كتَّاب إيلاف

هل الإذعـان هو الحـل؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لا شك أن ما استأثر بأهم جزء من النقاشات الدائرة في مصر حول التعديلات الدستورية كان المادة الثانية الشهيرة، برغم أنها ليست مطروحة أصلا للتعديل ضمن باقة من 34 مادة. والأسباب في ذلك متعددة، ولكن أهمها وجود إحساس عام بأن التعديلات أيا كان مداها أو مغزاها أو جدواها لا تحاول أن تحسم التساؤل الجذري والمحوري حول طبيعة الدولة المصرية.
والأصل في دساتير العالم المتحضر هو أن يقوم "الآباء المؤسسون" بتحديد الهوية الأصلية للدولة والمباديء والقيم والخطوط العامة التي يبنى عليها الدستور، الذي تتوافق عليه الجماعة الوطنية بما يحقق مصالح مكوناتها بدون غبن أو افتئات. وبعد ذلك تأتي التفاصيل التي يجب أن تتناغم مع تلك الأسس. والحاصل في كل دساتير الدول المتحضرة أن تكون الدولة مدنية تستند إلى القيم العليا للحرية والعدالة والمساواة، تفصل بوضوح بين الدين والدولة حماية لكليهما. وبعد ذلك يأتي شكل الحكم (ملكية أو جمهورية رئاسية أو برلمانية الخ) وتأتي "الديموقراطية" كآلية للحكم، بأشكالها المختلفة، وتأتي باقي القواعد المنظمة للحكم من توازن السلطات وضمانات الشفافية والمحاسبة وتبادل السلطة الخ.
ولكننا في مصر، وبعد قرنين كاملين من محاولة إنشاء دولة مدنية حديثة، ما زلنا محتارين في ماهية تلك الدولة وهل هي حقا مدنية، أم دينية. ولذلك يتوه الجميع في المفاهيم ويكثر التخبط المختلط بالدجل والفهلوة، وصولا إلى من راحوا يزعمون مؤخرا أنهم قد اكتشفوا الحل السحري ألا وهو "دولة مدنية ذات مرجعية دينية"! وهو حل يقترب من مفهوم "شَربة الشيخ محمود" الشهيرة والتي كان صاحبُها ومخترعُها يزعم، أثناء جولاته التسويقية الميدانية في القرى والأحياء الشعبية، أن فيها الدواء لكل داء، بدءا من ديدان المصارين إلى الأكلان والقرع والرمد الصديدي. (ملحوظة طبية ـ تاريخية: توارت تلك "الشربة" الشهيرة من المجتمع، وأصبح "البديل الموضوعي" لها هو "بول البعير").
على أي حال، فما إن فتحت التعديلات المقترحة الباب للنقاش حتى اكتشف الجميع، بما في ذلك الحزب الحاكم نفسه، أن محاولات تجميل الدستور لا تزيده إلا تشوها وتناقضا وتخبطا بين مواده التي يجري تحسينها، والتي يبدو أنها تحاول السير في اتجاه؛ وبين المادة الثانية الحاكمة والتي تسير في اتجاه معاكس. والمعضلة ليست فقط "ميكانيكية" حول كيفية تعديل المادة الثانية (فهذا يتطلب إجراءات دستورية جديدة)، بل لأن الحزب الوطني لا يقبل أصلا فكرة تعديلها لسبب بسيط هو أن النظام الحاكم يقوم على شرعية دينية، وأن الفرق ـ في النهاية ـ بين "إخوان الحزب الحاكم" وبين "إخوان المعارضة" ليس ناشئا عن اختلافات فكرية أو إيديولوجية بل هو مجرد خلاف (عائلي) حول من يتمجلس على كراسي الحكم.
لكن يبدو أن الحزب الحاكم بدلا من أن يرى إشكالية خطيرة في التناقض الشيزوفراني الذي سيصبح عليه الدستور بعد تعديلاته، وجد فيها فرصة رائعة: إذ سيصبح في إمكانه أن يحيل دعاة أي توجه أو نقيضه إلى المادة "المناسبة" التي تريحه في الدستورhellip;. وفي النهاية تبقى الأمور في قبضة الحكام يتصرفون على أمزجتهم وطبقا لمصالحهم.
وقد كان اللافت للنظر هو أنه بمجرد فتح الباب ـ مواربا ـ أمام دعاة "الدولة المدنية" لتقديم حججهم البديهية، والتي يعرفها العالم المتحضر، تحذيرا من أخطار البديل؛ حتى تكاثرت التهم والتهديدات وأشهرت كل الأسلحة بواسطة عتاولة أعداء الدولة المدنية.
وسوف نحاول هنا التعرض لبعض ما قيل في هذا الصدد على سبيل الأمثلة.

1: "الدولة المدنية" ليست سوى "مطلب قبطي"
تلميحات وتصريحات في العديد من المقالات تحاول أن تعزو مطلب مدنية الدولة إلى الأقباط، وخاصة "المهجريين" منهم. والمعنى في باطن الشاعر هو أن الأقلية تحاول الاعتداء على هوية الأمة، وأن المؤمنين "الحقيقيين" من أبناء الأمة لا يمكنهم قبول هذا وعليهم الصمود ورد الصاع صاعين.
وصحيح من حيث المبدأ أن الأقليات عموما تستفيد من الدولة المدنية، لأن هذا هو الأسلوب الوحيد لكي يصبح الجميع "مواطنين" سواسية بلا تفرقة أو طائفية؛ ولكن فلنتذكر الآتي:
أولا: هناك أعداد لا يستهان بها من المسلمين العقلانيين الوطنيين الذين يطالبون بمدنية الدولة حرصا على مصر وعلى مستقبلها؛ (وأيضا خوفا على مستقبلهم الشخصي! فهم يعرفون من تجارب أفغانستان وإيران والسودان والجزائر أن مشانق "الدولة الدينية" تُنصب أولا وقبل كل شيء لأمثالهم!). وقد كان لافتا للنظر أن نسبة المشتركين في الندوات المؤيدة للدولة المدنية في القاهرة مؤخرا والموقعين على بياناتها من الأقباط، إلى جانب مواطنيهم المسلمين، لا تزيد عن متوسط نسبتهم في المجتمع. من ناحية أخرى، فإن الشعب الغارق في هموم أكل العيش والذي أصيب، فيما يبدو، بحالة قرف جماعي، لا يهتم أصلا بمناقشات الأفندية وينتظر وصولهم إلى حل. كما أنه (ربما) بدأ يعرف بذكائه الفطري كيف يكشف ألاعيب الحكومة والإخوان على السواء في استثارة غرائزه الدينية لمساندة أي من الطرفين على التمسك بـ ، أو الوصول إلى ـ كرسي الحكم.
ثانيا: بغض النظر عن كون "الدولة المدنية" تصب ـ بداهة ـ في صالح الأقباط، إلا أن أصواتهم في هذا المجال خافتة بصورة لا تخطئها الأذن. فبين دعاة "المواءمة السياسية" الذين يرون أن "توقيت المطلب غير مناسب"، وأنصار "الذمية السياسية" (وخاصة من أبناء "العائلات السياسية" إياها) بانتهازيتهم المعروفة، و "أسرى الواقع (أو "المَواقعية")" الحريصين على مواقعهم ومصالحهم السياسية أو الاقتصادية أو الوظيفية، وخريجي مدرسة "مافيش فايدة" العتيدة، ناهيك عن حفنة "القبط الإسلاميين"؛ أصبحت النخبة القبطية في حالة جدب وتيه مؤسف لا يسرُّ عدوا أو حبيب، وإن كان بالقطع يملأ قلب حكومتنا العزيزة بالحبور والغبطة. أما جموع الأقباط التي، إضافة إلى الغرق في هموم أكل العيش مثل باقي الشعب، تئن وتتوجع إذ تصطلي بنيران التعصب والتفرقة والتهميش والإقصاء في الحياة اليومية؛ فهي مازالت لا تعرف كيف توصل مطلبها بالمواطنة "من الدرجة الأولى" ليصبح واقعا.

2: قبول المرجعية الإسلامية للدولة شرط للوطنية
في مقال له (بجريدة "المصري اليوم" بتاريخ 26 فبراير) كتب د. يحيي الجمل: "(..) قداسة البابا شنودة كان واضحاً وحاسماً في رفضه لما يتخوف منه بعض الأقباط من هذه المادة. وهذا موقف سياسي مصري قومي وطني عاقل وموضوعي، موقف يطفئ نار فتنة وافدة، ذلك أنه من الناحية السياسية، فهذا ليس هو وقت التفكير في تعديل هذه المادة وسط كل الاحتقانات التي يعيش فيها الشعب المصري كله بكل فئاته وطوائفه".
وبغض النظر عما قاله البابا بالضبط، وهو (طبقا لما نشر في الصحف إشارة إلى حديثه في الأمسية الدينية، التي نظمها نادي روتاري إسكندرية سبورتنج مساء 17 فبراير تحت عنوان "فلسفة السلام بين الأديان") لا يعني من قريب أو بعيد "قبول" المادة الثانية، بل يتحدث عن "ضرورة التوافق في مثل هذه الأمور (..) بدون تهييج المسلمين"، أي لا يزيد عن موقف رجل دين مسئول وحذر، لا يرغب في إعطاء الفرصة لدعاة "بحور الدماء"، فإن كلام د. الجمل ليس سوى محاولة جديدة للربط المتعسف بين الوطنية وقبول المرجعية الدينية الإسلامية للدولة.
وقد سبق أن قال د. مصطفى الفقي ما يبين أنه أخذ على عاتقه التأكد من إذعان الأقباط للقبول بهذه المرجعية الدينية عندما كتب في 25 ديسمبر الماضي عن اجتماع مع مجموعة من الأقباط (؟؟) "الذين استقر في وجدانهم تراث الوطنية المصرية" لمناقشة قضية الإصلاح الدستوري، ولقد لفت نظره، كما يقول، "أنهم يقبلون المادة الثانية في الدستور الحالي علي ما هي عليه ولا يمسون النص حول الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع (لاحِظ أنه يتكلم عن "الشريعة" وليس "مباديء الشريعة") باعتبار أن هويتهم وإن كانت مصرية إلا أن ثقافتهم عربية إسلامية قبطية"rlm;.. وزاد على ذلك أن تلك المجموعة ترفض "قبول الأصوات التي يتحدث أصحابها عن نظام الحصص وتخصيص المقاعد في البرلمان وما دونه وفقا للديانة وهم في ذلك يمضون علي نهج آبائهم وأجدادهم العظام الذين رفضوا ذلك أثناء المداولات التحضيرية لدستورrlm;1923rlm; وتزعمهم في ذلك الوقت عزيز ميرهمrlm;rlm; وغيره في غمار روح الوحدة الوطنية بعد ثورةrlm;1919".rlm;
وهكذا يتفق الدكتوران (منضمين بصورة غير مباشرة إلى أعداء المواطنة الكاملة في الدولة المدنية الحديثة)، على الترويج بأن قبول التهميش بكافة صوره وأشكاله هو المعادل "للوطنية"، إن لم يكن الثمن الواجب دفعه حتى لا تهيج الأمة على الأقباط وتزداد أحوالهم سوءا.

3: قنابل الدخان ـ أو التهوين من أثر المادة الثانية
يقول د. الجمل (في المقال السابق الإشارة إليه): "(..) والحقيقة أن تعديل المادة الثانية من الدستور عام ١٩٨٠ كان نوعاً من النفاق السياسي من أجل دغدغة المشاعر لكي تتقبل التعديل السييء الذي أطلق المدد التي يجوز أن يبقي فيها رئيس الجمهورية في منصبه".
عظيم جدا! لكن إن كان الأمر كذلك، فلماذا التشبث بها بالصورة العُصابية التي تجعل منها أمر حياة أو موت؟
ويضيف د. الجمل أنه "في تعريف هذه المبادئ قالت المحكمة الدستورية: إنها المبادئ قطعية الثبوت قطعية الدلالة، والحقيقة أن المبادئ التي ينطبق عليها الوصف - عدا العبادات ـ نادرة جداً، ذلك أن المذاهب الفقهية متعددة والاجتهادات كثيرة والقطعي الثبوت والدلالة أندر من الندرة".
وبدلا من النجاح في التهوين من أثر تلك المادة، نجد أنفسنا أمام متاهة لا مخرج منها تفتح الباب أمام كل من هب ودب لأن يتفيقه بالطريقة التي تعجبه طبقا لمشاعره السياسية وقت التفقه. أيُّ دستورٍ هذا الذي يرتكن إلى أمور غامضة بهذا الشكل لمجرد تأكيد مبدأ سيادة عقيدة الأغلبية وبعد ذلك فليأت الطوفان؟ وما المانع من النص الواضح على مباديء محددة مثل تلك التي عرفتها واستقرت عليها الشعوب المتحضرة يرتكن إليها الدستور، وبدون داع للالتفاف بعباءة الشريعة الفضفاضة؟
يقول الأستاذ فهمي هويدي (الأهرام 27 فبراير) أنه "أثناء حوار مع الدكتور كمال أبوالمجد حول دعوة البعض إلي إلغاء أو اضعاف المادة الثانية من الدستورrlm;،rlm; التي تنص علي أن الإسلام دين الدولةrlm;..rlm; إلخ، سمعته يطرح السؤال التاليrlm;:rlm; هل حدث خلال الثمانين عاما الماضية أن عطل وجود تلك المادة أي محاولة للإصلاح أو التقدم في أي اتجاه؟"
وفي هذا الكلام إيحاء بأن "الخ" هنا تعني أن مباديء الشريعة الإسلامية كانت "المصدر الرئيسي" طوال الثمانين عاما الأخيرة، وهذا بالطبع غير صحيح لأنها أُدخلت سنة 1980. وهنا نطرح السؤال بصورة معكوسة: هل خلال القرنين الماضيين منذ أن بدأ محمد على مسيرة الدولة المدنية الحديثة كان "عدم النص" على الشريعة بالصورة الحالية سببا في أن يفقد المسلمون المصريون هويتهم ليصبحوا بوذيين أو هندوكيين أو ـ والعياذ بالله ـ نصارى؟
على أي حال، لا بد هنا أن نُذكّر بالتالي حول تأثير المادة الثانية استنادا إلى مذكرة "لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان" (الذي يرأسه الأستاذ بهي الدين حسن) بتاريخ 12 فبراير حول التعديلات الدستورية:
[أن النص القاضي بأن مبادئ شريعة دين محدد هى المصدر الرئيسي للتشريع (كان له) انعكاسات وخيمة على إعمال الحق في المساواة ومبد أ المواطنة. فضلا عن استناد منابر وجماعات التطرف الديني لهذه المادة لبث دعايات مسمومة، بلغت حد الدعوة في كتاب صادر عن وزارة الأوقاف باستباحة أملاك وأموال ودماء أتباع الديانات والعقائد الأخرى. فضلا عن غزو دعاوى وممارسات التطرف الديني المجالات الحيوية في المجتمع، من تعليم وإعلام واقتصاد -بما في ذلك أعمال البورصة والبنوك ـ وأحكام القضاء وحريات الفكر والإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي.
لقد فشلت كل محاولات ووعود الدولة في العودة لموقع الحياد بين الأديان ومواطنيها، فلا يزال التمييز قائما وانحياز الدولة ماثلا في كثير من المجالات، مثال بناء مقار العبادة وتولي الوظائف الكبرى والخطاب الإعلامي ومناهج التعليم وغيرها. إن ممارسات عدة عقود من الزمان، تبرهن على استحالة عودة أجهز ة الدولة عن انحيازها لدين معين ومواطنيها المؤمنين به، على حساب بقية المواطنين، في ظل استمرار الصيغة الحالية للمادة الثانية].
[إن النص الدستوري بهذه الصيغة تجاهل وجود عقائد وأديان أخرى في المجتمع المصري، لها أحكامها الخاصة، الأمر الذي يشكل تدنيا من شأنها، و ممن يؤمنون بها من المواطنين. وهو أمر له انعكاساته في الحياة الاجتماعية والسياسية اليومية وفي أحكام المحاكم، وفي تعميق الشعور بالتهميش والظلم لدى أتباع الديانات والعقائد الأخرى، وبالعجرفة وازدراء الآخر لدي الطرف الآخر].
***
وما زال هناك المزيد، فإلى مقال قادم.

adel.guindy@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف