كتَّاب إيلاف

فهم المنطوق ممّا رُويَ عن الفاروق

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لا فُضَّ فُو أبي العلاء المعرّي الّذي قال:

وَإذَا مَـا سَـأَلْتَ أَصْحـابَ دِيـنٍ ** غَـيَّرُوا بالقِيـاسِ مَا رَتَّبـُوهُ
لا يَدِينـُونَ بالعُـقُــولِ، وَلكِـنْ ** بأَبـَـاطِيلِ زُخْـــرُفٍ كَـذَّبُـوهُ

***
هكذا كانت الحال دائمًا لدى أهل الإيمان الّذين يخشون حتّى من مجرّد إعمال العقل في مسائل تتعلّق بما ترعرعوا عليه من ثقافة نقل. والحقيقة أنّنا في هذا الأوان وفي هذه الأوطان، ورغم كلّ ما قد يقال، مدينون للسّلف لكونهم حفظوا لنا كلّ هذا النّقل، ولم يبخلوا علينا برواياتهم الّتي لو أمعنّا النّظر فيها ببصيرة لخلصنا إلى أمور غير عاديّة قد خفيت عن أعين النّاس. ومن بين تلك الرّوايات روايات منثورة هنا وهناك في تضاعيف المصنّفات التّراثيّة تكشف لنا عن حالات التّشكيك بالإسلام وبشخوصه منذ نشأته الأولى. فالرّوايات التّاريخيّة الّتي تكشف لنا جانبًا من هذا التّشكيك قديمة العهد قدم الإسلام ذاته. وما على القارئ النّبيه سوى الخوض في تلك النّتف ثمّ محاولة استقرائها ومساءلتها بعيون بصيرة وبعقول منفتحة. لا شكّ أنّ النّظرة السّائدة لدى العامّة من العرب والمتمثّلة في تقديس عاطفيّ للتّراث تضع في الغالب حجابًا ثقيلاً مبهمًا على عقول العامّة فلا يرون ما تحمله لهم هذه الرّوايات من مفاتيح تفتح له مغاليق ودهاليز مظلمة لم تلجها قدمه من قبل.

***
فمن بين تلك المسائل الّتي تتغلّب فيها العاطفة على العقل الماحص الفاحص عمّا وراء الكلام المنقول، مسألة اختلاف القراءات القرآنية. لنقرأ على سبيل المثال الرّواية التّالية: "عن أبيّ بن كعب أنه قال: سمعتُ رجلا يقرأ في سورة النحل قراءةً تخالِفُ قراءتي، ثم سمعت آخر يقرؤها قراءةً تخالف ذلك، فانطلقتُ بهما إلى رسول الله (ص)، فقلت: إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل، فسألتُهما: من أقرأهما؟ فقالا: رسول الله (ص). فقلت: لأذهبن بكما إلى رسول الله (ص)، إذ خالفتما ما أقرأني رسول الله (ص). فقال رسول الله (ص) لأحدهما: اقرأ، فقرأ. فقال: أحسنتَ. ثم قال للآخر: اقرأ، فقرأ. فقال: أحسنتَ. قال أبيّ: فوجدتُ في نفسي وسوسة الشيطان، حتى احمرّ وجهي. فعرف ذلك رسول الله (ص) في وجهي، فضرب بيده في صدري، ثم قال: اللهمّ أخْسئ الشيطانَ عنه!" (عن: تفسير الطبري)
فليست الوسوسة هذه الّتي ينسبها أبيّ بن كعب إلى الشّيطان سوى تعبير عن حالة الشكّ الّتي وجد نفسه بها. فاختلاف القراءة لدى الاثنين قد زرعت بذور الشكّ في نصّ من المفروض أن يكون محكمًا. وما الضّرب بيد في صدر أبيّ ودعوى إخساء الشّيطان عنه، سوى محاولة للتّخفيف من حمّى التّشكيك هذه الّتي حلّت به.

***
ومن بين المسائل الّتي تعرضها لنا الرّوايات التّراثيّة مسألة تتعلّق بالخالق ذاته. فها نحن نقرأ راوية تقول: "عن ابن عمر قال : كُنا جلوسًا عند النبي (ص) فجاء رجل من أقبح الناس وجهًا وأقبحهم ثيابًا وأنتن الناس ريحًا، جلفٌ جاف، يتخطّى رقاب الناس حتّى جلس بين يدي رسول الله فقال: من خلقك؟ فقال رسول الله (ص) "الله". قال: من خلق السّماء؟ قال: "الله". قال: من خلق الأرض؟ قال: "الله". قال: من خلق الله؟ فقال رسول الله (ص): "سبحان الله"، وأمسك بجبهته وطأطأ رأسه، وقام الرّجلُ فذهب. فرفع رسول الله (ص) رأسه فقال: "عليّ بالرجل"، فطلبناه فكأنْ لم يكن. فقال رسول الله (ص): "هذا إبليس، جاء يُشكّكم في دينكم"، (أخرجه البيهقي). غير أنّ إبليس هذا من الرّواية السّابقة يصبح الشّيطان في مكان آخر، فقد ورد في الحديث: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟" (رواية البخاري ومسلم).
لكن يبدو أنّ هذه الرّوايات الّتي تنسب الشكّ إلى إبليس، أو الشّيطان، ليست كذلك. إنّما هي بعض من أصوات التّشكيك العربيّة الّتي تعالت في مواجهة الرّسول، وسُمعتْ أصداؤها في أنحاء مختلفة من جزيرة العرب. تظهر هذه الحقيقة بصورة جليّة في حديث آخر، إذ يختفي إبليس أو الشّيطان لنجد أنفسنا أمام مخلوقات بشريّة: "يوشكُ النّاس يتساءلون، حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟" (رواه أحمد وأبو داود)، أو كما ورد في رواية أخرى: "لا يزالُ النّاسُ يتساءلون حتّى يقال: هذا خلقَ اللهُ الخلقَ، فمن خلقَ اللهَ؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل آمنت بالله" (رواية مسلم). معنى هذا أنّنا لسنا أمام مخلوقات غيبيّة، وإنّما أمام أصوات النّاس الّتي تسأل أسئلة فيها شيء من المنطق الّذي تمليه عليها عقولها. أمّا نسبة التّشكيك إلى المخلوقات الغيبيّة إنّما جاءت لانعدام حجج عقليّة ومنطقيّة في مواجهتها، فتتمّ إحالتها إلى الغيبيّات.

***
ومن بين هؤلاء الّذين لعب الفأر بعبّهم منذ البداية الأولى للإسلام، فعبّروا عن هذا التّشكيك صراحة مثلما نقلته لنا الرّوايات، نذكر عبد الله بن سعد بن أبي سرح الّذي كان: "يكتب لرسول الله (ص) الوحي فرُبّما أملى عليه رسول الله (ص) سميع عليم، فيكتب: عليم حكيم، فيقرأ رسول الله (ص) فيقول كذلك الله، ويقرّه. وافتتن وقال: ما يَدْري محمّد ما يقول، إني لأكتبُ له ما شئتُ. هذا الّذي كَتَبْتُ يُوحَى إليّ كما يُوحَى إلى محمّد." (عن: مغازي الواقدي)
أيّ أنّ عبد الله هذا يُغيّر في نصّ، من المفروض أن يكون منزلاً محكمًا، يمليه عليه الرّسول، فيقرّ الرّسول هذا التّغيير، أي هذا التّحرير النّصّي، الّذي يقوم به عبد الله بن أبي سرح. ولذلك فهو يقول إنّ النصّ الّذي بين يديكم هو من صنعه. فإذا كان النّصّ وحيًا، فهو وحي يُنسب إليه أيضًا. فالمنطق يقول، إذا كان الكلّ وحيًا، فإنّ الجزء وحيٌ أيضًا.

***
غير أنّ أحد أهمّ الشّخوص الّتي دخل نفوسها الشكّ، مثلما نقرأ في إحدى الرّوايات، هو الفاروق ذاته، أي الخليفة عمر بن الخطّاب. فلنقرأ معًا خبر غزوة الطّائف كما يرويه ابن سعد في طبقاته: "وقد كانت ثقيف رمّوا حصنهم وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة... وسار رسول الله (ص) فنزل قريبًا من حصن الطّائف وعسكر هناك، فَرَمَوا المسلمين بالنّبل رميًا شديدًا كأنّه رِجلُ جراد حتّى أُصيب ناسٌ من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً....فأمر رسول الله (ص) بقطع أعنابهم وتحريقها فقطع المسلمون قطعًا ذريعًا، ثمّ سألوه أن يدعها لله والرّحم... واستشار رسول الله (ص) نوفل بن معاوية الدّيلي فقال: ما ترى؟ فقال: ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذتَه وإنْ تركتَه لم يضرّك. فأمر رسول الله عمر بن الخطّاب فأذّن في النّاس بالرّحيل فضجّ النّاس من ذلك وقالوا: نرحلُ ولم يُفتَح علينا الطّائف؟ فقال رسول الله (ص): فاغدوا على القتال، فغدوا فأصابت المسلمين جراحاتٌ، فقال رسول الله (ص): إنّا قافلون إن شاء الله، فسُرّوا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله (ص) يضحك" (طبقات ابن سعد). أي النّاس قد ضجّوا رغم أمر الرسول بالرّحيل عن الطّائف على أثر استعصاء فتح الحصن ورغم الوعد بذلك. وحتّى بعد الإصرار على تكرار المحاولة لم يفلح المسلمون بالفتح، بل ازداد عدد إصابات المسلمين، حتّى أذعنوا ورحلوا، بينما الرسول يضحك عليهم على جراحاتهم.
وتستمرّ رواية خبر غزوة الطّائف عن الحسن حيث قال: "حاصر رسول الله (ص) أهل الطّائف فرُمي رجل من فوق سورها فقُتل، فأتى عُمر فقال: يا نبيّ الله ادعُ على ثقيف! قال إنّ الله لم يأذن في ثقيف، فقال: فكيفَ نُقتَلُ في قومٍ لم يأذن الله فيهم؟ قالَ: فارتحلوا، فارتحلوا". (عن: طبقات ابن سعد). من هذه الرّواية يتّضح مدى الشكّ الّذي دخل نفس عمر بن الخطّاب، كيف يُقتل المسلمون في مواجهة قوم لم يأذن الله في فتح حصنهم؟ هذه الرّواية قد وضعت الرّسول في وضع حرج، حيث لم يكن لديه جواب يرد به على سؤال عمر بن الخطّاب، سوى: "فارتحلوا، فارتحلوا".

***
وهكذا، وبعد أن قرأنا ما سلف من روايات، لا بدّ من القول إنّنا مدينون إلى السّلف بحفظهم لنا هذا التّراث على ما فيه من روايات. وما علينا سوى إعادة القراءة، وإعادة المساءلة بغية الوصول إلى فهم عميق للتّاريخ وللشّخصيّات الفاعلة فيه، أقوالها، تصرُّفاتها ونفسيّاتها.
وإذا كنّا استهللنا هذه المقالة بصوت العقل القادم من أبي العلاء، فلنختمها بصوت عقل آخر جاءنا من عمر آخر، هو عمر الخيّام إذ قال يخاطب الله:
إذا كُنْتَ تَجْزِي الذّنْبَ مِنّي بِمْثْلِهِ ** فَمَا الفَرْقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَا رَبِّي؟

والعقل وليّ التّوفيق.

salman.masalha@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف