخوان النجديين) مجموعة فيصل الدويش وبن حثلين و بن بجاد ولكنه تحمل شطحاتهم وغض النظر عن تعدياتهم وصفح عنهم كثيرا قبل أن يتعامل معهم بحسم وباللغة التي يفهمونها فوحدة جزيرة العرب فوق كل إعتبار والعدل والوسطية هو أساس الملك والحكم، والحفاظ على الكيان الموحد الحر يستحق تضحيات صعبة. لقد تعرضت المملكة العربية السعودية لتحديات صعبة وتعرضت وحدتها المكانية ومكانتها الراسخة في نفوس العرب لتحديات أشد من أنظمة عربية كانت تبشر بالفكرة القومية رياءا وتعمل في السر والظلام على إفشال كل عمل وحدوي وتوحيدي وأعتقد أن تجربة نظام صدام البائد في العراق قد أكدت ميدانيا على تفاهة ورداءة أهل الدعايات القومية المزيفة، فنظام صدام بعد أن إبتلع دولة الكويت في غزوته الغادرة تصور أنه سيضمن الصمت السعودي وهو تصور غبي وأخرق ويعبر عن خواء فكري وقصور سياسي مريع فلما لمس حجم الرد السعودي الرافض للجريمة البعثية النكراء أشعل آلته الإعلامية المعوقة ليدعو لتجزئة الجزيرة العربية وتحدث عن نجد والحجاز فلم يكن من الإعلام السعودي إلا أن تصدى بذكاء وتحدي وثقة وأعلن على رؤوس الأشهاد : نعم نحن الحجاز ونحن نجد... أو كما قال الأمير خالد الفيصل: "حنا العرب يامدعين العروبة.. حنا هل التاريخ وأنتم له أجناب".. وفعلا صمت فأر العروبة للأبد وهو يلوذ بعاره!!.
وها هي اليوم المملكة العربية السعودية تحتفل بعيد ميلادها ال(74) في ظل قفزات تطورية هائلة مرت بها الجزيرة العربية على أيدي أبناء الملك المؤسس الذين لم يقصروا في حمل الأمانة رغم كل صعوبات الجغرافيا وتحديات السياسة ومناكفات الآيديولوجيا، ومنذ رحيل الملك عبد العزيز آل سعود عام 1953 ومسيرة التطور السعودي لم تتوقف أو تنتكس بل على العكس فقد دخلت متغيرات العصر منذ الملك الراحل سعود مرورا بباني المملكة الراحل فيصل بن عبد العزيز ثم المرحوم الملك خالد بن عبد العزيز مرورا بالقفزة الهائلة التي حققتها السعودية في عهد المغفور له خادم الحرمين الملك فهد بن عبد العزيز وحتى وصلت الراية والأمانة التاريخية بيد خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبد العزيز الذي دخلت المملكة بقيادته القرن الحادي والعشرين في ظل متغيرات تاريخية هائلة وثبات على المبدأ والعقيدة، فتحية حب وأجلال لأهلنا في جزيرة العرب وهم يحتفلون بعيد وحدتهم.