لقاء إيلاف

الصائغ: لستينات العراق ايضاً أسئلتها الكونية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حوار مع صادق الصائغ (1/2)

حاوره في بغداد صفاء ذياب: له طريقة خاصة في الكتابة، بل رأيته في الحياة كذلك، يبحر عبر منافيه هو، منافيه التي ابتدعها وشكلها مثلما أراد، إذ لم يكن للمنفى الذي طال على الربع قرن له تأثير على شعره او ميوله تجاه منفاه الأبدي: العراق... منذ أن بدأنا - نحن الشباب- الاطلاع على نتاج جيل الستينيات في العراق، أثار انتباهنا ثلاث نماذج في هذا الجيل، ابتدأناه بسركون بولص الذي اختط له منهجا خاصا وواضحا في الكتابة، وصادق الصائغ، ومناداة ونماذج عبد القادر الجنابي بقصيدة النثر. هذه الطرائق الثلاث استطاعت ان تبث فينا روح المغامرة والدخول في مجاهل كثيرة، ومن ثم انقذتنا من السقوط في هاويات كثر... لجيل الستينيات في العراق نكهة خاصة، ولصادق الصائغ نكهة خاصة، فإذا اجتمعت هاتان النكهتان نخرج بنماذج مبهرة تحفزنا على إعادة النظر في هذا الجيل من جديد.. ولمناسبة انتظارنا لإصدارات الصائغ الجديدة المتملثة بأعماله الشعرية عن دار المدى،، كان لإيلاف هذا الحوار معه، عن الشعر والمنفى وجيل الستينيات في العراق:

*كنت من اوائل العائدين من الخارج الى العراق بعد سقوط النظام، واشتغلت مستشارا في وزارة الثقافة. ما الذي دعاك للعودة الى العراق؟
- سأروي لك هذه الحكاية التي قرأتها بالانكليزية، يوم كنت مراهقا، وهي لسومرست موم: بحار يرحل عن جزيرته النائية الصغيرة، مقسماً اغلظ الأيمان على ان لا يعود اليها ثانية، لكنه بعد تطواف استغرق العمر كله اكتشف ان لا شفاء لوحدته غير العودة، وكان حلمه ان يفتح عينيه على مشهد السماء للمرة الاخيرة، وهوعلى علم ان السماء هي السماء في كل انحاء العالم ولن تختلف عنها في وطنه. وبعد ان بلغ التسعين واستقبله اهل الجزيرة بالحفاوة عادت روحه اليه ومات، راضياً مرضياً، في اليوم التالي.
هذه واحدة.
حكاية ثانية جاءت في قصيدة كفافي الشهيرة: "اذا انت خربت مكانك في ذلك الركن الصغير من العالم فهي خراب اينما حللت"
وهناك ايضاً البيت العربي الشهير :
بـكلٍ تداوينـا فلم يُشْفَ مـا بـنا على ان قرب الدار خيرٌ من البـعد
ٍوطبعاً، تذكرنا ميتة عوني كرومي بالذين ماتوا حسرة في المنافي. ولعلك، مثلي، سمعت عوني من احدى إذاعات المنافى البعيدة قبل ان يموت بأيام يقول: "لم احصل من وطني طوال عمري على غير الالم والتعاسة، واخشى ان اموت ولا احصل حتى على قبر فيه!!
لقد عدت، لأن كنوزي الروحية المدفونة هنا استيقظت دفعة واحدة بعد سقوط النظام: وكنت قبل ذلك أتساءل ماذا ستكون هذه الصحراء القاحلة التي هي العراق لو لم تسكنها روح السياب والجواهري وعبد الوهاب البياتي والرصافي وجواد سليم وسعدي يوسف وسركون بولص وعزيز علي ومحمود صبري وفاضل العزاوي وجان دمو وفؤاد التكرلي ومئات من المشهورين والمهمشين والصعاليك، ممن سأعجز عن تسطير اسمائهم هنا.
كنت اتساءل: ماذا لو مت ولم اسمع امي، تقرأ القرآن وتفتتح الفجر بصوتها الساحر او تخاطب شبابيك الأضرحة، وعيناها ملأى بالدموع، متوسلة بالكاظم والحمزة وشهيد كربلاء، ليقي عائلتنا شر البلاء؟
ماذا لو مت من دون ان ارى النخيل، سيد الشجر، سيد الحزن، سيد الطبيعة؟
ماذا لو لم اعثر على بقايا سعاداتي الصغيرة في درابين جديد حسن باشا، وجريدة البلاد، عـشي الاول الذي مارست فيه الكتابة والخط والحب وياما من أجله بكيت وبكيت ولم يسمعني أحد؟!
ماذا لو حرمت ذاكرتي صورة حسين مردان، أول من احببت من الشعراء المشهورين، يتمشى قي ذلك الزقاق الضيق- جديد حسن باشا- مع صديق عمره عبد المجيد الونداوي، مجلجلاً بصوت عالٍ، متقصدا ان يسمعه العابرون: "انا دكتاتور الادب"؟!!
ماذا لو لم أتلمس حيطان محلة "الإزرملي" - الدوريين الآن- وانا اجوب درابينها مشياً على الأقدام، واتفقدها بيتاً بيتاً، حيث طفولتي وصباي وشبابي قضيتهما هناك، ماذا لو لم أعثر على بقايا شعاراتي السياسية التي، بيدي هاتين، كتبتها بـ"بويه" خضراء على حيطان الإزرملي، شعاراتي المعادية لحلف العراقي التركي الباكستاني، وحلف بغداد وحكومة نوري السعيد، والتي مسحتها يد السلطة والريح والمطر وعوادي الزمن؟!!
ماذا لو لم اجد صندوق التنك الصغير، المدفون في حديقة البيت والذي احتفظت بداخله بكتبي وقصائدي الرومانسية الأولى التي نشرت بعضها في مجلة الآداب البيروتية ومجلة "الفنون" التي سمح لي صاحبها كامران حسني مخرج فلم "سعيد افندي" بأن أكون رئيساً لتحريرها، وانا ما ازال يافعاً وغراً.!! وكيف إذا لم تسنح لي الفرصة ان اطل على غرفة تحريرها في مطبعة اللأمة، في الحيدرخانة، حيث فاجأني السياب بزيارة قائلاً: اريد التعرف عليك، وكنت اعدت نشر قصيدته "غريب على الخليج " في المجلة دون إذن منه، وكان، حسبما قال، قرأ لي قصيدة "العناق مع الولد دحام"، فرحت اتراجف امامه كالسعفة، غير مصدق بأن السياب، بقضه وقضيضه، موجود امامي ويطلب التعرف علي!!
ماذا لو ضاع مني مشهد اشتراكي في اول مظاهرة في حياتي عام 1952 في شارع الكفاح، وكنت احمل على كتفي، مع آخرين تخت مقهى خشبي، وقد رقد على حصيرته متظاهر اصيب بطلق ناري، ومن فمه وانفه خرجت فقاعات الدم، فما عاد يستطيع التنفس؟!!
ماذا لو ضاعت علي ايضاً صورة شاكر اسماعيل، المحرر الرياضي في جريدة البلاد، يحمل لافتة تسقط حكومة نوري السعيد، والرصاص ينهمر بين رجليه، وهو مصر على الاستمرار برفع الشعار رغم توسل الآخرين بأن يهرب، فالمظاهرة تفرقت والأمر انتهى؟!!
وبالمقابل :
ماذا لو مت في هذه الغرفة
الى جانب هذ المرأة السمينة المعطرة
المرأة السمكة، ذات الاقراط
التي قالت
انها تعرف الشرق
تعرف ادونيس والبياتي وجواد سليم
وجَرّتْ الحديث الى وحدتها ووحدتي
واقترحت اخيراً
ان نذهب معاً
بصحبة احزاننا المشتركة
الى مخدعها الدافئ الوثير
ماذا لو مت تحت سماء لندن الصماء
تحت نجومها البعيدة
التي لا تقول شيئاً
والتي بلا حب
ولا ضغينة
لا مناديل ولا اجنحة
تقف بقميص النوم
وعلى هذا الارتفاع
لتغمزني بخبث
ومن وراء قناعها الانكليزي
ترسل لي قبلةً مجففة
احتفالاً
بعيد ميلادي الستين
في اول يوم من وصولي الى بغداد ونزولي في فندق فلسطسن، وكنت قررت ان اول شيء أفعله هو ان اسبح في دجلة واعبره الى الضفة الثانية، كما كنت افعل في طفولتي. هل تصدق؟ لقد نزلت من الطابق العاشر واجتزت الطريق صوب النهر. كانت روحي ترتجف في تلك الظلمة، وكنت قد تعريت تماما، اي ربي كما خلقتني، ورميت نفسي في الماء، مخترقاٍ الظلام المشتعل بسحر الليل، ويتملكني شعور التوبة والتطهير وغسل الذنوب!! ليس هناك من شخص يمعن في حب هذا المكان اكثر من اولئك الذين كانوا جزءاًً منه ثم انتزعوا من احشائه، فلما ابتعدوا اكتشفوا انه قدرهم الوحيد. لذا، وعودة على سؤالك، لماذا عدت، اقول، لأن ثقافتي وهويتي وكبريائي موجودة في هذا البلد، عدت لأتزود بكل ما افتقدته في الخارج: الطفولة والشعر والمغامرة والتوتر وقوة الوجود، والقدرة على تقبل الحياة بالدهشة الطفولية الاولى.

