محنة وامتحان الائتلاف الشيعي الحاكم في العراق (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بعد أيام قليلة من الآن ستكون أربع سنوات قد مرت على حدوث الزلزال الأميركي الذي شهده العراق في التاسع من نيسان عام 2003، وما يزال يقذف بحممه التي لا يبدو أنها ستتوقف في المدى المنظور، والذي ما يزال يأتي بمفاجأت وبمستجدات ومتغيرات متلاحقة داخل العراق، وفي محيطه الإقليمي، بل وأبعد من ذلك.
واحدة من النتائج الكبرى لهذا الزلزال هي، أنه غير، ولأول مرة في التاريخ، ميزان العلاقة بين العراقيين الشيعة وبين السلطة السياسية. وعندما يقول زعماء العراقيين الشيعة الذين يديرون ألان شؤون الدولة، بأنهم أمام تجربة تاريخية يعيشونها لأول مرة في التاريخ، فهم لا يتجاوزن كثيرا وقائع وحقائق تاريخ العراق والتاريخ العربي الإسلامي.
العراقيون الشيعة: من "التقية" إلى صناعة القرار
الزلزال الأميركي، حول العراقيين الشيعة (وبالطبع، يقال الشيء نفسه عن أكراد العراق وباقي الأقليات، لكننا نتحدث، الآن، حصرا عن العراقيين الشيعة)، لأول مرة في تاريخهم، من مهمشين، إلى صناع قرار، ومن مجموعة بشرية مشكوك في ولائها، إلى حكام يملكون ويمارسون "سلطة" الشك بولاء الآخرين، ومن رجال فكر "يمتهنون" الاستكانة السياسية، ويتذرعون ب"التقية"، بديلا عن الجهر بآرائهم ومواقفهم، خوفا من المجابهة غير المتكافئة، إلى صناع مشاريع إستراتيجية علنية، وصناع مستقبل لهم ولللأخرين.
نعم، هذا الانتصار الشيعي لم يتم، فقط، بفضل جهود ذاتية من العراقيين الشيعة، بل بالإمكان القول إنه لم يتم بجهود العراقيين الشيعة، قط. وهو لم يتم، بأي شكل من الأشكال، بمساعدة من الجمهورية الإسلامية "الشيعية" في إيران، وهو لم يتحقق بفضل مبادرة من النظام العربي الرسمي القائم، ولا بفضل جهود العالم الإسلامي. إنه تحقق نتيجة، أو بفضل التدخل الأميركي في العراق. وكل محاولات العراقيين الشيعة التي بذلت، على امتداد التاريخ، للاعتراف بهم، كلاعبين أساسيين، فشلت. وكانت تلك المحاولات، سواء طوال حكم الخلافة الإسلامية أو بعد انتهائها وظهور الدولة القومية، قد توسلت بطرق شتى، نذكر منها بعض شذرات، ليس إلا.
فقد توسل العراقيون الشيعة بوسيلة الدين، باعتبارهم مسلمين لا يختلفون عن غيرهم من بقية المسلمين إلا في بعض التفاصيل، لكنهم لم يجدوا اعترافا بهم.فعلى امتداد حكم الخلافة الإسلامية ظل أتباع المذهب الشيعي ينظر إليهم بريبة، حتى لا نقول ظلوا مطاردين. وفي أحسن الأحوال كان التعامل معهم يعتمد على مزاج الحاكمين. فعندما يكون الحاكم متساهلا معهم، كعمر بن عبد العزيز أو كالمنتصر، مثلا، عطف عليهم وأحسن إليهم. وعندما يكون الحاكم عكس ذلك، كالمتوكل على سبيل المثال، عمد إلى "كرب" قبر إمامهم الحسين، "وعفى أثاره، ووضع على سائر الطريق مسالح، لا يجدون أحدا زاره إلا أتوه به، فقتله، أو أنهكه عقوبة" (مقاتل الطالبين 997، وفوات الوفيات 1/203، وتاريخ الخلفاء 347، والطبري 9/185 )، حتى أصبح اتهام الإنسان بالتشيع في أيام المتوكل، كافيا لقتله (وفيات الأعيان 5/340). وفي العصور الحديثة، فأن الموقف إزاء الشيعة لم يتغير كثيرا. وباستثناء محاولات ايجابية صدرت من الأزهر، ظل تكفير أتباع المذهب الشيعي هو الرأي السائد، حتى هذه اللحظة. وبعد انتهاء حكم الخلافة عام 1922 وظهور الدولة-الأمة Etat-nation، بمفاهيمها الحديثة، كالوطن والمواطنة والحدود الجيوبوليتكية والهوية الوطنية، تحول الشيعة، في بعض الدول التي ظهرت حديثا (والعراق أحد هذه الدول، وهو لب موضوعنا) من أقلية عددية إلى أكثرية.
ونحن هنا، وفيما يخص هذه السطور، ليس غرضنا، بأي شكل من الأشكال، التأكد إن كان المذهب الشيعي من المذاهب الإسلامية النقية الصافية كما يقول أتباعه، أو من المذاهب المارقة، كما يقول خصومه. ونحن لا نهدف لإجراء مفاضلة بين المذهبين، ولا معرفة أيهما على حق. ما يهمنا هو، القول أن الدولة القومية الحديثة (ومرة أخرى نقول إننا نتحدث عن العراق، حصرا) التي يفترض أنها تأسست على أساس واحد هو، أساس المواطنة، لم تنقل المواطنين العراقيين الشيعة من الهامش، إلى المتن، بشكل يناسب قوتهم العددية داخل وطنهم العراق، رغم ما بذله العراقيون الشيعة من محاولات انفتاحية، توحيدية، وطنية وقومية.
الدولة العراقية الحديثة لم تنصف أبناءها
فبعد أن دافع العراقيون الشيعة وباستماتة، عن بيضة الإسلام، دعما للخلافة العثمانية حتى وهي سنية، وحتى وهي تعيش رمقها الأخير، وشنوا الجهاد ضد المحتلين الإنكليز(بعض رجال الدين العراقيين الشيعة تحولوا مع أبنائهم، وقتها، إلى قادة عسكريين ميدانيين، حتى أن عدد قوات العشائر التي كانت تحت سيطرة رجال الدين الشيعة، في معركة الشعيبة ضد القوات البريطانية، كانت أكثر من عدد قوات العثمانيين)، وقبلوا، بعد ذلك ب"اللا عراقي" فيصل الأول ملكا على العراق (أو لنقل، قبله بعضهم)، لأنه يكفي أن يكون، كما قال الشيعة وقتها "ملك عربي مسلم"، فأنهم لم يحصلوا من دولة فيصل الأول العراقية "الحديثة"، غير التهميش الذي ظهرت بوادره في وزارة النقيب الأولى، وامتد حتى عام 1958. فخلال هذه الفترة لم يصل إلى رئاسة الوزارة سوى أربعة من العراقيين الشيعة من مجموع كل الوزارات التي تم تأليفها. واستمر هذا التهميش حتى لحظة سقوط النظام الصدامي على أيدي القوات الأميركية.
جعفر أبو التمن
الوسيلة الثالثة التي توسل بها العراقيون الشيعة لنزع الاعتراف بهم هي، آلية وأدوات ومؤسسات المجتمع المدني الحديثة، خصوصا الأحزاب السياسية العلمانية الوطنية، وليست الدينية الطائفية. فمنذ السنوات الأولى لتأسيس الدولة العراقية الحديثة، كان العراقيون الشيعة روادا في تأسيس الأحزاب والتجمعات والحركات السياسية، ذات الهوية العراقية الوطنية. فما كاد العقد الأول من القرن الماضي ينتهي حتى لمع اسم السياسي الأشهر، جعفر أبو التمن، الذي يمكن اعتباره "أب الأحزاب" العراقية الحديثة. وسواء خلال نشاطه في جمعية "حرس الاستقلال" أو خلال "الحزب الوطني" الذي شكله عام 1922، فأن جعفر أبو التمن قدم نفسه كوطني عراقي، وليس كشيعي. وبهذه الصفة الوطنية العراقية نشط أبو التمن باتجاه توحيد العراقيين، سوية مع أشقائه و مواطنيه وزملائه في الحزب الوطني من العراقيين السنة.
العراقيون الشيعة واليسار الماركسي
وبعد الحزب الوطني، توسل العراقيون الشيعة بأفكار اليسار الماركسي. ومنذ أن تشكلت النواة الأولى للحزب الشيوعي في مدينة الناصرية جنوب العراق، شارك في نشاط هذا الحزب أهالي الجنوب والفرات الأوسط، بما في ذلك المدن الشيعية المقدسة، وحتى المدن ذات الغالبية الشيعية في المنطقة الغربية، كالدجيل وبلد، حتى كادت هذه المناطق كلها أن تتحول، لاحقا، إلى مناطق مقفلة على الشيوعيين. وحرص الشيوعيون العراقيون، منذ اللحظات الأولى لتأسيس الحزب إلى جعله حزبا وطنيا عراقيا، هدفه إشاعة روح العدل الاجتماعي، اعتمادا على معيار المواطنة وحده، ونشر أفكار الحداثة في الميدان الثقافي، ودعم الأفكار العلمانية، سوية مع احترام القيم الدينية.
لكن، بعد انتصار ثورة 14 تموز عام 1958، برزت إلى السطح، حتى قبل أن ينقضي عام واحد على الثورة، خلافات عميقة. تلك الخلافات لم تكن سياسية خالصة، ولا طبقية فحسب، وإنما كانت ذات أبعاد مذهبية وطائفية (سنعود إلى توضيح هذه المسألة بالتفصيل في مناسبة قادمة). فمنذ الأيام الأولى التي أعقبت نجاح الثورة ظهرت متغيرات جديدة، كانت تؤشر إلى بدء تغيير "الكوتا" التي أسست لها وزارة النقيب الأولى، سواء على الصعيد المدني أو الجهاز الإداري، أو فيما يخص تركيبة المؤسسة العسكرية. وبسبب ذلك انبرى "العقل" القومي العربي الإسلامي التقليدي داخل العراق للوقوف ضد ذاك التغيير. ثم سار العقل العربي في كل البلدان العربية، تقريبا، داعما ومؤيدا لمواقف القوى القومية في العراق. وبسبب تلك المواقف المناهضة للثورة، انقسم العراق، (تماما) مثلما هي الحال الآن: أكثرية العراقيين مع التغيير الجديد، وأقلية ضده. أقول جيدا،تماما: أي نفس المحافظات الرافضة للتغيير، ونفس المناطق المتمردة داخل العاصمة، ونفس الشعارات الاتهامية الإقصائية التحقيرية المرفوعة الآن: شعوبيون، عملاء للأجنبي، خونة العروبة. ولم يهدأ بال للعقل العربي إلا بعد الانقضاض على تجربة ثورة 14 تموز في 8 شباط عام 1963.
البعثيون "الروافض"
وبموازاة نشاطهم في التيار الماركسي، نشط العراقيون الشيعة في تأسيس الأحزاب القومية العربية، التي نشطت باتجاه تحقيق الوحدة العربية، باعتبارها حلم العرب الأكبر. فالعراقيون الشيعة هم الذين أسسوا أولى نواتات حزب البعث العربي في العراق، وساهموا في هيئاته القيادية (فؤاد الركابي وسعدون حمادي، هاني الفكيكي، حميد خلخال، محسن الشيخ راضي، طالب شبيب، تحسين معلة، الخ). وبفضل جهود هولاء وصل البعث إلى السلطة في 8 شباط/فبراير عام 1963. لكن، حالما أوصل هولاء البعث إلى السلطة في عام 1963 وخاضوا معارك دامية، حتى ضد أبناء طائفتهم المختلفين معهم، استنفرت، من جديد، المؤسسة العسكرية العراقية، الحارسة الوفية للتفكير العربي القومي الإسلامي السائد، كل جهودها للإطاحة بهم والتخلص منهم. ولم يكن ذلك الموقف سياسيا خالصا. فقد ظل رئيس الجمهورية، الجنرال عبد السلام عارف، وهو الأبن البار لمنظومة التفكير العربي الإسلامي السائد، يعير البعثيين الشيعة، علانية، بأنهم "روافض"، رغم أن هولاء "الروافض" هم الذين التقطوا عبد السلام عارف من على قارعة الطريق السياسي، وجائوا به إلى السلطة ( مقولة الروافض رواها القيادي البعثي المرحوم هاني الفكيكي في كتابه "أوكار الهزيمة"). وعلى غرار ما حدث بعد ثورة 14 تموز، عندما قوضت المؤسسة العسكرية حكم عبد الكريم قاسم، بعد أن أيقنت أن "كوتا" حكومة النقيب في طريقها إلى الزوال، فأن نفس المؤسسة العسكرية، وهذه المرة بقيادة عبد السلام عارف وأحمد حسن البكر، بادرت في 18 تشرين 1963 للتخلص من "الروافض" البعثيين، الذين كانوا يشكلون الجناح المدني في حزب البعث. وما حدث في 18 تشرين 1963 كان إيذانا بتحول نوعي في التركيبة الداخلية لحزب البعث. فبعد أن كان البعثيون الشيعة يشكلون في الفترة 1952-1963 أكثر من نصف أعضاء القيادة القطرية، فأن هذه النسبة انخفضت إلى (6) ستة في المائة في الفترة 1963-1970 ( نقلا عن: بير- جان لويزار، المسألة العراقية "النسخة الفرنسية ص78").
"اليوم انبثق فجر الوحدة الإسلامية"
الطريق الأخر الذي سلكه العراقيون الشيعة، وهذه المرة للتأكيد على مواقفهم القومية العربية والتضامن مع أشقائهم العرب هو، طريق قضية العرب الكبرى، أي القضية الفلسطينية. ففي عام 1930 لبى المجتهد الأكبر حسين آل كاشف الغطاء دعوة المفتي أمين الحسيني لحضور المؤتمر الإسلامي في القدس. وهناك صلى أعضاء المؤتمر مرتين بإمامة كاشف الغطاء، وقال ساعتها الزعيم الرئيس رياض الصلح قولته الشهيرة: " اليوم انبثق فجر الوحدة الإسلامية". وما كان موقف آل كاشف الغطاء موقفا شخصيا، إنما كان يعبر عن موقف الشيعة كلهم. إذ عقب تقسيم فلسطين عام 1947 أصدر آية الله السيد أبو القاسم الكاشاني في 1/1/1948 بيانا أوضح فيه مقدار الظلم الذي لحق بالفلسطينيين وبالعرب وبالمسلمين. وقاد الكاشاني تحركات شعبية واسعة ضد بريطانيا دعما للشعب الفلسطيني. وكان المرجع الديني آية الله العظمى السيد البروجردي قد دعا إلى تأييد نضال الفلسطينيين. ومثله كان آية الله العظمى الخوانساري، عندما وجه رسالة إلى رئيس وزراء إيران وقتذاك دعاه فيها إلى مساندة الشعب الفلسطيني، وبعد عامين أعتبر اعتراف حكومة الشاه بإسرائيل 1950 خيانة للإسلام والمسلمين.
الجواهري وساطع الحصري
الطريق الأخر الذي سلكه العراقيون الشيعة لنزع الاعتراف بهم هو، خدمة لغة الضاد وإثراء آدابها. فحالما اكتملت عبقرية أبن مدينة النجف وسليل عائلة قدمت خدمات كبرى للغة الضاد، والمولود أب عن جد في العراق، الشاعر محمد مهدي الجواهري، وأرادت مدينته النجف أن تزفه "هدية" إلى لغة الضاد، من عاصمة الخلافة العباسية بغداد، باعتباره "متنبي" العرب الجديد، فان العقل العربي القومي السائد، بشخص "أب القومية العربية"، الأستاذ ساطع الحصري المولود في اليمن والسوري الجنسية، بادر إلى وأد ذاك الإنجاز الأدبي العربي البارز، عندما عمد الحصري إلى "قتل" الجواهري روحيا، وطعنه، ليس في موهبته الشعرية، ولا في عراقيته فحسب، وإنما في عروبته، أيضا.
بالطبع، لم تكن تلك المواقف التي اتخذها العراقيون الشيعة مجرد مكائد أو حيل براغماتية لتحصيل مكاسب عابرة، وإنما كانت مواقف مبدأية، تصدر عن قناعات راسخة. فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة كانت مخيبة، إن لم تكن مرة كالحنظل. وما قاله الرئيس رياض الصلح عن "فجر الوحدة الإسلامية" الذي رأى انه انبثق خلال مؤتمر القدس عام 1930، ظل، مع الأسف، مجرد أمنية. فالسنوات التي تلت، أظهرت، وحتى يومنا هذا، أن الوحدة الإسلامية تظل قائمة إذا رضى الشيعة بتهميشهم. إما إذا طالبوا بدور رئيسي داخل متن المعادلة، عدت مطالبتهم "فتنة" وطعنا وشقا لوحدة المسلمين، وعندها يتحول الشيعة إلى "طابور خامس".
"السم الناقع"
إن ما قلناه، هنا، ليس مجر اتهامات، ولا هي من صنع خيال مريض ومجرد أوهام، وإنما هي حقائق و قناعات راسخة، جعلها الذين يؤمنون بها، منهاج عمل يصرون على تطبيقه. ولو أن أي شخص يتمتع بقليل من الموضوعية والحياد، دقق في ما يجري في العراق هذه الأيام، أي منذ الإعلان عن تطبيق الخطة الأمنية الجديدة، لتأكد من صحة ما نقوله. فالعمليات الانتحارية التي تتم هذه الأيام لا يمكن تبريرها، ولا يمكن وصفها إلا بأنها إبادة لجنس من البشر، ليس لأي سبب سوى كونهم شيعة. فهذه العمليات لا تستهدف القوات الأميركية، أو قوات الشرطة، ولا تستهدف مقرات ورؤساء الأحزاب الشيعية، وهي ليست ردا على هجمات تشنها المليشيات الشيعة أو فرق الموت، فهذه الأخيرة كفت عن نشاطها بعد تطبيق الخطة الأمنية، أو على الأقل اضطرت، أو تظاهرت بالانسحاب. هذه العمليات استهدفت، وما تزال، قتل العراقيين الشيعة، حصرا.
قد يقال إن هذه العمليات هي من صنع تنظيم القاعدة الذي يكفر كل من يختلف معه، بما في ذلك المسلمين السنة. هذا صحيح. ولكن هذه العمليات لم تجد لها شجبا جماهيرا شعبيا ورسميا، حاسما وقاطعا، داخل وخارج العراق من المسلمين غير الشيعة.
لقد وصف الزرقاوي (وكان ذلك قبل تفجيرات سامراء، وقبل ظهور فرق الموت، وقبل عمليات التهجير الطائفي المتبادل) في رسالته الشهيرة لمريده بن لادن، العراقيين الشيعة بأنهم "السم الناقع"، وطالب بشن حملة إبادة لحرق نسلهم وحرثهم. وكان الافتراض، وقتها، أن ما قاله الزرقاوي لا يعبر إلا عن وجهة نظره ووجهة نظر تنظيم القاعدة. لكن وقائع الأمور التالية، وما صاحبها من تصريحات ومواقف ضد العراقيين الشيعة، من قبل رجال دين مرموقين، ومنظمات مجتمع مدني، وحكام، ونخب ثقافية، وكذلك إقامة مجالس عزاء بعد مقتل الزرقاوي، ترحما عليه، وكذلك استمرار تدفق الانتحاريين الداخلين إلى العراق لتفجير أنفسهم في أماكن وتجمعات العراقيين الشيعة، وما توحي به وسائل الإعلام العربية من تحريض، كشفت أن ما قاله الزرقاوي، لا يمثل وجهة نظر تنظيم القاعدة فحسب، و إنما يعكس، إلى حد كبير، نمط تفكير سائد في العالمين العربي والإسلامي. وما زالت الشتائم القديمة إياها تتكرر، ضد العراقيين الشيعة: شعوبيون، صفويون، أبناء متعة، أحفاد العلقمي، طابور خامس، يريدون سلخ عروبة العراق، مثيرو فتن واضطرابات... الخ. وعندما يتم الاعتراض ضد هذه الشتائم النازية، فأن الجواب يكون: إن القصد منها هو قيادات الأحزاب الشيعية الحاكمة، وكأن هذه القيادات وصلت إلى السلطة بمؤامرة عسكرية، ولم يتم انتخابها بطريقة ديمقراطية، حتى لو سجلنا ألف مثلبة ضد هذه الانتخابات.
ما الذي كان على العراقيين الشيعة أن يفعلوه؟
حسنا، ما الذي كان يفترض أن يفعله العراقيون الشيعة، إزاء كل ما ذكرناه، وها هم يروون نظام صدام حسين يسقط بأيدي القوات الأميركية في 09/4/2003؟
هنا، سيعترض معترضون قائلين إن تعبير "سقط بأيدي القوات الأميركية" غير صحيح. ليكن. وسنعيد السؤال بالصيغة التالية: ماذا كان يتوجب على العراقيين الشيعة أن يفعلوه عندما غزت القوات الأميركية العراق واحتلته؟
نعم، ما الذي كان على العراقيين الشيعة أن يفعلوه؟
ما كان أمامهم سوى خيارين: أن يقاوموا القوات الأميركية، مثلما فعلوا ضد القوات البريطانية في عشرينيات القرن الماضي، أو يلتزموا موقف الانتظار السلبي، انتظارا لما يحدث لاحقا.
ولقد أصبح معروفا للجميع أن خيار الانتظار هو الذي تمسك به العراقيون الشيعة. ولكن خيار الانتظار وتفادي المواجهة، عسكريا، بوجه القوات الأميركية، لم يكن خيار العراقيين الشيعة وحدهم، وإنما كان الطريق الذي سلكه وتبناه العراقيون كلهم: سنة وعرب وأكراد وتركمان ومسيحيون، في المنطقة الجنوبية والغربية والشمالية. ولم يصدر من أي جهة دينية عراقية سنية، كمؤسسة أو كأفراد، فتوى أو تصريح أو موقف، للحث على مقاومة القوات الأجنبية التي دخلت العراق، ولم يصدر أي موقف مماثل لعشيرة أو تحالف عشائر في المنطقة الغربية والشمالية. وإن كان لا بد من الحديث عن مواجهة عراقية مسلحة بوجه القوات الأميركية عندما دخلت العراق، فأن تلك المقاومة حدثت، أول ما حدثت، في المنطقة الجنوبية (الفاو والناصرية)، ولم تحدث، بأي شكل من الأشكال في المنطقة الغربية أو الشمالية. وإذا كانت القوات الأميركية قد واجهت مقاومة، ولو بسيطة في الجنوب، فأنها لم تواجه مقاومة، مهما كان نوعها في المناطق الغربية والشمالية. فقد استسلمت القوات العراقية في الموصل وفي الرمادي بطريقة هادئة تماما، وتمت عمليات التسلم والتسليم بين القوات العراقية من جهة، وبين القوات الأميركية في الرمادي والموصل، دون أن تنطلق رصاصة واحدة. والمعروف أن بعض الشخصيات الأكثر حماسا، الآن، في دعمها للمقاومة، والأشد رفضا للعملية السياسية، كانت قد دخلت العراق مع دخول القوات الأميركية، ولم يكن حماسها للتغيير وقتذاك، أو تبرير "تخندقها" مع الأميركيين، أقل من حماسها للدفاع عن المقاومة، حاليا. وعلى سبيل المثال، فأن السيد مشعان الجبوري، رئيس قائمة المصالحة والتحرير في البرلمان العراقي وصاحب قناة الفضائية المؤيدة، هذه الأيام، بشدة للمقاومة العراقية، كان قد سؤل آنذاك: "لماذا تتهم بأنك مقرب من القيادة الأميركية لحد وصفك بالعمالة الكاملة لها؟"، فكان جوابه: " أنا صديق للقيادة الأميركية... وعندما التقت مصالحي ومصالح الشعب العراقي مع أميركا أيدناها في حربها... ضمن هذا التصور أخذت قراري لأكون ضمن خندق الولايات المتحدة وأن ادخل معهم العراق". ( الشرق الأوسط اللندنية في 25/مايو-آيار/2003). ونحن لا نعلم إن كان هناك عراقي شيعي، من رجال الدين أو المدنيين قد صرح بأقوال مشابهة لهذه الأقوال.
لماذا لم يلتحق العراقيون الشيعة بالمقاومة؟
بالطبع، سيقول البعض، هنا، ولماذا لم يلتحق العراقيون الشيعة بـ"المقاومة" المسلحة التي ظهرت بعد سقوط النظام البعثي؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن أول من نادى ب"المقاومة" هو صدام حسين بعد هروبه وتخفيه، ومعه من أيده من أعضاء البعث من الجهاز المدني أو الأجهزة الأمنية والعسكرية. فهل كان ينتظر من العراقيين الشيعة، بل من كل العراقيين أن يلتحقوا بصدام حسين؟ إنهم لو فعلوا ذلك، فلن يكونوا سوى مازوشيين، أو مجانين. فقد كان نظام صدام معزولا عزلة تامة عن مجموع الشعب العراقي، ولا يعتمد في ديمومته إلا على أفراد من عشيرته، حتى لا نقول عائلته الخاصة، ويديم حكمه بوسائل قمعية قل نظيرها في العالم كله. لقد كان نظام صدام حسين "مفرمة" بشرية بحجم العراق كله، طحنت، رغم أن أدواتها أصابها الصدأ والتآكل، عظام كل من يخالف صدام الرأي، فهل كان من المتوقع أن يدافع عراقي، يحتفظ بذرة من العقل، عن تلك الآلة الجهنمية التي كان أسمها حكم البعث !
ومع صدام حسين ومؤيديه، التحق، بعد ذلك تنظيم القاعدة الذي لم يكف يوما واحدا عن التأكيد على أن هدفه هو إبادة العراقيين الشيعة. وحتى التنظيمات العراقية التي التحقت ب"المقاومة" المسلحة، والتي بدأت تعلن عن نفسها تباعا، فأنها ليست، مع الأسف، أحسن حالا من تنظيم القاعدة في ما يتعلق بالموقف التكفيري ضد العراقيين الشيعة، وها هي هذه التنظيمات تواصل نشاطها سوية مع تنظيم القاعدة، ولم تقم بأي جهد لتكفيره، أو حتى الاعتراض ضده، فيما يتعلق بموقفه التكفيري إزاء العراقيين الشيعة.
وحتى عندما شكلت الولايات المتحدة مجلس الحكم المؤقت، فأن العراقيين الشيعة شاركوا فيه جنبا إلى جنب مواطنيهم السنة. فكان الأستاذ محسن عبد الحميد، رئيس الحزب الإسلامي، عضوا في مجلس الحكم، تماما مثلما كان عضوا في ذلك المجلس، السيد عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، على سبيل المثال، لا الحصر.
ومع ذلك، فقد وجد زعماء العراقيين الشيعة أن مجلس الحكم لا يلبي ولا يتسع لطموحاتهم، فطالبوا، وكان المرجع الشيعي علي السيستاني سباقا في تلك المطالبة، بإجراء انتخابات عامة، وكان ذاك من حقهم تماما. وإذا كانت الانتخابات الأولى عرجاء، لعدم مشاركة العراقيين السنة فيها، فأن ذاك "العرج" زال عندما شارك العراقيون السنة في الانتخابات الثانية، وأوصلوا من يرغبون إلى مقاعد البرلمان. وسيكون لغوا سياسيا، لو قلنا أن "قسم" من العراقيين السنة شاركوا في تلك الانتخابات. لا، جميع العراقيين السنة شاركوا فيها،بل أن تلك الانتخابات ما كان بإمكانها أن تتم بالطريقة الناجحة التي تمت فيها، لولا مشاركة الجماعات المسلحة، أو المقاومة المتواجدة في المناطق الغربية، حيث حمت تلك الجماعات بنفسها صناديق الانتخابات، وضمنت بدء واستمرار العملية الانتخابية. وما يزال، حتى هذه اللحظة، أعضاء قائمة الإتلاف، وجلهم يعارضون العملية السياسية، يمارسون نشاطهم البرلماني، سوية مع بقية أعضاء القوائم الانتخابية الأخرى، ويشاركون في الحكومة.
ومرة ثانية نقول، هل ما سردناه من حقائق تاريخية قديمة وحديثة، ومن وقائع وأحداث جرت بعد سقوط نظام صدام حسين، مجرد تهويمات من صنع خيالنا، أم هي حقائق؟ لا، إنها حقائق. والاعتراف بهذه الحقائق لا يتطلب سوى أن يكون الإنسان مراقبا محايدا. والاعتراف بهذه الحقائق لايعني، بالضرورة، انحياز قائلها للمذهب الشيعي أو للمذهب السني، أو المفاضلة بين المذهبين. وهذه الحقائق لا يتطلب الاعتراف بها وقبولها أن يكون الإنسان مؤيدا أو رافضا لأداء النخب العراقية الشيعية الحاكمة الآن في العراق. والاهم من ذلك، فإن الاعتراف بهذه الحقائق لا يعني، بأي حال من الأحوال، منح الإتلاف الشيعي الحاكم تفويضا غير مشروط لحكم العراقيين، والموافقة على كل ما فعله زعماء الإتلاف، وعدم مسائلتهم.
المطالبة بعودة المستحيل لا توقف نزيف الدم
ولكن المسائلة التي نعنيها لا تعني تجاهل ما حدث من أوضاع في العراق بعد التاسع من نيسان 2003 والعودة إلى المربع صفر، أي إلى المعادلة التي كانت قائمة قبل هذا التاريخ. هذا أمر مستحيل. تلك معادلة ماتت وشبعت موتا، ومن يطالب بعودة هذا أل"مستحيل"، فإنما يريد أن يظل العراق غارقا بدماء بنيه. المساءلة التي نعنيها تهدف إلى وضع الإئتلاف الشيعي الحاكم أمام مسؤولياته، كقوة سياسية تتمتع بالأكثرية البرلمانية.
لقد مرت أربع سنوات على سقوط نظام صدام حسين. وخلال هذه السنوات الأربع، كانت الصولة والجولة لأحزاب الإئتلاف الشيعي الحاكم وحدها، وبدون منازع تقريبا، في مناطق واسعة من البلاد، سواء بتحكمها، منذ الأيام الأولى، بسلطة الشارع، في كل المناطق التي تواجدت فيها هذه الأحزاب، أوبعد ذلك في مجلس الحكم المؤقت، وبعده في المشاركة في حكومة الدكتورعلاوي، وأخيرا بعد وصولهم إلى الحكومة الحالية عن طريق الانتخابات. فماذا كانت النتائج، وماذا قدمت هذه القوى من منافع ومنجزات، للعراقيين الشيعة، أولا، التي تقول هذه القوى أنها خلقت دفاعا عن مصالحهم، وماذا قدمت لعموم العراقيين، ثانيا، التي تقول هذه القوى أنها تدافع عن مصالحهم الوطنية، جميعا؟
ثم، إن هناك أسئلة واستحقاقات إستراتيجية، يتوجب على الإتلاف أن يجيب عليها وأن يحسمها، فهل أثبت الإتلاف قدرة على مواجهتها، أم أنه ما يزال يتبع سياسية المراوغة والتأجيل والتملص من مواجهتها؟
يتبع