رحلة إلى الجنة المؤنفلة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1
باليسان 1987. إنه إسمُ مكان وتاريخه ؛ إسمٌ مجهول تقريباً، مع ما تصرّف عنه من مقدمة لأحد أكثر الأفعال همجية ً، في تاريخنا المعاصر : مكانٌ مسحورٌ، كرديّ في نسبه ؛ وزمنٌ مدحورٌ، عروبيّ النسب. من هنا إذاً، أبتدِهَتْ حملة " الأنفال "، سيئة الصيت، التي شاءَ التكريتيّ وإبن عمه، الكيماويّ، أن تكون فاتحة إبادة عنصرية، شاملة، متسترة تحت جنح ظلمة الحرب مع إيران. هنا أيضاً، أضحى أحدُ العلوم، الأكثر إيثاراً في عصر الحضارة الإسلامية، لقباً لمجرم عتيّ، شبه أمّي. وكذا هوَ أمرُ إحدى السور القرآنية، الكريمة، التي جعلها المستبدّ المسوخُ عنواناً للحملة تلك، المنتمية لعصر التوحّش البشريّ. من سورة الأنفال إلى سورة الكيمياء، مرّ التاريخُ عاصفاً على سيرة أسلاف الكاردوخ ؛ أهلُ الجبل الكريم، هذا. ما كان لوليّ الأمر ـ كذا، أن يتبصّر آنذاك في مدى أفعاله الإجرامية، وما يمكن أن تعكسه على مستقبل العلاقات بين الشعبيْن، الجارَيْن، في موطن الرافدين. ولكن بحسب معتقد الصوفية، فالله لا يتخذ ولياً جاهلاً، إلا عبرة ً حسب. لذلك ما كان للطاغية ـ على ما هوَ عليه آنئذٍ من جهالة، موصوفة ـ سوى أن يحسبنّ الزمنَ وقد تسمّر في موضع مقبرته، الجماعية : ما كان يخطر لغروره قط، أنّ الزمن سيدور في دورته، المعتادة، مبتزغاً منه الربيع القيامة ؛ وأنّ ذلك الموضع القبر، تحديداً، سيصير لاحقا مستقرَ مصير نظامه المستبد، المحتوم.
2
إتفاقا ولا ريب، قدّر لسعود حظي أن يكون الربيعُ موعداً لرحلتي الأولى، الكردستانية. كان ذلك في نيسان، من العام الفائت ؛ الشهر الموافق لإنتهاء رأس السنة الكردية، والمصاقب لمبتدأ السنة الرافدية ؛ الشهر البهيّ، الجامع لأعياد العراقيين على إختلاف مللهم ونحلهم، وخصوصاً عيد تحرير بلادهم من حكم الطاغية في التاسع منه. من شرفة حجرتي، الحجرية المزخرفة، في فندق " برج أربيل "، كان يمكن بيسر إجتلاء مشهد القلعة، المهيبة، المتركنة على أعلى هضبة في عاصمة الإقليم. إنه مشهدٌ رائع، خصوصاً في بكورة الفجر، حينما تشعل شمسُ كردستان، الألقة، الألوانَ المستلقية في رخاء خضرة منحدر تلك الهضبة ؛ ألوانَ زهور الشقائق، الحمر، المكتنفة بأصفر النرجس وأبيض الزنبق. الهضبة نفسها، كان لا بدّ أن تذكرني بالجبال العصية، التي أسحقتْ بعيداً، والمترائية على كل حال من شرفتي ـ كغيمات تائهة. في اليوم الثالث لحلولي هنا، كانت مصادفة لقائنا بأحد الفنانين الكرد، السوريين، فرصة ثمينة لا تفوّت، للخوض عبرَ تلك الجبال، التي أمستْ بالأسطورة أشبه، على مرّ القرون والحقب. من جهتي، كنت بأشدّ الشوق إلى إرتياد الطبيعة البكر، هرباً من كآبة " أربيل " ؛ أو " هَولير "، كما يدعوها السكان : إنها العاصمة العشوائية الطابع، الأقرب صفة ً للقرية الكبيرة منها للمدينة. إنها علاوة على ذلك، مكان منذورٌ للمحافظة والتزمت والعقلية العشائرية، عموماً. ومنظر " أربيل " ينطبق عليه وصف إبن جبير، الرحالة الأندلسي من القرن الثاني عشر للميلاد، حينما كتب في تذكرته عن إحدى شقيقاتها، الكرديات : " وأما المدينة فللبداوة بها إعتناء، وللحضارة عنها إستغناء، لا سور يحصّنها، ولا دور أنيقة البناء تحسّنها، قد ضحيتْ في صحرائها كأنها عوذة لبطحائها ".
3
إلتقينا إذاً بالفنان سعيد غاباري، المطرب المعروف من كردستان سورية، وكان خارجاً للتوّ من مبنى " قصر الفن " ؛ أحد الصروح الثقافية، المميزة، في عاصمة الإقليم. مطربنا هذا، كان وقتذاك يعمل في فضائية التلفزيون المحليّ، مقدماً لبرنامج فلكلوريّ، غنائيّ، ذي شعبية مشهودة في عموم البلاد. إنّ شعبيته مدهشة بحق، ولحظتها بنفسي خلال الطريق الطويل، الجبليّ، حينما كان الأهالي ـ بما فيهم عناصر " البيشمرغة "، على الحواجز الحصينة ـ يوقفون سيارتنا للطلب من الفنان إلتقاط صور تذكارية معه. فضلاً عن موهبته الفنية، كان الرجلُ شخصاً ودود المعشر، ذكيّ الفؤاد، تكاد لا تشعر بصحبته أنه محروم من حاسّة البصر. أصرّ فناننا على دعوتي إلى الغداء في مطعم، قال عنه أنه أجود من يقدّم وجبة الشواء على الفحم. أخذنا حديث التعارف بعيداً إلى الوطن، لأنتبه على حين فجأة أننا نتوغل خارج المدينة، على الاوتستراد الحديث المؤدي إلى " مصيف صلاح الدين ". كان لديّ في كافيتريا الفندق، الأربيلي، موعد ضروريّ مع صديق من الكتاب. ولكن هيهات أن تجدَ أذناً صاغية : " قربان ! أعطني رقم صديقك هذا، وسأعتذر له بنفسي نيابة عنك "، خاطبني " الغاباري " فيما أصابعه تعبث بجهاز الخليوي، منتظراً الرقم المطلوب. عرفتُ من السائق المرح، وكان إيزيدياً من أهالي بلدة " سنجار "، أننا في الطريق إلى " شقلاوة "، التي تبعد قرابة الساعة عن عاصمة الإقليم.
4
ما أن إجتزنا " المصيف "، حتى راحت مركبتنا الصغيرة في الصعود هوناً، متسلقة الطريق الجبلية، الشديدة الوعورة. كان الوقت ظهيرة يوم مشمس، والطبيعة معيّدة حولنا. في هذا الصحو الدافيء، تدفقت على مرّ البصر صورُ القرى المتناثرة في سفوح الوديان أو على الاكام الحالقة. هنا وهناك، كانت البيوت جميعاً حديثة العهد بالبناء نسبياً، مشغولة بقطع الطوب أو البلوك الإسمنتي. فيما الدروب إسفلتية، غالباً. ولا تخلو أي قرية من مسجد دقيق الحجم، ذي مأذنة نحيلة. لون مساجد تلك القرى وطرازها المعماري، ينبينا بأنه ثمة شركة ما ـ قيل أنها خليجية ـ تتعهد بناءها في عموم الإقليم : من هنا إذاً، مرّت سورة " الأنفال "، البعثية، على جثث الأهلين وبيوتهم وحقولهم وينابيعهم.. ومساجدهم أيضاً ! فالقرى كلها، بلا إستثناء، تمت تسويتها بالأرض في تلك الحملة، المسعورة ؛ وهيَ ذي تنهضُ من جديد مع ذكرياتها. ما أن أشرفنا على " شقلاوة "، حتى بدأت عربتنا رحلة إنحدار حادة على الطريق الجبلية تلك. تقع البلدة في جيرة جبل ضئيل القامة، إذا ما قورن بالجيران الجبابرة، المحدقين بها من كل جانب ؛ وأعني بذلك سلسلة جبال " سبيلك "، ويليها " قنديل ". كأنما هذه البلدة، الساحرة، مرآة أرضية للجنة الربانية ؛ بما تحتبيه ربوعها من خضرة وفاكهة وعيون دافقة ومناظر خلابة وفتيات حسناوات. ويبدو أنّ تجنب رجال " البيشمرغة " الإقتراب من القصبات الكبيرة، كان سبباً في نجاة " شقلاوة " وأشباهها، من مصير المناطق المجاورة، المؤنفلة في حملة النظام البعثي، البائد، عامَيْ 1987 ـ 1988 ؛ وخاصة قرى ناحية " باليسان "، التي كانت أولى ضحايا القصف الكيماوي، الأرعن. تسمية البلدة هذه، مشتقة كما أعلموني هنا، من الكلمة الكردية، المركبة " شه قه ل ـ آوه " ؛ وتعني : المبنية من حزم القش. ولا أدري سبباً لبناء البيوت من القش أو الدك، ما دامت الأحجار والصخور متناثرة في كل مكان ؟ وحتى بعدما إنجلى عهدُ العفالقة، الأسود، وباتت كردستان في قبضة أصحابها، فإن بناء القرى المنكوبة، المؤنفلة، ما فتيء يتمّ إعتباطاً، غالباً، ومن تلك المواد الرخصة، البدائية.
5
" شقلاوة " القديمة تلك، أضحتْ مكاناً سياحياً، بحق. إنه مكان للذكرى، أيضاً ؛ بما أنّ المنازل العتيقة، التقليدية، قد أمست عملة نادرة في كردستان، حالياً، إثرَ عمليات " الأنفال "، سالفة الذكر. كان أغلبُ ساكني هذه البلدة، القديمة، من المسيحيين الكاثوليك ( الكلدان ) ؛ ولكنهم باتوا قلة فيها، مع إضطراد هجرتهم إلى الخارج في سنوات الحكم الصدامي، خصوصاً. وقد صدف أن كان أحدهم جاراً لي في الطائرة المقلعة من مطار " أربيل ". لحظتُ أنه رسمَ علامة الصليب، حالما أقلعت طائرتنا، ولذلك بادرتُ بمخاطبته بالعربية. ولكنه، لدهشتي، ردّ عليّ بأنه لا يجيد سوى اللغة الكردية. وراح يحدثني بلهجته، الصورانية، لأعلم منه أنه يقيم في " سودرتالية " ؛ على مشارف العاصمة السويدية، والتي يمتلك فيها مطعماً صغيراً. وعودة إلى بلدته الساحرة تلك، لأقول أنها ذكرتني بالريف الدمشقيّ، المزدهر ؛ وخاصة بلدة " الزبداني "، التي تنحدر منها أسرة جدتي لأبي، العربية. كذلك فهيَ تشبه في نواح عدة ما رأيته، مرة ً، في بلدات الريف الفرنسي : جاداتٌ متطاولة، منحدرة رأساً من سفوح الوديان ـ كأخاديد سيل عرمرم ؛ منازل جميلة، متباعدة عن بعضها البعض، تشتركُ في أنه لكل منها كرمة عنب تتسلق دقرانها الخشبيّ أو الحديديّ، ويربط فيما بينها حدائق وبساتين وحقول، ضاجة جميعاً بالتعريشات والورود والشجر المثمر ؛ مطاعم ومقاه، شاءت الإستلقاء في رطابة الأماكن الأكثر علواً، حيث ينبسط تحتها المشهد الأخاذ للوادي كله، وما يكتنفه من غابات حرجية وجبال شاهقة. ها هنا حط المضيفُ، الفنانُ " الغاباري "، بنا الرحالَ. كان المطعمُ بسيطاً في بنائه، مع إتساع في مساحته وتنوع في تقسيماته. ما كان الوقت حاراً بعد، ولذلك حجزوا لنا طاولة في القسم الداخلي، بإزاء نافذة تطلّ على الوادي الرائع، المحتضن ما تيسّر من محال مأهولة وفيلات خاصة. في هذا الوقت من الظهيرة، تصطبغ الجبالُ بلون بنيّ، مائل إلى البرتقاليّ ؛ لون، كان أثيراً لدى " سيزان "، الرسام الفرنسي، الإنطباعي. ثمة في المطعم، تسنى لي متعة مذاق الكباب الكرديّ، الأشهى، فضلاً عن سلطته العجيبة، الملغزة. وما كان يفتحُ النفسَ والشهية، وجودُ الحسناوات من حولنا ـ أو بالأصح، من حول مطربنا، الضرير ! خرجنا بعدئذٍ إلى القسم الخارجيّ، منزلقين على درج حجريّ كان مزيناً بآنيات فخارية، متخمة بأزهار فصل الصيف، الزاحف حثيثاً. أدهشتني مصادفة عرائش الياسمين، بنوعيْه الأبيض والأصفر، وكذلك أشجار الأكيدنيا والتوت الشاميّ، ذات الثمر الشهيّ، المتناهض سريعاً للنضوج. كروم العنب والتين والرمان، الوارفة، تغطي مساحات هائلة في السفوح، المترامية تحتنا على مدّ البصر. جاؤنا بالشاي، إلى جلستنا هذه. إستمتعتُ بمذاقه، بالرغم من حنيني لقدح من العرق مع المشاوي اللذيذة تلك : فالتقاليد العشائرية، الصارمة نوعاً، ما زالت تتحكم بمزاج الناس وأهوائهم هنا ؛ في هذا الفردوس، المستغني عن نهر الخمرة !
للرحلة صلة..