كتَّاب إيلاف

سعيد أبو المعاطى المواطن الديموقراطى (2)

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الحلقة الثانية: "أخواته البنات"

كان (سعيد أبو المعاطى) ولد على خمس بنات، وبرغم أن أمه وأبيه كانا يعتبران فى عداد الأميين إلا أنه كانت لهما أحلاما وتطلعات قد فشلا فى تحقيقها فى ذواتهما، فوضعا الحلقة الأولىهمهما فى أولادهما، فصمما على أن يدخلاهم المدارس، ومنذ البداية حرصت والدة سعيد (أم سعيد) على أن تتشبه بزوجة العمدة والتى أطلقت على أولادها وبناتها أسماء كلها تبدأ بحرف الميم (مثل محمد ومحمود ومريم ومهجة)، لذلك قررت أم سعيد أن تطلق على أولادها وبناتها أسماء تبدأ بحرف واحد هو حرف السين (مثل إسمها سنية)، فأطلقت أسماء : سعيد وسعاد وسعدية وسعيدة وسناء وآخر العنقود سلوى وكادت تغلط وتطلق على آخر العنقود أسم صفية لولا إبنها سعيد والذى كان قد دخل المدرسة وأجاد القراءة والكتابة وقال لها :"يأمة حتفضحينا مش عارفة تستهجى صفية بتبتدى بحرف الصاد مش بحرف السين "، فقالت له: "وأنا إيش عرفنى يإبنى ماإنت عارف أمك جاهلة عمرها ما دخلت مدارس"، فضحك سعيد بوجهه الصبوح وقال لها : "ده إنتى الخير والبركة ياإمة، على النعمة إنتى أجدع من ميت مدرسة
ده حتى الشاعر قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعبا طيب الأعراق"
فترد عليه "والنبى يإبنى ما أنا فاهمة حاجة، لكن باين عليه كلام حلو زيك ".

.....
ولنبدأ بآخر العنقود وأقربها إلى نفس (سعيد) وهى (سلوى)، وكان عمرها خمس سنوات عندما مات أبوه، وقد أخذت من أبيها لون عينيه العسلتين وكذلك شعره الأشقر، وكان الكثير من عيال القرية الأشقياء يعايرون (سعيد) بأن أبيه هو من مخلفات الإنجليز عندما نزلوا مصر فى أوائل القرن التاسع عشر، حيث هزم المصريون جيش الجنرال الإنجليزى( فريزر) فى موقعة رشيد فى 19 سبتمبر 1807 وتم أسر 120 من الإنجليز فى تلك الموقعة، ولابد أن بعضهم تخلف فى رشيد، ومن هنا جاءت العيون العسلية والشعر الأشقر لسلوى، وكان (سعيد) لا يتألم كثيرا لتلك الإتهامات، بل كان فى داخله يشعر بالفخر لإحتمال إنتمائه للجنس الأبيض (الخواجة)، وما أدراك ما عقدة الخواجة!!

و(سلوى) لم تفهم كثيرا ماحدث، لماذا إختفى والدها فجأة وكانت يوميا تنتظره بقدميها الحافيتين وشعرها المنكوش عند غروب الشمس عندما يعود من الغيط، فيأخذها من ذراعيها ويدفعها إلى الهواء عاليا وتحس أنها تطير مثل العصفورة وان قلبها قد أصبح فى رجليها، وكانت (سلوى) تعتبر هذه اللحظات أجمل لحظات اليوم وتنتظرها بفارغ الصبر، وكان أبو سعيد لا يخشى (مثل معظم الأباء فى القرية) فى إبداء مشاعر العطف والحب والحنان تجاه أهل بيته، فقد كان معظمهم "يتمنظر" بإظهار جانب القسوة والعنف والضرب لأهل بيته أمام الجميع، ويعتبرون أن هذا هو مظهر من مظاهر الرجولة، ولكن أبو سعيد كان مختلفا فى كل شئ، حتى إعتبره العديد من رجال القرية أنه مش راجل"حمش" وأنه ماشى ورا مراته أم سعيد.
أخذ (سعيد) على عاتقه "تدليع" (سلوى) كما كان يدلعها أبوه، فكان عندما يعود من المدرسة يبحث عنها ويأخذها خارج البيت ويحملها عاليا إلى عنان السماء كما كان يفعل أبوه، وبالتدريج تعلقت (سلوى) بأخيها (سعيد) وعوضها حنان الأب المفقود، وكانت تحبه حتى أكثر من أمها أحيانا.
....
أما الكبرى (سعاد) فكانت حكايتها حكاية، فكانت أجمل البنات، وكعادة أجمل الجميلات فى معظم الأسر تعتبر نفسها (برنسيسة) وعلى الكل أن يقوم بخدمتها، وقد ساعدتها أمها (بدون أن تدرى) على ذلك مما أدى إلى نشوء غيرة شديدة من باقى أخواتها، وكان (سعيد) دائما يحاول التدخل لفك الإشتباك الأخوى والذى كان يحدث بصفة شبه يومية، وكانت (سعاد) جميلة بكل المقاييس بشعرها الأسود الناعم ووجها ذو الملامح المصرية الأصيلة والذى يذكرك بوجه (سعاد حسنى) والذى يجمع بين براءة وشقاوة الأطفال وأنوثة المرأة وإحترامها فى نفس الوقت، وكانت (سعاد) تحاول أن تتشبه كثيرا (بسعاد حسنى) فقد كانت تلبس جلاليب ضيقة تبرز جمالها النافر من كل إتجاه وكذلك كانت تتعمد أن"تزحلق" منديل رأسها لكى تبرز شعرها الناعم النظيف والجميل، وكانت تحاول تقليد مشية (سعاد حسنى) فى فيلم حسن ونعيمة أو فى فيلم الزوجة الثانية، وكانت أمها تشخط فيها وهى تحاول أن تخبئ فرحتها الداخلية بجمال إبنتها، وكانت تقول لها :"تكونشى يابت فاكرة نفسك سعاد حسنى!!"، وكانت ترد عليها بجرأة وهى تضحك :"وليه لأ، لا أنا أقل منها إيد ولا رجل، ده حتى فيه ناس بتقوللى إنى أحلى منها".
وكان (سعيد) يخشى كثيرا من جمال أخته أن يجلب لهم المشاكل، فمثل هذا الجمال النادر مثل الشهب، أما ترفعك للسماء أو أن تحرقك، وكان يدعو لها كثير فى صلاته بالتوفيق، وكان يحضر لها خطاب كثيرون يطلبون يدها، ولكن (سعيد) وأمه كانا يرفضان بحجة أنها لا بد أن تكمل تعليمها، وكانت (سعاد) ترفض وتقول بتعالى:"بقى سعاد "حسنى" ما لقتش تتجوز إلا من عزبة الهم والنكد دى، ده حتى العرسان إللى جم كلهم "مقشفين"، وريحتهم والعياذ بالله زى ما يكونوا ما إستحموش من العيد إللى فات!!"، "أنا منتظرة عريس قيمة وسيما من الناس المتعلمين بتوع الإسكندرية، لما أدخل جامعة الإسكندرية". ويتألم سعيد حين يسمع جامعة الإسكنرية ويتذكر حلمه المدفون مع أبيه، والمعبد الرومانى وكلية الهندسة، ولكنه يصمم أن يحقق لسعاد أملها فى دخول جامعة الإسكنرية، ومما كان يشجع أنها كانت متفوقة فى دراستها، وأن إهتمامها بجمالها وإنفاقها الساعات أمام المرآة المكسورة، لم يمنعها من أن تهتم بدراستها.

.......
أما (سعدية وسعيدة) فكانتا توأم (متطابق)، ولم يحظيا بجمال (سعاد) الفتان ولكنهما كانتا على قدر من الجمال والذى يماثل جمال ربات البيوت، هذا الجمال الهادئ (إللى ما يوديش فى داهية)، وكانتا تصغران سعيد بأربع سنوات، وتشاجرت(سعدية) مع (سعيدة)، طوال الوقت، أما حين يحين الوقت فى التشاجر مع باقى الإخوات فكانتا تتحالفان فى حلف قوى مؤقت لا يدوم سوى ساعة الخناقة، وحدث بعد عام ونصف من وفاة الأب المفاجئ أن فاجأ الموت بإطلالته البغيضة تلك الأسرة التى تصمم على مواجهة أعباء الحياة بالحب والمرح وكان تفاؤل تلك الأسرة مصدر حسد العديد من سكان القرية والذين إحترفوا الهم والكآبة مهنة لهم. ففى يوم من الأيام خرجت (سعيدة) بعد صلاة العشاء (وبعد أن نام الجميع) فى ليلة صيف حارة، وصممت أن تنزل للسباحة فى فرع النيل (فرع رشيد) والذى لم يكن يبعد سوى كيلومتر واحد من قريتهم، وذهبت وبدون أن يشعر بها أحد، ومشت للنهر حتى وجدت مكانا خاليا، وخلعت جلابيتها ووضعتها تحت الشجرة ووضعت فوقها صخرة صغيرة، وكان كل ماتأمل فيه هو أن تخفف مياه النيل من شدة الحر، ونزلت إلى النهر بملابسها الداخلية، وهى لا تدرى مدى عمق المياه فى تلك المنطقة، وتستيقظ أسرة (سعيد) على صوات الجيران ويعلو صراخهم بعد أن وجدوا جثة (سعيدة) عند الهويس...
وكانت صدمة هائلة للأسرة، وكانت صدمة أكبر لتوأمها (سعدية)، والتى شعرت أنها قد فقدت نصف روحها، وراحت تؤنب نفسها باقى حياتها كيف لم تذهب معها، لقد حضرا سويا إلى هذه الدنيا، وكان من الطبيعى أن يذهبها سويا...

........

أما (سناء) فكانت تعيسة الحظ فلم تحظ بأى جمال يذكر، وكانت تصغر (سعيد) بخمس سنوات، وبرغم "وحاشتها" إلا أنها قد تمتعت بقدر لا بأس به من الدلع حين كانت آخر العنقود، حتى أتت "المفعوصة" (سلوى) بعد زمن طويل، لذلك حقدت كثيرا على المولودة (سلوى)، وبقدر ماأحبتها عندما كانت فى "اللفة"، إلا أنها كانت لا تخفى حقدها عليها، فقد كانت دائما تقول لها :"أنت إيه أللى جابك، كلنا كنا منتظرين ولد، إحنا ناقصين بنات". وكانت (سناء) تعتبر نفسها خادمة الأسرة، وكانت تلبى طلبات الكل، وكان الكل يحبها لأنها الأخت الحنون من جهة، ومن جهة نفعية أخرى كان الكل يحتاجها. "الله يخليكى ياسناء إغسلى لى الجلابية بتاعتى علشان معزومة فى فرح "، " والنبى ياسناء تسخنى لى الأكل بتاع إمبارح، علشان حأموت من الجوع"، "ربنا يسعدك ياسناء تحلبى الجاموسة علشان عاوزة لبن لأختك سلوى "، وكنت إجابة (سناء) الدائمة: "حاضر من عينية".
وكانت قد قرأت حكاية (سندريلا) وكيف كانت تخدم أمرأة أبيها وبنتيها، وشعرت بأنها (سندريلا المصرية من رشيد)، وكانت تعرف يقينا أنها ليست فى جمال سندريلا فى الحدوتة إلا أنها كانت متأكدة أن هناك أميرا على فرس ابيض سوف يأتى يوما لإنتزاعها من شقائها الإختيارى، وربما يجرى لها عملية تجميل لكى تصبح أقرب الشبه بسندريلا الحقيقية!!

samybehiri@aol.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف