كتَّاب إيلاف

أسطورة أم معبد في السيرة النبوية الشريفة (1/2)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تنوية مرة اخرى :
قلت واكرر القول أن الفترة الزمنية المحصورة بين مبعث النبي الكريم، نبي الرحمة والعلم حتى سنة مئة للهجرة تشكل منبع المُشكِل الاسلامي الذي نعيشه لمئات السنين، أقصد النزاعات العقدية والسياسية والفكرية والمذهبية، تلك النزاعات التي صبغت تاريخنا بالدم، ومازالت، بل هي اليوم تشكل منبع الخطر الذي يهدد الامة بحروب جديدة قد لا تبقي ولا تذر، وهي فترة غامضة، مبهمة، إذ رصيدنا من الاطلاع عليها هو الشفاهي، ما عدا كتاب الله عز وجل، فيما يستند العقل المسلم على الموروث من هذه الفترة من سنة نبوية مزعومة، وسيرة صحابة مدعاة، وتاريخ رجال كبار تلاعبت الاهواء والعصبيات في تكبيرها أو تحجيمها، ليشكل هذا العقل مسيرته وفلسفته ومستقبله وطريقة تفكيره واحكامه من هذا التراث المشوب بالشك والإرتياب، ا لتراث الفوضوي المتعفن في كثير من معادلاته، فقراته، تصوراته.، فإن نشأة هذه الفرق تدين إلى هذا الموروث من هذه الفترة، والتشكيك المتبادل بين هذه الفرق يعتمد مادة هذا التراث، والفقه الذي يقتل الانسان ويهين كرامة أعز المخلوقات الربانية يرتكن إلى مادة هذا التراث، واليوم يستيعن القتلة الارهابيون والتكفيريون بهذا التراث لا غير، فيما هو تراث هش، مبهم، نقاط الفراغ الخفية تملا جسده الصلب ظاهرا، الفجوات تنخر في باطنه، تعج تضاعيفه بالتساؤلات والشكوك والظنون، فلست أدري كيف يمكن أن نُخدع بمثل هذا الترث الأجوف، حتى السقيفة التي ساهمت وتساهم في تشكيل الجنبة العقدية من عقل المسلم، التي كانت وما زا لت مسؤولة عن دماء ودموع وآلام وأحزان وكوارث، حتى السقيفة هذه يحوم حولها شك عميق، إذا لم يكن شك في أصلها إجمالا، ففي تفريعاتها وتفاصيلها، وتلك هي ( ثورة ! ) الامام الحسين عليه السلام التي تحولت إلى مائدة ارتزاق وافتعال، وبواعث حروب واشتعالات مذهبية... حتى هذه ( الثورة !) تحتاج إلى مراجعة نقدية قاسية، وقد قام كاتب هذه السطور بقسط من هذه المحاولة، وربما يتذكر قرائي الا عزاء في ايلاف تلك المقالات التي بلغت أكثر من 17 مقالة عن ( ثورة ! ) الحسين وكيف أنها استطاعت لحد كبير ان تكشف عن الكثير من الزيف الذي دُسّ في روح العمل الحسيني الجبار، فحرفها عن صورتها الإنسانية الناصعة... من هنا أقول بتنخيل السيرة النبوية الكريمة، فإن سيرة النبي اكتست طابع الاسطورة والخرافة والخوارق فيما هي سيرة بشر عادي رغم أنه موحى إليه عليه صلوات من ربه ورحمة وبركات، كأي بشر في حياته العامة، وفي مسيرة دعوته، وفي علاقته مع الأخرين، وفي إدارته للدولة، وفي مواقفه تجاه المستقبل. إن الامة التي تعتمد التاريخ الخرافي المزيف المشكوك في بناء فلسفتها، وتشييد مواقفها، وتحديد رؤاها إنما هي أمة ميتة.
إن نقد تلك الفترة هي البداية للتخلص من هذا البلاء الذي راح ينذر بخطر الانهيار المدمر، الخطر الذي تنتظره الامة، فيما ليس له أي سند حقيقي في عمق التاريخ، سوى أخبار مكذوبة أو مشكوكة، كلها يدعى أنها ترجع لتلك الفترة اليتيمة.
فهذه البحوث هي جزء من جهد عملت عليه لسنوات، ربما يصل الى 2000 صفحة، أرجو من الله تعالى إكماله خدمة لوجهه الكريم، ليس المهم أن نقرا سيرة بل المهم أن نقرا سيرة صحيحة، وا لله من وراء القصد

التعريف بإسطورة ( أم معبد )
1 : من القصص التي حفلت بها كتب السيرة النبوية الشريفة تلك المعروفة بـ ( قصّة أم معبد) وقد وردت عن أكثر من طريق، وقد تداخلت في تضاعيفها الوقائع والأحداث في حدود تلفت النظر، حتى يمكن القول أن من الصعب جدا أن نمسك بنسبة معقولة من التطابق بين عناصر القصة، وذلك لكثرة وسيادة الاختلاف والتباين والزيادة والنقصان والتقدم والتأخر في العناصر المذكورة.ولكن بالإمكان أخذ صورة إجمالية، حيث يُذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر رضي الله عنه وهما في الطريق من مكة إلى المدينة مرا بإمرأة تدعى ( أم معبد الخزاعية )، تسكن ( قديد ) وكانت هذه المرأة تجلس على الطريق تطعم وتسقي المارّة والمنقطعين، فسألاها خبزا ولحما، فاعتذرت لانها لم تكن تملك شيئا، إلا شاة خلفها الجهد عن الغنم، ولم يكن فيها حليب، وطلب رسول الله صلى الله عليه و أله وسلم الشاة، ودعا فدرّت حليبا غزيرا،كفى الجميع بمن فيهم أم معبد، ثم إرتحل الركب صوب المدينة، فلما رجع أبو معبد ورأي هذا الحدث الغريب سأل أم معبد عن الأمر، فروت له الحادثة، وقد وصفت له النبي الكريم، فادرك أنه الرجل الذي تطلبه قريش.
هذه هي القصة باختصار شديد، ورغم هذا الإختصار إلا أنه لا يلتقي في كثير من عناصره الأساسية مع الكثير من العناصر المؤسِّسة لهذا الطريق أو ذاك، أي الطرق المتعددة التي نُقِلت إلينا بواسطتها الرواية، الأمر الذي يؤكد إضطراب المضمون إضطرابا شديدا 1، وقد أنتبه أهل السيرة والتاريخ إلى هذا الاضطراب والتشتت في عناصر ومكونات القصة على اختلاف أو بالاحرى تعدد طرقها، ولذا قال البيهقي ( يُحتمَل أن هذه القصص كلها واحدة ) 2، وألحق البيهقي نفسه قصة أخرى بقصة ( أم معبد ) لوجود بعض التجاذب بينهما، قائلا ( وهذه القصّة شبيهة بقصة أم معبد، والظاهر أنها هي والله أعلم ) 3، ويسوق بعض المحدثين وا لمؤرخين نفس القصّة من حيث جوهرها العام، عن ابن مسعود،ولكن زمنها يرجع إلى ما قبل الهجرة، في حين أن جوهر القصة واحد تقريبا، إذ تقول أن الرسول الكريم وأبا بكر رضي الله عنه فرّأ من المشركين، والتقيا غلاما عنده غنم، وطلبا أن يسقيهما لبنا، فرفض بحجة أنه مؤتمن، فقالا له (... هل عندك جذعة لم ينز عليها الفحل بعد، قلت / أي الغلام / فأتيتهما بها، اعتقلها أبو بكر واخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ا لضرع فدعا، فحفل الضرع، وجاء أبو بكر بصخرة مقعرة فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر وسقياني، ثم قال للضرع أقلص فقلص ) 4.
هذا الغلام هو عبد الله بن مسعود !! والقصّة شبيهة في روحها الصميمية قصّة أم معبد، ويعلق الحافظ ابن كثير وغيره أن هذه القصة كانت قبل ا لهجرة.
2 : قال الشبلنجي ( وفيها ما رواه الزمخشري في ربيع الأبرارعن هند بنت الجون، نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة خالتها أم معبد، فقام من رقدته، فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض، ومج في عوسجة إلى جانب الخيمة، فاصبحنا وهي كاعظم دوحة، وجاءت بثمرة كأعظم ما يكون الورس ورائحة العنبر، وطعم الشهد، وما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمأن إلا ّ روي، ولا سقيم إلا بريئ، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلاّ درّ لبنها، فكنا نسميها المباركة، ويأتينا من البوادي من يُستشفى بها، ويتزوّد منها حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها واصفرّ ورقها، ففزعنا،فما راعنا إلاّ نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم،ثم أنها بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك من اسفلها إلى أعلاها، وتساقط ثمرها وذهبت نظرتها، فما شعرنا إلاّ بقتل أمير المؤمنين علي عليه السلام، فما أثمرت بعد ذلك، وكنا ننتفع بورقها،ثم أصبحنا مهمومون إذا أتانا خبر قتل الحسين بن علي عليه السلام، ويبست على أثر ذلك وذهبت ) 5
وما عليه الزمخشري نقلا عن أبنة أخت أم معبد، أي (هند بن الجون ) حكاية أخرى، جديدة، تضاف في سياق قصة الشاة، وما أتصل بها من أجواء وملابسات وأحداث، لأننا لم نجدها في الطرق التي روت قصّة أم معبد المذكورة.
العنصر الأساسي في رواية هند هي الشجرة، وتطوراتها الغيبية الخارقة، وقدرتها على مواجهة التاريخ، وتجاوبها المنسجم مع أحداث مخصوصة بالأهمية، والجلالة عند المسلمين، وهو الإيقاع الذي طالما نلتقي به على صعيد المأثور في التاريخ الإسلامي، وعلى وجه الخصوص في عزوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومقتل الصالحين والعبّاد والأئمة وأهل العلم وغيرهم من الرموز الدينية والروحية، وهو أمر نجده في تاريخ الأمم الأخرى أيضا.
العنصر الخارق في قصّة أم معبد الأساسية يتمثل في موضوع ( الشاة ) وقد اتخذ هذا العنصر صفة خارقة حدوثا واستمرارا.
لقد كانت ( الشاة ) جافة الضرع،ولكن بدعاء ر سول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبمسِّه على ضرعها أو ظهرها أو كليهما معا درّت، وكان حليبها غزيرا رغم أنها مجهدة، على أ ن الشاة هنا تدخل تاريخا جديدا،لقد ولّى ضعفها، وحلّت بها بركة الحياة والعطاء، وبقيت تتحدى سنة التاريخ، فعن أم معبد نفسها أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي سنة ثمان عشرة، وقبل سبع عشر من الهجرة 6، بقيت تعطي حليبها المبارك طوال هذه المدة غير الطبيعية، والغريب أنها ماتت في سنة معروفة بالجدب والقحط، تلك التي عُرِفت ب( عام الرمادة )، أي أن الشاة هنا لم تستمر في مقاومة سُنن الطبيعة والحياة.
3 : لم تقف عملية التقادم الخارق إلى هذا الحد، إذ نقرا في سيرة دحلان ( أنها ـ أ م معبد ــ لما شاهدت هذه المعجزة تسلّفت من جيرانها شاة أخرى، وذبحتها إكراما له صلى الله عليه وآله وسلم، فشاهدت فيها معجزة أخرى، حيث أكل منها صلى الله عليه وآله وسلم هو ومن معه، وملات سفرتهم منها، وبقي أكثر لحمها عن أم معبد ) 7.
هذا السرد السريع يكشف عن تكاثف العمل الخارق، أي تصاعد واتساع مفرداته، واستدعاء أحدها للأخر بسرعة فائقة، والحالة هذه تذكرنا بقصة سراقة، وقصة العنكبوت والحمامة والشجرة، حيث نلتقي بنفس المطعيات، إذ يبدأ الحدث الخارق في حدود بسيطة، ثم ينمو أُفقيا وعموديا، وتتكاثف صوره وتجلياته وظهوراته بالتتابع والإطراد.

نظرة في نواة الحدث
إن نواة الحدث الذين نحن في صدده هو ( الشاة المعجزة )، والصميم من قضيتها، أنها كانت مُجهَدة، ولم ينز عليها فحل، ولكن بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم درّت وسقت الجمع الجامع... كل الحوليات التي تدور حول هذه النواة مضطربة، من طريق إلى آخر، ولكي نكون على تماس حيوي مع هذه المفارقة نوجز بعض مصاديقها.
1 : في طريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالشاة المُجهَدة الحائل وببركة يده ودعائه درّت حليبها، فيما في طريق آخر أن أم معبد أخبرت النبي الكريم بفقر ذات يدها،ولكن في السماء رجع ابنها باعنز، فبعث بعنز مع أبنها إلى الرسول وجرت المعجزة 8.
2 : وفي رواية يونس عن ابن اسحق لم تكن هناك شارة واحدة بهذه الحالة، بل أكثر (... فقالت ــ أم معبد ــ والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا شاة إلا ّ حائل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض غنمها، فمسح ضرعها بيده، ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى، وقال : أشربي يا أم معبد، فقالت أشرب، فأنت أحق به، فرّده عليها فشربت،ثم دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك فشربه، ثم، دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك فسقى عامرا ) 9. فيما هي في الطرق الاخرى شاة واحدة 10. تلك التي كانت مجهدة جدبة، ثم درّت ببركة الدعاء و استمرت حتى ( 17 ) للهجرة.
3 : وفي طريق آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح ضرع الشاة، وفي آخر مسح على ظهرها 11.
4 : وفي رواية أن أم معبد بعثت بالعنز المذكورة مع ابنها إلى النبي الكريم، فيما في رواية أ خرى أ ن النبي العزيز هو الذي بعث معبدا ليدعو له الشاة المُجهَدة. 12.
وفي الحقيقة : أن من هذا القبيل متوفر في هذه القصّة على إمتداد عناصرها واحداثها وتضاعيفها التي رافقت نواة القصّة الأساسية.
إن هذا التباين الكثير يؤثر في مدى تجاوب العقل مع كل ( الحدث ) أو مع أكثر تفاصيله على أقل التقادير، خاصّة إذا كان التباين يصيب كل العناصر المؤسّسة أو معظمها، ولا تسمح هذه الحالة تكوين صورة واضحة جلية يمكن أن نطمأن إليها.

المراجع

1 - راجع على سبيل المثال : تاريخ الاسلام للذهبي،السيرة، ص 329 ــ 331، سيرة بن كثير 2 ص 257 ــ 331، البداية والنهاية 3 ص 188 ــ 192.
2 - دلائل النبوة الجزء الثاني.
3 - المصدر نفسه.
4 - البداية والنهاية 3 ص 193.
5 - نقلا عن حياة النبي للنبي محمّد، قوان الوشنوي ص 278 ــ 279.
6 - السيرة الحلبية 2 ص 48.
7 - السيرة الدحلانية على هامش الحلبيّة 1 ص 319.
8 - البداية والنهاية 3 ص 188 ــ 189، والطريق الاول عن يونس، عن ابن اسحق.
9 - نفس المصدر والصفحة.
10 - طبقات ابن سعد 1 ص 230.
11 - السيرة الحلبية 2 ص 47.
12 - نفس المصدر والصفحة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف