نشأة الكنيستين المسيحية والنصرانية بقلم قارئ مجهول النسب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تنبيه من زميلنا سعد الله خليل: وردني بالبريد الإلكتروني هذا البحث أدناه، الذي آثر صاحبه أن لا يذكر اسمه عليه، لكنه أراد على ما يبدو أن يدلي بدلوه، فيما دار في إيلاف، من مناقشات حول المسيحية والنصرانية.
مسيحيون ونصارى
وبعد، فهذا بحث كتابي في نشاة الكنيستين المسيحية والنصرانية وانقسام اتباع المسيح منذ عهد المسيح بين مسيحيين من اصل وثني يتخذون المسيح الها ويقيمون الانجيل من دون التوراة، ونصارى من اصل يهودي يتخذون المسيح رسولا ويقيمون التوارة والانجيل كتابا واحدا للحياة. لكن الناس يسمون المسيحي نصرانيا، والنصراني مسيحيا. ويتحدثون في هذا الموضوع الذي تراكم عليه غبار الزمن واحتواه رداء النسيان، بسهولة وارتياح. لكنهم لا يكون لهم فيه من حديث، الا ويجيء حديثهم فيه بعيدا عن الحقيقة، غريبا عن التاريخ، خاليا من البرهان.
مختلفون عقيدة وكتابا
والحقيقة التامة، ان اتباع المسيح مسيحيون ونصارى. وان المسيحيين والنصارى مختلفون في ما بينهم عقيدة وكنيسة وسلطة وكتابا. وهم في امتين وكنيستين ودينين وتاريخين، لاختلافهم في امور الدين والتوراة والانجيل اختلافا عميقا مزمنا. من اجل ذلك فالمسيحي، بالمفهوم الانجيلي، ليس نصرانيا. والنصراني، بالمفهوم التوراتي ليس مسيحيا، لاختلاف القاعدة الدينية القائمة بين الفريقين. تلك حقيقة لا بد من التسليم بها عاجلا ام اجلا، رغم الانذهال الكبير. لذلك فانت لا تستطيع ان تسمي المسيحي نصرانيا، ولا النصراني مسيحيا، دون ان تتجنى على التاريخ، بعلم او بغير علم. وتكتم عليك وعلى الاخرين اسراره وخفاياه.
الانجيل من دون التوراة
اما المسيحيون فامة من الوثنيين امنوا بالمسيح، واتخذوه الها، لخلو اذهانهم وتاريخهم من كل خلفية دينية سابقة وكتاب. وهم يقيمون الانجيل باحرفه الاربعة من دون التوراة، كتابا للحياة.
الانجيل والتوراة
اما النصارى، فامة من بني اسرائيل، امنوا بالمسيح، واتخذوه رسولا خلت من قبله الرسل. ولم يقبلوه الها، لخلفية دينية عندهم تقول ان الله واحد في ذاته، وانه لم يلد ولم يولد. وهم يقيمون التوراة والانجيل، كتابا واحدا للحياة. وقد يكون هؤلاء النصارى، الذين يقيمون التوراة والانجيل، هم الذين يقول فيهم القران الكريم: "ومن قوم موسى امة يهدون بالحق، وبه يعدلون" (الاعراف، 158)، ويخاطبهم بقوله: " قل يا اهل الكتاب، لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل اليكم من ربكم" (المائدة، 68)
الانجيل هو المصدر الوحيد
ولرؤية الامور بدقة ووضوح، لا بد من الرجوع الى الانجيل، فالانجيل هو المصدر الوحيد والاكيد لكل حقيقة منزلة حول المسيح واتباعه المؤمنين. ففي الانجيل يشهد المسيح نفسه بانقسام اتباعه منذ عهده، بين مسيحيين، يتخذونه الها، ونصارى يتخذونه رسولا.
المسيح يشهد بوجود الخلاف
قال المسيح: "لا تظنوا اني جئت لاحمل السلام الى الارض. ما جئت لاحمل سلاما بل سيفا. جئت لافرق بين المرء وابيه، والبنت وامها، والكنة وحماتها، فيكون اعداء الانسان اهل بيته" (متى 10: 34-36). وكلمة السيف، على لسان المسيح، لا تؤخذ بحرفها، بل بروحها. هو سيف الخلاف حول الايمان او الكفر بذات المسيح، مما يكون سببا للفرقة بين الناس. وهكذا كان. وقال ايضا بروح نبوية عالية: " يكون بعد اليوم خمسة في بيت واحد منقسمين: ثلاثة منهم على اثنين، واثنان على ثلاثة. سينقسم الناس فيكون الاب على ابنه، والابن على ابيه، والام على بنتها، والبنت على امها، والحماة على كنتها، والكنة على حماتها". (لوقا 12:52-53). فكان قوله شهادة. وشهادة المسيح لا ترد في شيء مما قال.
مواقف متفاوتة
وحقيقة الامور، ان دعوة المسيح، التي طرقت بيوت الناس، لم تجد عن الناس، في البيت الواحد، موقفا واحدا. فاهل البيت الواحد اختلفوا في مواقفهم من المسيح بين مؤمنين وكافرين. والبيت الذي طرقت دعوة المسيح ابوابه اولا هو البيت اليهودي. ففي البيت اليهودي الواحد اناس امنوا بالمسيح، واناس رفضوه. والذين امنوا به اختلفوا فيما بينهم حول شخصيته المجيدة المباركة، بين مؤمنين به الها، ومؤمنين به رسولا. فكانوا، منذ عهد المسيح: مسيحيين ونصارى.
الكنيسة النصرانية
لكن الناس لم يدركوا هذا الخلاف القديم القائم، وتوهموا ان اتباع المسيح اتخذوه كلهم الها، وانهم كانوا دوما امة واحدة، وكنيسة واحدة موحدة. لذلك هم يسمون السميحيين نصارى، والنصارى مسيحيين، دونما تفريق. وقد فاتهم ان بعض الناس، من اهل التوحيد التوراتي الخالص، اتخذوا المسيح رسولا، حفاظا على تراثهم الديني. ولم يتخذوه الها، فبقي ايمانهم القديم سالما من التحريف، وايمانهم بالمسيح رسولا قائما على ما يحبون، وتوحيدهم التوراتي خالصا من الكفر والشرك والتزييف. هؤلاء الناس هم النصارى من بني اسرائيل. او قل هم الكنيسة النصرانية التي تقيم احكام التوراة واحكام الانجيل معا. والنصارى اصلا يهود بحسب قوميتهم، ونصارى بحسب دينهم.
يدعون الى التوحيد
والنصارى يدعون الى التوحيد التوراتي الخاص، عملا بوحي التوراة. فلا تعدد في ذات الله، ولا اقانيم: "اسمع يا اسرائيل: ان الرب الهنا هو رب واحد" (تثنية الاشتراع 6:4) "انا الرب وليس من رب اخر. ليس من دوني اله. انا الاول وانا الاخر ولا اله غيري" (اشعيا 45: 5-6)
يدعون الى الختان
والنصارى، عملا باحكام التوراة، يدعون الى الختان، سبيلا الى الدخول في دين الله. "وابن ثمانية ايام يختن كل ذكر مكنكم من جيل الى جيل، ويكون عهدي في اجسادكم عهدا ابديا" (تكوين 17: 12-13)
لذلك فالختان شعار النصارى، وفريضة دينية منزلة، تذكر بعهد الله مع الناس، وبتكريس الجسد للرب، وبانتماء الانسان الى شعب الله المختار، والى دين ابراهيم الحنيف. فقد اختتن ابراهيم وهو ابن تسعة وثمانين عاما، واسماعيل في الثانية عشرة من عمره. ولا يزال اليهود يمارسون هذه الفريضة بكامل طقوسها حتى ايامنا الحاضرة. فياتون بالولد الى المجمع، فياخذه رجل اسمه سيد العهد. ثم ياتي المطهر الماذون، ويجري عملية الختان ضمن اطار معلوم من الطقوس والمراسيم. اوسابيوس اسقف قيصرية، والمؤرخ الكنسي الكبير (265-345) يتحدث عن هؤلاء النصارى ويسميهم، كما يسمي اليهود، اهل الختان. ويسمي اساقفتهم اساقفة الختان، ويقول انهم كانوا، حتى زمن الامبراطور تراجانوس خمسة عشر اسقفا.
يدعون الى الوضوء
كذلك النصارى يدعون الى الوضوء، وسيلة للبر امام الله. والوضوء في التوراة هو الغسل او الاغتسال. والغسل نوعان: غسل لكامل الجسم، اذا ما اعترته نجاسة بسيلان: " اي رجل كان بجسده سيلان، فهو نجس. واذا طهر من سيلانه يحسب له سبعة ايام لاطهاره، ويغسل ثيابه ويستحم بماء جارين فيطهر" (احبار 15:2، 13). " فليغسل ثيابه ويستحم في الماء ثم يطهر. فان لم يغسل ثيابه، ولم يحمم بدنه فقد حمل وزره" (احبار 17: 15-16). وغسل لليدين والرجلين اذا لامستا نجاسة: " واذا دخلوا خيمة الموعد، وتقدموا الى المذبح ليخدموا ويحرقوا ذبيحة بالنار للرب، فليغسلوا ايديهم وارجلهم، لئلا يموتوا، يكون لهم ذلك فريضة ابدية" (خروج 30: 20-21) القديس ابيفانوس (315-403) يقول: "النصارى عندهم وضوء كل يوم للتطهير، والوضوء عندهم واجب يومي قبل الاكل وقبل الصلاة وقبل كل جماع جنسي" (باناريون، 30:2)
الانجيل يذكر ان اليهود " لا ياكلون الا بعد ان يغسلوا ايديهم حتى المرفق، تمسكاا بسنة الشيوخ. واذا رجعوا من السوق لا ياكلون الا بعد ان يغتسلوا" (مرقص 7: 2-4) وكذلك فعل النصارى من بعدهم.
اركان الدين النصراني
والنصارى في رحلة دينهم، يقيمون اركان الدين، كما يقيمها اليهود من قبلهم، شهادة وصلاة وصوما وزكاة وحجا. الشهادة عندهم لله واحدا احدا، لا منازع او شريك، مع الايمان بالنبوة والكتاب.
والصلاة يقيمها النصارى، كاليهود، ثلاث مرات في النهار: عند الصباح وعند الظهر وعند الغروب. قال كتاب الديسكالية او تعليم الرسل: " علينا ان نصلي ثلاث مرات في اليوم " (الكتاب 8:3) في حين ان الصلاة عند الرهبان المسيحيين كانت سبع مرات في النهار اقتباسا مما جاء في كتاب المزامير: "سبع مرات في النهار سبحتك على احكام برك" (118-164). وقبلة النصارى في صلاتهم بيت المقدس، في حين ان قبلة المسيحيين في صلاتهم الى الشرق (القديس ايريناوسن الرد على الهرطقات، الكتاب الاول 26:2، قانون الرسل، 2:57) وفاتحة الصلاة عند النصارى هي الصلاة الربانية : ابانا الذي في السموات يتلونها في النهار ثلاث مرات. اما لغة صلاتهم فانها الارامية السريانية، ولغة المسيحيين اليونانية. والصوم سنّة عامة في كل الاديان. والغاية من الصوم تذليل الجسد لشريعة الروح، وحرمانه ما يحب في سبيل الله. والنصارى في صومهم كاليهود، يمتنعون عن تناول الاطعمة في يومهم من اوله: " واول نهار الصوم هو الوقت الذي يقدر فيه المرء ان يتبين الخيط الابيض من الخيط الازرق" (التلمود :5، المشنا 1:2).
والتقدمة لله فريضة يقيمها النصارى بموجب احكام التوراة: " هكذا تقدمون تقدمة الرب من جميع عشاركم. وليكن ماتقدمونه للرب من جميع عطاياكم خيارها المقدس منها" (عدد 18: 28-29) والحج الى بيت الله في اورشليم من اركان الدين النصراني، فريضة من الله على من استطاع اليه سبيلا. جاء في التوراة: " ثلاث مرات في السنة يحضر جميع ذكرانك امام الرب الهك في المكان الذي يختاره" (تثنية الاشتراع 16:16). وكان الحج فريضة على كل نصراني ذكر بعد الثانية عشرة من عمره، وكان حجهم في شهر ابيب اي نيسان الذي يقع فيه الفصح: " احفظ شهر ابيب، واصنع فيه فصحا للرب الهك" (تثنية الاشتراع 16:1).
خلاف من عهد المسيح
ومن هنا نرى ان النصرانية التي تقيم التوراة والانجيل هي اقرب الى اليهودية التي تقيم التوراة من دون الانجيل، منها الى المسيحية التي تقيم الانجيل من دون التوراة. ونرى كذلك ان هذا الاختلاف بين اتباع المسيح ليس جديدا. فالمسيح يقول: منذ اليوم ولا يقول بعد قرون طويلة مقبلة.
اغفال الخلاف لا يزيل الخلاف
ولقد اغفل الناس هذا الخلاف الكبير قرونا، واغفلوا شهادة المسيح فيه. لكن اغفالهم للخلاف لا يزيل الخلاف. والانجيل زاخر بمظاهر هذا الخلاف بين الفريقين من المؤمنين بالمسيح، نصارى ومسيحيين.
الرسل يردون بحزم
كتابات الرسل تعكس صراعا مريرا لا ينتهي بين المسيحية التي تنادي بالتحرر من اليهودية، والنصرانية التي تنادي بالحفاظ على دين الاباء والاجداد، وكانت تلك الكتابات ردا حازما على انحراف النصارى، وخروجهم عن انجيل المسيح، وتشيعهم لموسى والتوراة على حساب المسيح والانجيل.
قضية خطيرة في انطاكية
ابرز ما جاء على ذلك في الكتاب المقدس ما نقرا في الفصل الخامس عشر من كتاب اعمال الرسل، حول فتوى الرسل المجتمعين في اورشليم نحو عام خمسين، في قضية خطيرة اثارها في انطاكية النصارى من بني اسرائيل، ليلزموا الوثنيين- اذا امنوا بالمسيح- بتوراة موسى والختان، شرطا اساسيا للخلاص.
يفرضون شروطهم
قال كتاب اعمال الرسل: " وقام بعض الذين كانوا على مذهب الفريسيين ثم امنوا فقالوا: يجب ان يختن الوثنيون ويلزموا الحفاظ على شريعة موسى " (اعمال الرسل 5:15). اصحاب هذا الكلام هم النصارى من الفريسيين. يحاولون ان يفرضوا من خلال مؤتمر القيادة في الكنيسة، ان يفرضوا شروطهم على الناس للخلاص. فلا يزكوا احدا امام الله ولا ينال الخلاص احد من الناس الا باحكام الناموس. لكن الرسل لم يلبوا للنصارى مطلبا. فلا ينبغي للوثنيين، اذا امنوا، ان يؤمروا بشريعة موسى، وهم لا يعرفونها. فهم في حل منها. انما يؤمنون بالانجيل كتابا، وبالمسيح الها، ويخلصون.
الفتوى
بعث الرسل المجتمعون في اورشليم بهذه الفتوى الى المؤمنين الوثنيين في انطاكيا مع الرسولين بولس وبرنابا. وقالوا في فتواهم: " لقد حسن لدى الروح القدس ولدينا الا يلقى عليكم من الاعباء سوى ما لا بد منه، وهو اجتناب ذبائح الاصنام والدم والميتة والزنى ". (اعمال الرسل 15: 27-30). لكنهم لم يامروا الناس هناك باقامة الختان والتوراة، كما اراد النصارى في مجمع الرسل في اورشليم. ولم يشترطوا على الداخلين في الايمان بالمسيح ان يمروا باليهودية، وان يقيموا احكام التوراة لكي تصح مسيحيتهم، وينالوا الخلاص. انما الخلاص بالمسيح من دون موسى والتوراة. فبقى النصارى على حالهم، يقيمون الانجيل والتوراة، وبقي المسيحيون على حالهم، يقيمون الانجيل من دون التوراة.
الأخوة الكذبة
لذلك فاتباع المسيح مسيحيون ونصارى. والنصارى هم الذين ناصبوا بولس العداء في كل مكان، فهم في رسائل القديس بولس "الاخوة الكذبة". اخوة في القومية وكذبة في الدين. فهم مثله يهود، لكنهم لا يتخذون المسيح الها. وهم " الاخوة الطفيليون الكذابون، الذين دسوا انفسهم بيننا ليتجسسوا حريتنا" (غلاطية 2:4). وهم " الذين يريدون ان يبدلوا انجيل المسيح" (غلاطية 1: 7-8) " ولم يذعنوا كلهم للانجيل " (رومية 10: 16). وهم الذين حذر منهم بولس اهل فيلبي قائلا: "احذروا الكلاب. احذروا عمال السوء. احذروا اهل الختان" (فيلبي 3:2). وهم " الذين يسيرون سيرة اعداء صليب المسيح. عاقبتهم الهلاك. والههم بطنهم. ومجدهم عورتهم " (فيلبي 3: 19). وهم "من حيث الانجيل اعداء" (رومية 11: 28).
لكل فريق دين وكتاب
ومن هنا فان اتباع المسيح فريقان: فريق الذين امنوا به الها، وهم المسيحيون من الامميين (الوثنيين) الذين يقيمون الانجيل من دون التوراة. وفريق الذين امنوا به رسولا خلت من قبله الرسل، وهم النصارى من بني اسرائيل، الذين يقيمون التوراة والانجيل. ولكل فريق دين وكنيسة وكتاب وتاريخ.
يتخذون المسيح الها
اما المسيحيون فليسوا نصارى. فهم يتخذون المسيح الها. ويقولون ان الخلاص بالمسيح. وان المسيح جاء ليكمل الشريعة بالانجيل (متى 5: 17). وان تكميل الشريعة بالانجيل كان نسخا لها. وان الانجيل كان تصديقا للتوراة في موضوع الوصايا فقط. وهم يقيمون الانجيل باحرفه الاربعة من دون التوراة. ويقيمون العماد من دون الختان. ويفسرون التوراة بالانجيل.
كل عتيق الى زوال
ويقول المسيحيون أن المسيح نسخ الطلاق وتعداد النساء، والختان والوضوء وتحريم الاطعمة (متى 19). وان الشريعة، التي نزلت بموسى، كانت المربى الهادي الى المسيح، الذي نزلت به النعمة والحياة. فاذا جاء المسيح لا حاجة للمربى (غلاطية 3: 23). العهد القديم امانة بيد ال موسى. والعهد الجديد امانة بيد أتباع المسيح. فلا حاجة الى الشريعة. وبقوله عهد جديد اعلن الاول عتيقا. وكل عتيق الى زوال (عبرانيين 7:8) الوعد بالنسل المبارك تخطى الشريعة بمجيء المسيح، فصار وعدا للعالمين. هذا الوعد كان قبل الشريعة. فلما تحقق، نسخها (غلاطية 3: 15). حصر المسيحية في الموسوية يجعلها دينا قوميا. والمسيحية دين عالمي لا يتقيد بشريعة قومية.
من اورشليم الى روما
هذه الدعوة المسيحية، القائمة على الايمان بالمسيح الها، وعلى الانجيل من دون التوراة كتابا، انطلقت من اورشليم الى انطاكية، ومن انطاكية الى روما، وترفع انجيلا منزلا، وتعليما منزها.
يتخذون المسيح رسولا
واما النصارى فليسوا مسيحيين. فهم يتخذون المسيح رسولا خلت من قبله الرسل. ويقولون ان شريعة موسى ازلية، لا ينسخها نبي. وان المسيح، نسل ابراهيم الاعظم، كان يهوديا. وانه لم يات لينسخ الشريعة، بل ليكملها. فقد قال: " لا تظنوا اني اتيت لانسخ الشريعة والنبيين، اني لم ات لانسخن بل لاكمل" (متى 5: 17). لذلك فالشريعة اساس والانجيل تكميل. ولا يكون تكميل بغير اساس. وتكميل الشريعة بالانجيل تثبيت للشريعة. ولا يصح دين بغيرالشريعة. وعلى كل مؤمن ان يتهود ليتبارك بابراهيم. لذلك يطالب النصارى بفرض شريعة موسى على الامميين (الوثنيين)، اذا امنوا بالمسيح، لينالوا الخلاص. وهم يفسرون الانجيل بالتوراة.
كنيسة اورشليم تقيم الشريعتين
ويقول النصارى ان كنيسة اورشليم، ام الكنائس كلها اقامت الشريعتين معا. وان بولس مارس فيها الشريعة. وتوضأ وصلى مع الناس في هيكل اورشليم (اعمال الرسل 21: 24-26). لكنه لا ينادي بتحرير المسيحية من اليهودية الا تملقا للامميين (الوثنيين). والنصارى يتشيعون لموسى والتوراة على حساب المسيح والانجيل. والمسيح عندهم بمنزلة موسى.
انجيل النصارى على حرف واحد
يقيم النصارى توراة موسى والانجيل بحرفه الواحد. وانجيل الحرف الواحد هو انجيل متى الارامي المفقود، الذي يسمونه ايضا انجيل النصارى او الانجيل العبراني. وكان انجيلا مكتوبا باللغة الارامية. ترجمه القديس ايرونيموس في القرن الخامس الى اللغة اللاتينية واليونانية عن مخطوطة وجدها في مكتبة حلب. وترجمه ورقة بن نوفل الى العربية بشهادة عائشة نفسها حين تقول ان القس ورقة ابن نوفل كان رجلا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الانجيل بالعبرانية ما شاء الله ان يكتب. هكذا جاء في صحيح البخاري بشرح الكرماني (1/38-39). وفي صحيح مسلم (1/78-79). وفي كتاب الاغاني لابي الفرج الاصفهاني (2/114). وفي السيرة النبوية لابن كثير (1/386). وفي كتب الادب العربي. واقامه النصارى(أي الإنجيل المترجم للعربية) مع التوراة المنزلة، انجيلا عربيا منزلا. وهم يعتبرون تعريب التنزيل تنزيلا.
قتلوا عيسى ولم يقتلوا المسيح
والنصارى في انجيلهم، الذي ينسبونه احيانا الى متى، ينكرون التجسد والفداء. وينكرون التثليث. وينكرون بنوة المسيح لله. فالله عندهم واحد بلا شريك. وينكرون صلب المسيح. لكنهم لا ينكرون صلب يسوع (عيسى معربا). فالمسيح عندهم ملاك من المقربين حل في يسوع ابن مريم، والله لا يسمح بموت ملاكه القدوس بايدي الخاطئين. انما سحب الله المسيح من يسوع عند موته، فصلب اليهود يسوع وقتلوه، وشبه لهم انهم قتلوا المسيح بيسوع. لكنهم قتلوا يسوع، وما قتلوا المسيح. ولما كان لا بد ليسوع ان يقوم بعد قتله من بين الاموات، فقد ارسل الله المسيح من جديد اليه وهو في قبره. فحل فيه روحا من عند الله فدبت في يسوع الحياة. فقام من بين الاموات. ذلك لان المسيح في المعتقد النصراني اقنومان وطبيعتان. لكنه في المعتقد المسيحي اقنوم واحد، وطبيعتان
يحللون الطلاق وتعداد النساء
والنصارى يحللون الطلاق وتعداد النساء. اما الطلاق فبموجب احكام التوراة: " اذا اتخذ رجل امراة، وتزوجها، ثم لم تنل حظوة في عينيه، لامر غير لائق وجده فيها، فليكتب لها كتاب طلاق، ويسلمها اياه، ويصرفها من بيته" (تثنية الاشتراع 24: 1-4). لكنهم يرون الطلاق امرا بغيضا عند الله (ملاخي 2:16). اما تعداد النساء فجريا على ممارسات توراتية لدى بعض الاباء القديسين كابراهيم وسليمان الملك وعملا بفتاوى التلمود. والتلمود هو الحديث عند اليهود. فقد جاء فيه " لا يجوز للرجل ان يتزوج اكثر من اربع نساء" (التلمود ك 3، في النساء، ف 1، يبيموت، عدد 44، يلقوت شمعوني 1: 82). لكنهم تجاوزا التلمود والحديث، واجازوا لملوكهم وربما لانبيائهم ثماني عشرة امراة.
ويحرمون الخمر
والنصارى بعد دخول الاسينيين في دينهم، يحرمون الخمر، ولا يقربونها، وان كانت في اليهودية والمسيحية، ضمن المعقول والمقبول حلالا. شهد بتحريمها عندهم القديس اريناوس، اسقف ليون بفرنسا، فقد قال : "النصارى يحرمون مزج الخمر السماوي بالماء لانهم يريدون فقط ماء هذا الدهر". (الرد على الهرطقات، ك 5، ف 1، عدد3). اي انهم يحرمون الخمر، ويجتنبونها، لانها رجس امام الله. ويشهد بتحريمها عندهم كتابان هما كتاب اعمال بطرس وكتاب اعمال توما حيث جاء: "والقربان عندهم من خبز وماء لا خمر فيه". ويشهد بتحريمها عندهم اكليمنضوس الاسكندري فقد قال: "بعض الخوارج (النصارى) يستعملون في القربان الخبز والماء بدل الخبز والخمر، وذلك على خلاف ما تريد الكنيسة" (السرتومات، ك1، ف 19). لكنها اي الخمرة ستكون حلالا في الجنة، على ما ذكر عنهم اوريجينوس الاسكندري، في تفسيره لسفر اللاويين. ومار افرام السرياني في منظومة الفردوس (7/18). وربما اتخذوا تحريمها في هذه الدنيا وتحليلها في الاخرة عن المسيح في قوله " لن اشرب بعد اليوم من عصير الكرمة هذا حتى ذلك اليوم الذي فيه اشربه معكم من جديد في ملكوت ابي ". (متى 26: 29).
يحرمون الخنزير
والنصارى يحرمون الخنزير بموجب احكام التوراة، ويعتبرونه من البهائم النجسة. فلا ياكلونه، الا ويكونوا باكله اهلا للعنة الله " ولاتاكلوا الخنزير فانه مشقوق الحافر، ولكنه لا يجتر، فهو نجس لكم" (الاحبار 11: 7، وتثنية الاشتراع 14: 8). لكنهم، كاليهود، ياكلون كل بهيمة لها حافر مشقوق وتجتر (التثنية 14: 6).
الله اعـلـم
هذه الدعوة النصرانية، القائمة على الايمان بالمسيح رسولا، وعلى التوراة والانجيل كتابا، انطلقت من اورشليم الى انطاكية، ومن انطاكية الى بصرى الشام، ومن بصرى الشام الى الجزيرة العربية. وعندما دخلت النصرانية الى الجزيرة العربية فان اقواما من قريش كانت اول الداخلين في هذا الدين. على ما جاء في تاريخ اليعقوبي (1/298) والله اعلم.
قس في مكة، وبابا في بصرى
واستقرت النصرانية في مكة. وكان يراسها هناك القس ورقة بن نوفل النصراني على ما ذكرت السيرة الحلبية، والسيرة المكية، والسيرة الهشامية، عن ابن اسحق وابن هشام. فكان ورقة بن نوفل رئيس النصارى في مكة، اي اسقفا مساعدا للراهب جورجيوس بحيرى، بابا الكنيسة النصرانية ووصي يسوع- عيسى على دينه في بصرى الشام.
امتان وكنيستان
لذلك فاتباع المسيح مسيحيون ونصارى، في امتين عريقتين، وكنيستين متوازيتين. ولكل كنيسة كتاب وعقيدة وسلطة واتباع. وكانوا هكذا منذ عهد المسيح والرسل، وان كان الناس لا يعلمون.
سرهم هجرة وغياب
هذه حقيقة الامور. انما هناك حلقة مفقودة من التاريخ. هذه الحلقة المفقودة هي غياب النصارى عن الانظار، بعد صدور البلاغ الروماني الخطير: دين الدولة المسيحية عام (425). وهجرة النصارى الجماعية إثر ذلك الى الجزيرة العربية، خوفا من الرومان عل انفسهم وعلى دينهم.
قصور في متابعتهم
فعند هجرة النصارى الجماعية الى الجزيرة العربية، وغيابهم عن انظار الناس، لم يتمكن المؤرخون من اللحاق بهم الى الجزيرة العربية. وتبريرا لهذا القصور في متابعتهم، ورصد تاريخهم، راى بعض المؤرخين في غيابهم دخولا في المسيحية، وذوبانا فيها. وراى فيه اخرون رجوعا الى اليهودية وذوبانا فيها.
لم يزولوا بقدرة قادر
لكن الحقيقة الناصعة التي لا يقوى اليوم احد على كتمانها او تحريفها، هي ان النصارى لم يذوبوا في المسيحية التي اتخذت المسيح الها، ولم يذوبوا في اليهودية التي كفرت بالمسيح نبيا. ولم يزولوا بدينهم وتاريخهم عن وجه الارض بقدرة قادر. انما هاجروا بعد قيام المسيحية دينا للدولة، الى الجزيرة العربية هجرة جماعية، بامر من بابا النصارى، وكبير امتهم، في انطاكية او بصرى الشام، ليسلموا من الرومان بانفسهم وبدينهم. فانقطعت عنا اخبارهم، وغابت اثارهم.
لذلك فالمسيحيون ليسوا نصارى، والنصارى ليسوا مسيحيين.
حقائق وان مذهلة
اناس كثيرون لا يدركون هذه الحقائق المذهلة. وقد لا يدركوها، لما تنطوي عليه من المفاجات. لكن المفاجات مهما كان وقعها على الناس، فلا ينبغي لها ان تذهل الناس عن كل حقيقة راهنة.
التعويذ والاستنكار لا يجديان
واناس كثيرون لا يحبون هذا الكلام. فاذا ذكرت لهم ان المسيحي ليس نصرانيا، وان النصراني ليس مسيحيا، انذهلوا واذهلوك. وانكروا ما تقول ارتجالا. واقاموا الارض واقعدوها تعويذا من هذه الحقائق المذهلة واستنكارا لهذا النبا العظيم. لكن التعويذ والاستنكار لا يجديان فتيلا في تبديل الحقائق والتاريخ. فالمسيحي يبقى مسيحيا، والنصراني نصرانيا الى يوم الدين وهم لا يعلمون.
جهل وحرب وادعاء
وهناك اناس كثيرون يجادلونك في هذه الامور ليبينوا لك انهم مدركوها على حقيقتها، وانك فيها على ضلال مبين. لكنهم، في جدالهم معك، لا ياتونك بامر جميل، ولا يطرقون على خاطرك بخاطرة شافة، ترد عنك وعنهم وقع هذه الحقائق المذهلة، ولا ياتي كلامهم فيها الا جهلا لها، وحربا لا هوادة فيها على المسيح، واتهاما رخيصا للانجيل بالتحريف، وهجوما محموما على بولس الرسول، وتاويلا غبيا لمقررات مجمع نيقيا الذي عقد عام 325 بامر الملك قسطنطين، وقطع دابر بدعة اريوس والاريوسيين بامر الاساقفة المجتمعين، وهم انذاك الكنيسة كلها. واذا كان الناس لعقود طويلة خلت واعتبارات كثيرة خاطئة وجهل عظيم للتوراة والانجيل والتاريخ قد اطلقوا الاسماء على غير اصحابها، وجعلوا المسيحيين نصارى، والنصارى مسيحيين، فما ذلك الا لأنه لا يهمهم ان يروا بين الفريقين فارقا. ومع ذلك كله، فاتباع المسيح هم مسيحيون ونصارى.
قل يا اهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل اليكم من ربكم (المائدة 68 )