المثقفون العراقيون والقضية الكردية!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
انشغال طويل وخيبة أمل! (1/2)
(1)
استأثرت القضية الكردية باهتمام كثير من المثقفين العراقيين خاصة أولئك الذين لم يأخذوا بالمفاهيم المتحررة أو الطليقة في الثقافة والأدب أو لم تستغرقهم الهموم الذاتية أو الضيقة، و تبنوا مفاهيم المثقف العضوي أو الملتزم أو الثوري كما وردت في مؤلفات غرامشي أو سارتر أو الأصول الماركسية أو النظرية المعاكسة لنظرية الفن للفن أو حتى بعض اتجاهات الفكر اللبرالي!
وثمة مجموعات كبيرة أخرى لم تقتنع بأن يكون للكرد وطنهم على أرض اعتبروها عراقية أو عربية، ولا بحقهم في تقرير مصيرهم على أرضهم بأنفسهم، واعتبروا المؤمن بذلك من العرب خائناً ومجدفاً ومتآمراً وليس غريباً أن يكون بين هؤلاء مثقفون كرد آثروا السلامة، أو أنهم آمنوا فعلاً بالمصير الواحد للعرب والكرد في العراق فصاروا قوميين وبعثيين أو إسلامويين، وبعضهم وجد لنفسه نسباً عربياً وصار يستنكر أن يذكر بأصله الكردي!
كان الحديث بين هؤلاء المثقفين الملتزمين يجري حول ضرورة مناصرة المثقف لحق الشعوب في تقرير مصيرها، والانحياز إلى جانب المضطهدين والمظلومين والمعذبين أين ما كانوا في هذا العالم، بشكل يكاد يقرب من البديهيات والمسلمات، وإن حق الحرية لا يتجزأ، فإذا كنا نطالب ونناضل من أجل استقلال وحرية شعوبنا، فكيف ننكرهما على الشعوب الأخرى، بل لم لا نناضل من أجلهم بنفس القدر؟ ورغم ما كانت تلتهمه القضية الفلسطينية من وقت وطاقات المثقف العراقي الملتزم كان هناك دائماً ثمة أوقات وطاقات من أجل قضية الكرد!
كان الحزب الشيوعي العراقي المحرك الرئيسي لهذه القضية على المستوى العملي في أوساط المثقفين العرب في بغداد ومدن العراق الأخرى بحكم علاقاته الواسعة بينهم وقدرته في التأثير عليهم بمختلف اتجاهاتهم الفكرية حتى القوميين منهم، وتنبيههم إلى مجريات الأحداث وجذبهم لساحات النضال الساخنة!
و رغم كل ما لدي اليوم من انتقادات للشيوعية وللشيوعيين، فلا بد لي من القول أن الحزب الشيوعي ناضل من أجل الكرد في الساحة العربية أكثر من نضال كل الأحزاب والحركات القومية الكردية مجتمعة،وإنه هو من علم أعضاءه وجماهيره حق الشعوب في تقرير مصيرها ومعاملتها على نفس القدر من الاهتمام الإنساني، وإنه كان البوابة الحقيقية للحل السياسي السلمي للقضية الكردية إذ كانت إحدى قضاياه المركزية على مدى برامجه العامة وسياساته المرحلية! وقد طرحها في خطاب سياسي متكامل وناضج بعيد عن التعصب القومي ومدرك لنبض العصر!
وإذ أتحدث عن جيلي أو الجيل الذي سبقنا في الخمسينات والأربعينات، فإن الموقف الذي ساد أو كان غالباً لدى هؤلاء المثقفين هو التعاطف بشكل كامل وعميق وحماسي مع الكرد بصفتهم أمة مضطهدة لم تنل حقها التاريخي في إقامة دولتها أو تقرير مصيرها كيف تشاء بين شعوب المنطقة والعالم، وبينما ينال شعب تعداده بضعة آلاف من السكان دولة وحدوداً ومقعداً في الأمم المتحدة، لا ينال الكرد هذا الحق وهم الذين يعدون بالملايين!
ولم يطلق أغلب المثقفين موقفهم هذا في خلاياهم الحزبية أو مجالسهم الضيقة وحسب، بل أعلنوه في مقالاتهم أو كتبهم أو نتاجاتهم الإبداعية الفنية الروائية والمسرحية والسينمائية والغنائية والموسيقية والتشكيلية، ومضوا إلى مشاركات نضالية مباشرة من أجله إذ شاركوا في تنظيم مضابط وعرائض ومذكرات تتضمن مختلف النداءات والمطالبات من أجل الكرد، وضروروة رفع معاناتهم، قدموها بأنفسهم إلى المسؤولين في حكومات العهود المتعاقبة، وإلى سفارات الدول العربية والأجنبية والمنظمات الدولية، وساروا في تظاهرات في شوارع بغداد وتلقوا الرصاص بصدورهم، واستشهد أو أصيب الكثير منهم، وأعدم آخرون تحت شعارات كثيرة منها الشعار الشهير ( على صخرة الاتحاد العربي الكردي تتحطم مؤامرات الاستعمار والرجعية ) وكان من بين التهم التي وجهها الجلادون إليهم هي تضامنهم مع الكرد أو ما كانوا يسمونهم آنذاك ب(العصاة الأكراد). كان معظم هؤلاء المثقفين من العرب والتركمان والكلدوآشوريين العراقيين وكانوا بالطبع مسلمين ومسيحيين ومندائين ويهود وأيزيدين، علمانيين ومؤمنين وملحدين على حد سواء!
وأستطيع أن أقول أن الرحلة الطويلة وربما الأبدية التي خرج فيها مئات من المثقفين العراقيين إلى المنافي بدأً من 1979 وتحملهم لآلام الغربة والتشرد طيلة هذه السنين كان أحد أسبابها هو موقفهم المؤيد والمتضامن والداعم للقضية الكردية،ليس هذا فقط: ثمة مثقفون تخلوا عن حياة الدعة والسلامة في المنافي وذهبوا متسللين إلى كردستان ليناضلوا مع البيشمركة ويدخلوا في معارك مع جيشهم (العربي) وقد كوفئ بعض هؤلاء المثقفين على كل هذه التضحيات بالقتل على الهوية في بشت آشان وغيرها من قبل بعض القادة الكرد المعروفين!
ومن الواضح أن المثقف العراقي حين يقف هذا الموقف العالي في البذل والعطاء ويصل بالالتزام إلي ذروته القصوى وهو الاستشهاد، فإنه لا يسدى بذلك فضلاً للشعب الكردي أو يمن به عليهم، أو إنه يريد عليه شكراً أو مكافأة أو حتى عرفاناً بالجميل، إنه في الحقيقة يتخذ هذا الموقف من أجل ضميره واحترامه لعقله فبما أنه اقتنع بفكرة وراح يدعو لها فمن الأولى أن يكون سباقاً في تجسيدها، سواء وجدها الآخرون صحيحة أو خاطئة، أو عدها النقاد أو المراقبون بساطة و سذاجة أو نضجاً وحكمة!
وبالطبع لم يكن تأييد المثقفين العراقيين للقضية الكردية توقيعاً على بياض وتسليماً بها كقضية مقدسة لا تقبل النقاش! لقد كانت ثمة مراجعات وانتقادات تجري في أوساطهم وإن على فترات تتباعد حيناً وتتقارب حيناً آخر، خاصة في الفترات التي أخذت تتقاطع فيها مواقف وسياسات الحركة القومية مع مواقف وسياسات الحزب الشيوعي أو القوى التقدمية الكردية التي لم تكن ناضجة أو كانت مغيبة تحت ثقل الحركة القومية،وقد اعتاد الحزب الشيوعي أن يبرئ نفسه من الأخطاء وإلقائها جميعها أو معظمها على الآخرين، لكن ما تكون من نقد وتحليل برؤية وفطنة وحاسة المثقفين أنفسهم شيوعيين وغير شيوعيين كان هو الأنقى والأرقى والأكثر موضوعية وعدالة،وكان في مجمله يحمل انتقادات ثقيلة على قيادات الحركة الكردية صار يجاهر ببعضها ويؤجل البعض الأخر حيث هناك على الدوام العدو المتمثل بالسلطة الغاشمة في بغداد!
وحين تغيب الديمقراطية عن بلد فإن أخطر القضايا إذ لا تأخذ حقها من النقاش والحوار خاصة العلني والموثق فإنها لا تصل إلى النضج والتبلور و تظل ملتبسة يكتنفها الغموض في الكثير من جوانبها ومفاصلها، وتستدعي لحلها دماء البشر ومصائرهم! ولو قدر للقضية الكردية أن تمر عبر أجواء وطنية ديمقراطية لكانت قد رست ومنذ عهد بعيد إلى حلول وتصورات راقية ومتطورة ولكانت قد أبقت على الكثير من الأرواح البريئة والثروات الهائلة ولتركت خلفها الكثير من الحلقات الفجة والمتخلفة التي ما تزال تثقل كاهلها وكاهل العراق اليوم!
لقد كان هؤلاء المثقفون يجدون أنهم ما داموا قد التحقوا بالقضية الكردية أو تبنوها أو التزموا بها أو ناضلوا في صفوفها كجزء منها فقد صاروا ( من أهل البيت ) ومن حقهم ممارسة النقد بل والمعارضة من داخلها أو خارجها، ليس لإثبات وجودهم بل حرصاً على قضية وضع الكثيرون آمالهم عليها وبذل الناس من أجلها الكثير من الدماء والدموع، وحيث سيكون للشعب الكردي ثمارها ونجاحاتها وانتصاراتها، وهذا حق فهم الذين تحملوا عبأها الأكبر وهم المعنيون بشرعيتها، لكن العراق سيكون مستفيداً ليس فقط لانتهائه من نزيف دموي ومعنوي هائل، بل لأنه سيجد في كردستان مصدر قوة لا مصدر ضعف، ومصدر إسناد لا مصدر إنهاك، وسيجد فيها لو تم بناؤها ديمقراطياً واقتصادياً قوة مثل تحتذى،هكذا كانت الأحلام والآمال آنذاك!
لقد كان يلحظ بصفة عامة أن ثمة تعصباً قومياً وتطرفاً (شوفينية) لدى القيادة الكردية كان ينظر إليه كرد فعل لتعصب وتطرف ( شوفينية ) القيادات العربية وقمعها القاسي والتدميري للشعب الكردي الذي وصل في عهد صدام إلى الإبادة الجماعية كما حصل في حلبجة والأنفال وغيرها من الحملات العسكرية،والتي أدانها مثقفون عراقيون وعرب بشدة وإن تشمت بها البعض أو فلسفها بشكل مخزٍ!
ولكن انتقادات كثيرة أخرى كانت تتكون لدى المثقفين أو توجه إليهم كأسئلة: كيف تريدون حلاً للقضية الكردية على أساس قومي؟ لماذا لا تحصرون تأييدكم للنضال الطبقي في صفوف الكرد ؟ كيف تدعمون حركة خالية من أي محتوى اجتماعي تقدمي؟ ألا ترون أن تطور الكرد ضمن دولة مركزية عصرية أفضل لهم من قيادة قومية متخلفة؟ كيف تعولون على قيادة عشائرية ريفية متخلفة على رأسها الملا مصطفى البرزاني؟ كيف تقفون مع حركة قومية مدعومة من شاه إيران وأمريكا؟ كيف تقفون مع البرزاني وهو الذي يزور إسرائيل ويطعن العرب من الخلف؟ أسئلة كثيرة صحيحة أو خاطئة كانت تتهاطل كرصاص من نوع يختلف كثيراً أو قليلاً عن ذاك الذي يتطاير في جبال كردستان، ولكن ثمة مثقفين عراقيين وجدوا أنفسهم متورطين به وإطلاقه على بعضهم البعض، والسماح له باستهلاك أوقات قراءاتهم وكتابتهم وإبداعهم الذي استشهد هو الآخر! لذا جاء انشقاق القياديين المعروفين إبراهيم أحمد وجلال الطالباني على قيادة مصطفى البارزاني وطرحهما أهدافاً وخطوطاً سياسية جديدة للثورية الكردية بمثابة بزوغ أمل جديد للمثقفين بأن تأخذ القضية الكردية مساراً أكثر رقياً وأكثر تحضراً، وأن تغتني بمحتوى فكري وتقدمي واضح ومؤثر، بعبارة أخرى أصبح من الممكن للمثقف الكردي والعربي أن يتحدث عن ثورة كردية تعي نفسها وتدرك ضروراتها ومستحقات التاريخ عليها وتطمح بالالتحاق بركب الثورات الإنسانية العادلة المنتصرة لا أن تظل أسيرة الجبال وكاريزما البارزاني ومزاجه!
ومع كل النقد المتكون لدى مثقفين عراقيين لتطورات ومجريات الثورة الكردية وتماسكه داخل مبادئه وحقوق الكرد الرئيسية إلا إنه لم يصل إلى حملات شعواء حادة ومركزة ضد القيادات الكردية، بل وحتى لم يأخذ نبرة عالية، إذ كان النضال كله ينصب على إسقاط نظام صدام والخلاص منه. وحتى حين ذهب جلال الطالباني ومسعود البارزاني إلى صدام في بغداد ومنحاه قبلة الحياة بعد هزيمته في الكويت، أو حين استدعى مسعود جيش قصي لنجدته في أربيل ضد أشقائه الكرد لم يتجاوز النقد غضباً مشروعا عابراً لم يلبث أن هدأ من أجل المعركة الرئيسية مع نظام صدام!
ولكن بعد سقوط نظام صدام والإطاحة بالرؤوس العربية المتعصبة والمجرمة وبالتالي زوالها أو انحسارها إلى مستويات متدنية، فإن تعصب وعنصرية بعض القادة الكرد ليس فقط لم تخف وإنما هي تضخمت أكثر وتصاعدت وجذبت إليها الكثير من الأوساط التي كانت توصف بالاعتدال وبرزت بين هذه القيادات نعرة من التقوقع والانعزال عن العراق والعراقيين آخذة بالاتساع وما نبذ العلم العراقي ( مهما كان رأينا بشكله الحالي ) إلا أحد مظاهرها!
ومنذ سقوط نظام صدام إلى اليوم حيث هيئ للقيادة الكردية ( بقوتها الخاصة أو بقوة قوات التحالف،خاصة الأمريكية منها ) أن تكون لاعبة أساسية في الساحة السياسة العراقية وإن تؤثر وتكون لها قرارات حاسمة بصدده غيرت مصائر وحياة سائر العراقيين، كان لابد أن تتكون لدى مثقفين عراقيين الكثير من الملاحظات والانتقادات والتحليلات على هذه القيادات التي صارت ظاهرة للعيان أكثر من ذي قبل، وهي ملاحظات وانتقادات نابعة من نفس ذلك المسار الطويل والحميم للقضية الكردية لذا فإن لهم كقيادات أو أجهزة إعلامية قبول أو رفض هذه الانتقادات ولكن لا ينبغي أن يتصوروا أن كل نقد يوجه لهم على إنه من منطلقات عنصرية أو قومية متعصبة أو غير متعصبة أو أنها تنكر حقهم في تقرير مصيرهم كأمة ! وإذا لم يستطيعوا الاستفادة من هذا النقد مهما كان عميقاً وأساسياً فلا ينبغي أن يرسلوا من يهددهم أو يشتمهم ويشهر بهم!