خالي والهجرة صنعاني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لكل منا فترته الشبابية سواء كانت مليئة بالشمس أو بالحزن، فهي تبقى حاسمة في ذاكرتنا ومليئة بأحداث وأحلامٍ، بعضها استطعنا التعبير عنها عند الكبر وتجاوزناها، وبعضها بقي طي النسيان، لم تسنح الفرصة أن نرويها... ربما لأننا لم نجد الوقت الكافي للعودة إلى تلك السنوات الشبابية البعيدة وندون ما عشناه من تجربة حاسمة، إما لأننا نشعر بالخجل من سردها على العام... أو لأننا لم نجد المكان الإعلامي الحر الذي يسمح لنا ايصال حكمة تجربة بعيدة إلى أكبر عدد من شبيبة القراء... ومن هنا أرادت "إيلاف" أن تزيل بعض هذه الأسباب بتخصيص مساحة، يميط اللثام فيها هذا المفكر وذاك الأديب... عن تجربة شخصية كانت حاسمة في شبابه وبقيت في أعماقه لم يتكلم عنها ويود اليوم إيصال حكمتها إلى شباب اليوم عن طريق إيلاف، بمقال... لا يتجاوز أكثر من 2000 كلمة. وقد توجهنا إلى عدد من الشخصيات الكبيرة فكرا وسنا لكي يسرد كل منهم ما بقي طي القلب، ويعتقد أن في بوحه حكمةً لشباب اليوم. وسننشر كل ثلثاء تجربة بعيدة من شباب شخصية معروفة...
الحلقة الأولى:
العفيف الأخضر:
خالي والهجرة صنعاني
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ولو أن ما في الرأس منه خضاب
يغيّر مني الدهر ما شاء غيرها وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب (المتنبي)
"المهم ليس ما يصنعه الغير بنا، لكن ما نصنعه نحن أنفسنا بما صنعه الغير بنا" (جان بول سارتر، متحدثاً عن جان جينيه)
عندما اقترحت عليّ إيلاف أن أكتب عن الحدث الذي غير مجرى حياتي، تبادر إلى ذهني اعتراف استاذ التاريخ، محمد العروسي المطوى، بي،. كنت في السنة السادسة من التعليم الثانوي الزيتوني. كان عمري 18 عاماً. خلال الامتحان الفصلي صادف أن جلست جنباً لجنب مع الأستاذ. نسيت أنه يوم الامتحان. فلم أكن أقيم وزناً للدروس التي كنت أجدها غبية ولا لمواعيد امتحاناتها. حاولت تغيير مكاني لأنقل الجواب من كراس الإملاء. أدرك قصدي، فأصرّ على أن أبقى بجانبه. عندئذ فكرت،نكاية فيه، في أن أكتب ما أفكر فيه حقاً في موضوع الحروب الصليبية، موضوع الإمتحان: انحطاط المسلمين وانغماسهم إلى الأذقان في قشور الدين... هو الذي أغري بهم البابا يوريان الثاني... توقعت أدنى علامة. كان المطوى أستاذاً حديثاً، قياساً على زملائه الأحفوريين، وعدنا : الأسبوع القادم أعطيكم النتائج قبل إرسالها إلى أوليائكم، فأنتم الآن أولياء أنفسكم. في الموعد بدأ الدرس ولم يقل شيئاً عن النتائج، قاطعته: أين وعدك؟ أجاب... لماذا تسأل؟ لقد فزت بأعلى علامة في المدرسة كلها: 7 من 10. بصوت خفيض، قلت لزميلي... إنه يسخر مني. قال زميلي - وكان قواداً [واشياً] للمدرسين- سيدي يقول إنك تسخر منه، فجاء الرد:"العباقرة لا يصدقون أنفسهم".سأل "القواد" وأنا ماذا أعطيتني؟ نصف واحد أجرة نقلك من الكراس. لحظتها قلت لنفسي ها أني قد وجدت أخيراً بين قطعان الحمير استاذاً يفهمني. كنت أشعر أني غير مفهوم في مدرستي. شيخ الفقه كان يسميني "المعتزلي" وهو ما كان مرادفاً،عند سني أشعري، لزنديق؛ شيخ التوحيد ضبطني ذات يوم متلبساً،خلال إلقاء درسه، بقراءة كتاب سلامه موسى عن نظرية التطور الداروينيه ، فمنعني من حضور درسه أسبوعاً. أما شيخ الحديث ، مصطفي الجمودي، فكاد يطردني من التعليم إلى الأبد. وحكايته جديرة بأن تروي بتفاصيلها التي مازالت حية في الذاكرة كما لو أنها وقعت بالأمس: سافر للعمرة، وفي طريق عودته، مر بالقاهرة حيث التقي شيخ الأزهر، محمد الخضر حسين، التونسي الأصل. في أول درس روي لنا "فضائح" المشهد الثقافي المصري الحديث كما شخصها له شيخ الأزهر:... احذروا يا جماعة من قراءة المدعو العقاد فقد قال شيخ الأزهر أنه "لا يكتب إلا إذا صارت عيناه حمراء من الشراب..." وقال لي عن كاتب آخر نسيت اسمه واسم كتابه إنه - والعياذ بالله - يتهم الإمام البخاري برواية أحاديث لا يقبلها العقل وتكذبها وقائع الحياة... قاطعته بنبرة تحد واضحة: سيدي الكاتب هو الدكتور أحمد أمين والكتاب هو... فقاطعني وعيناه جاحظتين: "دكتور، تراكتور [= جرار]... أنت بغل وهو بغل، وبغل يدافع عن بغل" صمت على مضض. ما إن انغمس الشيخ في درسه حتى تسللت، كعادتي مع جميع المدرسين، إلى المكتبة الوطنية التي كانت ملاذي من الدروس المملة، وكانت على مرمي حجر من الزيتونة. من الغد صاح في وجهي، قبل أن أجلس،..." أين سحابتي [شمسيتي] التي تسللت بها من الدرس أمس؟ نزلت عليّ التهمة الظالمة كضربة هراوة على الرأس... كدت أتهاوى، أقسمت له بالله بأني لم أر السحابة قط. سيدي أرسل معي الآن القيم العام،أو أي تلميذ تثق فيه، إلى غرفتي في المدرسة الخيرية ليري ما إذا كانت فيها سحابتك... رد عليّ..."ليش ما تكونش بعتها مقابل صحفة لبلابي [ثريد من الخبز و مرق الحمص والخل والزيت يفطر به الفقراء] لم أكن أفطرت اللبلابي منذ شهور، مطعم "الهداية" ما كان يعطينا إلا الغداء والعشاء مجاناً... ضحكات التلاميذ و عيونهم المصوبة إليّ كأفواه البنادق بدت لي وكأنها تشاطر الشيخ اتهامه وسخريته مني، فبكيت بمرارة. هدأ الشيخ، لكنه بقي طوال الدرس يعرّض بي في تلميح شفاف وهو يروي أحاديث السرقة... "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها...". آويت للفراش لكن لم أنم، كان دماغي يغلي حقيقة لا مجازاً. تهمة الشيخ مازالت تطن في أذني، ضحكات ونظرات التلاميذ كانت تلاحقني. غادرت الفراش، تناولت القلم والورقة وكتبت أرجوزة في هجاء الشيخ من 40 بيتاً مطلعها..."يقول راج غفراً للكذوب / وجه الأتان [= انثي الحمار] مصطفي الجمودي". عدت لفراشي وكأن شيئاً لم يكن. خلال الاستراحة المدرسية، الساعة العاشرة، طلبت من التلامذة عدم الانصراف وأخذت في إنشادها بصوت عال كعادتي. يبدو أنه سمعني حيث كان، في محراب الزيتونة مجتمعاً مع زملائه، فجاء قبل نهاية الاستراحة. فجأة توقف التلامذة عن الضحك، ونكسوا رؤوسهم. أدركت أنه كان واقفاً فوق رأسي. أكملت بيتين بسرعة قائلاً: لست أنا من كتب هذا الهجاء، بل تلميذ آخر... جاءني صوت الشيخ كسيراً:"تسمح لي أجلس مكاني" جلس صامتاً كمن أضرب عن إلقاء الدرس. فتعالت أصوات التلاميذ، الذين كانوا يضحكون لي، سيدي إذا كان في الفصل جرثومة فلا نريد أن نذهب ضحيتها، عندئذ تهلل وجه الشيخ فطلب من التلميذ "القواد" دعوة القيم العام، وفي الأثناء أخذ في كتابة كلمة يرسلها إلى شيخ الزيتونة - نظير شيخ الأزهر -... النيفر- لم أعد أذكر اسمه كاملاً - جاء القيم العام فقال له الشيخ:هؤلاء جميعاً"شم وبوس وحط في الجيب إلا تلك الجرثومة" وأشار بأصبعه إليّ وناوله الورقة. دعاني القيم العام فتظاهرت بأنني لست المقصود، وقلت لجاري قم له ، قال القيم العام وهو يكشر لي ويرسم علامات الجلد بيده في الهواء، بل أنت المقصود. إلى الآن لا أدري لماذا لجأت إلى هذه الحيلة اليائسة والغبية!. قادني من أذني إلى شيخ الزيتونة. قرأ هذا الأخير الورقة بصوت عال"التلميذ الماثل أمامك المدعو... اعتدى على ناموس الشريعة الإسلامية". وضع الورقة أمامه وأشار إليّ بيديه كلتيهما:"الشيخ الجمودي يدّرس هنا منذ 30 سنة ولم يرسل أحداً للعقاب إلا أنت... أنت مطرود، أنت مطرود، روح لبلادك [قريتك] واسرح بالبقر". لم يفاجئني الطرد، فقد كنت أفكر في الانقطاع عن الدراسة فراراً من الخصاصة، على الأقل في كوخنا خبز الشعير متوفر... وخاصة قرفاً من غباء الشيوخ الذين كانوا يلقنوننا يقينيات دينية مغلقة، وتأويلات نهائية لنصوص إشكالية، ومن قدامة المناهج التي كانت تدرسنا مثلاً "أحكام العبد الآبق[الفار]" وتكفير النقاش، الذي كان أحب الأشياء إليّ..." العجز عن إدراك [وجود الله] أدراك، والبحث في ذات الله إشراك"، بقدر ما فاجئني كذب شيخ "الحديث النبوي الشريف" المذهل. بأي وقاحة يماثل هجائي له بـ"الاعتداء على ناموس الشريعة" ! هذا الشعور عاودني في مارس 2005 وأنا أقرأ أكذوبة راشد الغنوشي التي تفوق الأولي وقاحة، عندما اتهمني، وهو متأكد من براءتي، بكتاب "المجهول في حياة الرسول" تحريضاً على قتلي... كل شيء مباح للتخلص من خصم فكري، إنها الميكافيلية في أكثر صورها بشاعة عند شيخ الحديث بالأمس وشيخ "النهضة" اليوم!
كتبت لوالدتي لتدبر لي ثمن تذكرة العودة إلى القرية. في مساء اليوم الثالث جائني زميلي وصديقي ، عبد العزيز الرياحي سليل القطب الصوفي، إبراهيم الرياحي،، كان الشيخ يحب عبد العزيز وكان يزور ضريح جده تبركاً، والذي أصبح فيما بعد مذيعاً... وأخبرني بأنه زار الشيخ في منزله وتشفع لي عنده وأنه، بإلحاح من زوجته، قبل شفاعته وعفا عني.
في هذا الجو الخانق جاء اطراء العروس المطوي لي كطوق نجاة من مسلسل الاضطهاد شبه اليومي في تلك المدرسة الملعونة. فبدأت أهتم بدرسه، وأبوح له بالشكوك التي بدأت تساورني؛ وقد أعارني من مكتبته الخاصة "الله" للعقاد فقرأته في ليلة واحدة كان الصباح لها جبيناً؛ قدم لي العقاد لأول مرة سبنيوزا الذي أعطاني المفتاح للخروج من أزمة الشك :"لو نطق المثلث لقال إلهي مثلث، ولو تكلم الحصان لقال إلهي حصان..." ولكن الإنسان هو الذي تكلم...
وعندما أصدر العروسي المطوى، مع أستاذنا المختار السلامي، "برنامج إصلاح التعليم الزيتوني"، كتبت عنه في صفحة الشباب في اليومية "الصباح"، وتجندت، مع صديق العمر محمود تاج، الذي أصبح فيما بعد محامياً،بالمناسبة وصلتني منه الأسبوع الماضي رسالة جاء فيها:"منذ سمعت بمرضك وأنا بعد كل صلاة فجر ابتهل إلى الله العلي القدير ليشفيك... قارنوا هذا برد فعل الغنوشي عندما سمع بمرضي! - كنا ننتقل في فترة الاستراحة من شيخ إلى آخر نستطلع رأيهم في البرنامج. قال لنا شيخ الإسلام، البشير النيفر، "انهم يرفسوا في حلاب مقعور" أي يثرثران بلا جدوى. فاشتبك معه محمود ولم استطع تهدئته إلا بمشقة.
لكن بعد التروي بدا لي أن هذا الحدث ، الذي لا شك أنه عزز ثقتي بنفسي أكثر، لم يغير مجرى حياتي. علاقة لا شعورنا بالأحداث أكثر تعقيداً وأكثر إلغازاً. بل قد لا يكون هناك حدث واحد، بل سلسلة من الأحداث الشعورية وخاصة اللاشعورية، التي تصنع، منذ الطفولة الباكرة إلى المراهقة، شخصيتنا النفسية. قد يكون تاريخنا الشخصي شبيهاً بتاريخ الأمم، في منظور "مدرسة الحوليات" التاريخية التي تري أن الأحداث الدرامية ليست إلا لحظات عابرة،زبد البحر، إنها تمثل الزمن الفردي الأقل تأثيراً في صناعة التاريخ. فهي ، كما يقول فرنار بروديل"كنار الحباحب الوامضة، نور شاحب، يسطع وينطفئ ولكنه لا يخترق الليل" أما الزمنان الآخران اللذان يصنعان التاريخ بعمق أكبر فهما الزمن الجغرافي، علاقة البشر مع محيطهم الجغرافي، ثم الزمن الاجتماعي، أي علاقة المجموعات البشرية بعضها ببعض، وأخيراً الزمن الفردي... زمن الأبطال التاريخيين...
كما أن سنونو واحداً لا يصنع الربيع، على قول ارسطو طاليس، وحدثاً تاريخياً واحداً لا يصنع تاريخ أمة، على قول بروديل، فكذلك حدث فردي واحد لا يصنع تاريخ إنسان، في نظري. ما يصنعه هو شبكة بكاملها من الرضوض والصدمات واللحظات الباسمة التي تتفاعل مع التاريخ الشخصي لكل منا ثم تترسب في أعماق النفس لتنضجها على نار هادئة.
إذا كان لي أن أجازف بفرضية مؤقتة، فسأزعم أن حدثين قد يكونا غيرا مجرى حياتي: عندما بادر "خالي" كما كنت ولا زلت أناديه، الحاج عبد المجيد العياري، بإدخالي إلى الزيتونة، وكان عمري 12 عاماً، كنت أصغر تلميذ في المدرسة كلها. لو تأخرت مبادرته 23 شهراً، إلى أن مات أبي، لما وضعت قدمي فيها. أمي ،عكساً لأبي، كانت ترفض تعليمي بشدة وتريد مني أن أرعي البقرات بدلاً منها، وكلما لمحت بيدي كتاباً صاحت فيّ: "عينيك ماشية تعمي من القراية، ولاش تقرأ ما تجيش نواره من زبالة..." أما الحدث الثاني فهو هجرتي من تونس في 10/1/1961 الذي اعتبرته ولازلت تاريخ ميلادي الحقيقي لأنه جعل مني حقاً من أنا: إنساناً أعطى لحياته معنى: بأمرين: باختيار قيَمه ونمط حياته باستقلال عن روح القطيع، وبتبني قيم عصره الإنسانية والعقلانية والتشجيع على تبنيها.
تحالف البيت والمدرسة والفقر على تدمير ثقتي بنفسي. لكن شيئاً ما في داخلي كان يقاوم. كان الكتاب، جليسي الدائم، حليفي الأقوى ضد ثالوث البيت والمدرسة والفقر. لم أكن قادراً على اقتنائه، لكن المكتبة الوطنية التونسية الحبيبة كانت تقدمه لي يومياً مجاناً. بفضله حيّنت إمكانياتي الكامنة، وبنيت ثقتي بنفسي حجراً فحجراً في المجال الفكري على الأقل.
الثقة بالنفس هي القاطرة التي تسافر بالإنسان إلى الأفاق التي حلم بارتيادها طفلاً أو مراهقاً. الشقاء هو الفشل في تحقيق أحلام المراهقة. حلمت مراهقاً بأن أصبح سيد الورقة والقلم. ولم يخب حلمي.
ولست أبالي حين أُقـتـلُ "عالِماً" على أي جنب كان في "العلم" مصرعي.
الحلقة الثانية
سميحة خريس:
مقالي الفضيحة الأول والملكية الفكرية
تنبيه: حقوق الطبع محفوظة.. أي انتهاك لها يدفعنا إلىملاحقة المنتهك قانونيا!