ثلاثة مشاهد سوريا-ليّة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أوّلاً: الملك الأسد الثّاني
قبل مدّة جرت "انتخابات" لمجلس "الشّعب" في سورية. وكما أفادت الأنباء فإنّ قلّة قليلة فقط من المواطنين ذهبت لتدلي بأصواتها. والحقيقة أنّ المواطنين أكثر ذكاءً ممّا قد يتصوّر البعض، إذ ما الفائدة من انتخابات صوريّة نتائجها معروفة قبل أن تجري؟ وهكذا، وبعد أن تمّ عرض تلك المسرحيّة على الشّاشات، شاهدنا مثلما شاهد الجميع، كيف يقف مَنْ يُطلَق عليهم أعضاء مجلس الشّعب ويهتفون بصوت واحد "بالرّوح بالدّم نفديك يا...". لقد وقف هؤلاء وأمثالهم من قبلُ عندما تمّ توريث الرئاسة من الملك الأسد الأوّل إلى الابن الأسد الثّاني، فلا جديد في الأمر. شيء واحد يمكن قوله عن هؤلاء، عندما يقفون وقفة رجل واحد ويصرخون بهتاف واحد، فلا يمكن أن يكون هؤلاء ولا هتافهم سوى مرآة لهذه الحال المأزومة في ثقافة العربان السّياسيّة. وعلى كلّ حال يكفي أن نشير إلى أنّ مصطلح "السّياسة" بالعربيّة قد استُعير من عالم الحيوان، فقد قال العرب قديمًا: ساسَ الخيلَ يسوسُها، والفاعل هو سائسُ الخيل، أي مروّضها.
وها هي النسبة القريبة من المئة بالمئة، نتائج الاستفتاء على ولاية ثانية لبشّار ابن أبيه الأسد الثّاني الّذي ورّث السّلطة على غرار خلفاء بني أميّة. ومرّة أخرى يتبادر إلى ذهن من يملك ذرّة من عقل، ما الحاجة إلى استفتاءات كهذه، بينما نتائجها معروفة خلفًا عن سلف إنّها مجرّد لعبة مفضوحة على الملأ. غير أنّ هكذا أنظمة مولعة دائمًا باللّعب. لقد نسي هؤلاء أنّ العالم الّذي يلعب لعبة الدّيمقراطيّة هو العالم الّذي أوجد هذه اللّعبة وقوانينها، ولذلك فهو يعرف قواعدها وقوانين لعبها، بينما نحن، العربان، لا نعرف من اللّعبة غير الشّكل، وحتّى هذا الشّكل عندما نرسمه فهو يأتي مشوّهًا على شاكلتنا. لذلك تظهر لعبتنا الدّيمقراطيّة هذه مجرّد كاريكاتير مقارنة بحقيقة اللّعبة وجوهرها.
ثانيًا: "إضعاف الشّعور القومي":
وفي حالة "سوريا-ليّة" من هذا النّوع، ليس من المُستغرَب أن يتمّ تقديم من ينتمون إلى خيرة أبناء الشّعب السّوري إلى محاكمات صوريّة، وبذرائع لا يوجد شبيه لها في أيّ بلد من بلدان هذا العالم. هكذا، في بلد "الأمّة الواحدة ذات الرّسالة الخالدة"، يتمّ إصدار أحكام ضدّ ميشال كيلو ومحمود عيسى على سبيل المثال بالسّجن لسنوات بتهمة هي أغرب ممّا قد يتصوّر من يملك ذرّة من عقل، أي بتهمة "إضعاف الشّعور القومي". إنّ بلدًا تضمّ قوانينه تهمة من هذا النّوع لا يمكن أن يكون بلدًا طبيعيًّا. إنّه بلدٌ هو أقرب إلى البلادة منه إلى أيّ تعريف آخر.
وفي ذات البلد أيضًا تحكم المحكمة على الحقوقي أنور البني بتهمة: "نشر أنباء من شأنها أ ن توهن نفسيّة الأمّة". هكذا، إذن. لو كان الأمر مضحكًا لضحكنا، غير أنّ الأمور في هذا البلد ليست مضحكة، بل هي أبعد ما تكون عن الإضحاك. إنّها المأساة بأعمق معانيها. فأيّ نفسيّة، وأيّ أمّة هي هذه الّتي توهن نفسيّتها الأنباء؟ نستطيع أن نجزم فنقول إنّه على العكس من ذلك تمامًا. إنّ نظامًا قبليًّا قمعيًّا من هذا النّوع هو هو بالذّات الّذي يضعف الشّعور القومي، لأنّ نظامًا قبليًّا كنظام البعث العائلي هو ما يُشظّي القوميّة ويفقدها مصداقيّتها، وهو ما يفتّتُ لحمة أبناء الشّعب الواحد. إذا كان لا بدّ من محاكمات فإنّ هذا النّظام هو الّذي يجب تقديمه للمحاكمة بتهمة "إضعاف الشّعور القومي"، رغم كلّ شعاراته البرّاقة والرنّانة الّتي طالما "شنّف" بها آذاننا، بينما هي لا تستند إلى أيّ قاعدة أو ركيزة خارج الرّكائز القبليّة.
ثالثًا: غياب أدونيس
إزاء كلّ ما ذكرنا، فإنّه لممّا يحزّ في النّفس أن نرى غياب أصوات كان من المفروض أن تكون في مقدّمة المندّدين بهذه الحالة السّوريا-ليّة. ولمّا كان أحد تلك الأصوات الغائبة عن السّاحة ناقدًا تراثيًّا ومفكّكًا لغويًّا إضافة إلى كونه شاعرًا لا بأس به، فهو مطالب الآن وعلى الملأ بأن يشرح لمواطنيه السّوريّين المغلوب على أمرهم معنى مصطلح "إضعاف الشّعور القومي"، أو معنى كلام الاتّهام الّذي يقول: "نشر أنباء... من شأنها أن توهن نفسيّة الأمّة". فما هو هذا الشّعور القومي؟ وما هي الأمور الّتي توهن نفسيّة الأمّة؟ فأيّ أمّة هي هذه! وهل هناك شخص على وجه الأرض يستطيع أن يُفسّر لنا هذا الكلام الفضفاض الّذي لا معنى له سوى أنّات المعتقلين في أقبية مخابرات الأنظمة القبليّة الفاسدة المفسدة في الأرض.
إنّ صمت أدونيس، وأمثاله، إزاء هذه المهازل، وإزاء جرائم الزّجّ بالمفكّرين والمثقّفين السّوريّين في سجون النّظام الفاشي، يشكّل إدانة له ولأمثاله على تخاذلهم الأخلاقي. ولن يفيد أدونيس كونه مرشّحًا أزليًّا لجائزة نوبل. إنّ صمته إزاء الجرائم الّتي يرتكبها النّظام القبلي القمعي في وطنه الأمّ كافٍ لكي يتمّ شطب اسمه من قائمة المرشّحين لهذه الجائزة أصلاً. إذ أنّه، وبصمته الصّارخ هذا، يندرج في عداد جوقة الهاربين من المواجهات الأخلاقيّة، ويندرج في عداد المندسّين في بطانات المطبّلين المزمّرين للسّلاطين.
هذه هي المأساة الحقيقيّة. إنّها حقًّا مشاهد "سوريا-ليّة"، أليس كذلك؟