* اليس في هذا شيء من الرومانسية، قياساً بما نعيشه اليوم؟
- كثيرون قالوا اني رومانسي يوصل حلمه الى نهاية الوهم او طوباوي يبحث في الجحيم عن مدينة فاضلة... وانا اقول فليكن. لن اهتم بالمصاعب، فكلما زادت زاد اعتقادي بأن هذا البلد حياً ومليئاً بالمفاجئات ويستحق التضحية، بهذا الثمن. لعل القول الشائع ان "حظ العراقي ابيض بس بالركي- البطيخ-" ستتبدل هذه المرة، فنتمكن من استرجاع ما ضاع من بين مخالب الزمن، وبرأيي، فقد آن لهذا الشعب ان يتباهى بكبريائه التي صمدت وتخطت سنين الجمر التي بها تلظت، وانا واثق ان اوان حساب العد التنازلي لرحيل الاحتلال قد اقترب.

* نرى أنك - في بداية قراءتنا لمجموعتك نشيد الكركدن، كذلك في آخر قصيدة قرأناها "هنا بغداد" تهتم بهندسة القصيدة، من حيث الشكل والصورة البصرية، ومن ثم تبحث عن نمط درامي يتصاعد في القصيدة وصولاً إلى نهايتها المقترحة، ماذا تضيف هذه الهندسة إلى شعرية القصيدة؟

- اعتقد اني منذ البداية نشأت كشاعر بصري يميل بطبعه الى ان يحول تجاربه الملموسة الى دراما ذهنية، وأتصور أن العناصر التي ذكرتَها آنفاً، وليست، بالطبع، هي الأشياء الوحيدة التي تشكل "الهندسة"، بحسب تسميتك- انها احدى نواتج تلاقح الأجناس، عندما تصب ببؤرة واحدة، وهذا، كما قلت، بناء تعلمته من السينما وليس من الكتب، إذ لم تكن في بيتنا مكتبة،السينما، في ذلك الوقت كانت، بالنسبة لي، ملجئا وحيدا، بل وخليقة بكاملها، قياسا بالقحط الاجتماعي والعمر الضائع والوجود المنقطع على كل المستويات. عبر تلك الشاشة الصغيرة وفي ظلمة القاعة الصغيرة كانت الحياة تتغير أمام العين، وكنت، عبر هذا التغير، أقارن واتهجس بباطن العقل والعاطفة وبميزان الأشياء الغامض الفروق القائمة بين حضارتين. كنت أتغير من الداخل، متسائلاً، بالمقارنة آلآف الاشياء التي تمنعني من السعادة.
لقد قلبت الصورة دواخلي وحرثتها منذ وقت مبكر، والسينما، من الناحية الفنية، كما تعرف، تعتمد الصورة، كادرها البؤري الواحد غاصٌ بكل اجناس التعبير وفي داخله تتجمع اجمل المحاصيل، هناك الضوء والظل واللون والصوت والموسيقى والبناء التشكيلي... إلخ. وطبيعي ان تختزن هذه الرؤى العجائبية في اعماقي لتتسرب بعدئذ، بعفوية، الى الادب، وليس عجباً اذن ان تتكسر في قصائدي التفعيلة والايقاع الخارجي والبلاغة المنبرية واليقين، وظهرت فيها منذ البداية علاقات التلقيح، النثر، الكولاج، اللاوعي، التيارات الحارة والباردة، الوعي والهذيان وحتى ما هو محتقر من قبل الاسبقين، شعريا.وقد تطورت هذه العناصرعلى يد أجيال جديدة وصولاً إلى عصر الفضائيات، اما العنصر الدرامي فهو احد اركان حياتنا العراقية، حيث اليأس لا يقهر، وحيث التحدي المستحيل لا يكف عن محاولة قهره!!

* السينما اذن هي ارضك البكر وطفولتك الأولى، هل هي التي دفعتك الى الشعر؟
- نعم. يمكن القول انها دفعتني الى "شعرية" خاصة. الشعر كان معي منذ البداية، لكن في حالة كمون، ولأني لم اتحسس وجوده إلا بشك غامض فلم احمله، في البداية، على محمل الجد. لقد تسلل فيما بعد، من عالم الجينات الغامض الى سطح الكتابة. العديد من افاد عائلتنا كانوا شعراء بالسليقة، اخي عبد الامير، مثلاً، كان شاعراً ومغنيا غنى شعره في الاذاعة العراقية، قبل ان تظهر اشرطة التسجيل، وخالي عزيزعلي كان زجالاً ومغنياً وملحناً في نفس الوقت وتسجيلاته ما تزال شائعة. وبالنسبة الي فقد بدا الامر مُزاحاً في البداية. كان الايقاع الدي تعلمته في المدرسة يدحرجني في اثناء اللعب مع الاطفال ويغرقني في فورات ضحكه، وكنت اقول النابغة والحطيئة والخنساء والفرزدق وجرير وانا اضحك. احياناً كنت اتصرف واشاكس، واضعا هذا البيت بديلاً لذاك، مستبدلا كلمات الاجداد الصالحين بكلماتي المازحة الصغيرة دون ان يتأثر الوزن ودون ان انتبه انا نفسي الى عبثية ما افعل، بل دون ان ينتبه حتى المدرس الى اني "اكولج " المادة بغريزة لم تعرف، بعد، فن الكولاج، فإذا ما انتبه المدرس الى فعلتي ضحك هو الآخر وهز بوجهي اصبعه مستلطفاً وقائلاً: "ياشيطان"! لكن وجهه يتهجم بعدئذ، وينتحي بي ركناً ليقولً صادقاٍ : اياك اياك والسياسة. ويبدو ان هذه الاحابيل الكولاجية البريئة ساعدتني لاحقاً على "تفكيك" وبناء مقدسات كثيرة واللعب بتراكيبها غير المقدسة، في الشعر والسلوك، وأوصلتني، دون ان ادري، الى دراما الوجود، ولأن كل لعب بالتالي ينتهي الى جد، فقد ظهر "نشيد الكركدن"، متلبساً بدنس خطيئته الأولى. وكانت الرقابة لقد رفضت نشره علي حساب الدولة، فتبرع الصديق العزيز اصطيفان مال الله، صاحب مطبعة الأديب بنشره، وقبل ذلك كان الصديق مؤيد الحيدري قد تبرع بجمع قصائده المتفرقة والمنشورة هنا وهناك، بعد ان لاحظ اهمالي وعدم اهتمامي بدفعه للطبع. وقبل ذلك كنت قد فصلت من اتحاد الادباء، بحجة قراءتي في احدى اماسي الاتحاد قصائد تناوئ السلطة، وعُمم امر بـ"التصدي" لي بمقالات متسلسلة على صفحات جريدة الثورة، وكان بعض من ساهم في تلك الحملة يعتبرون انفسهم اصدقاء!

* هل تذكر اسماءً؟
- لا. الأمر يتعلق بالضمير واخلاق الكتابة. يكفي ان اشير الى ان هؤلاء ما زالوا أحياء ويعرفون انفسهم. وهل كانت هذه القضية الوحيدة؟ وهل هي مهمة الآن، قياساً بآلاف الارواح التي دمرت، بسبب الغدر والوشايات. وسأكون سعيداً لو عرفت، الآن على الأقل، ان هؤلاء احسوا بالندم وفداحة ما كانوا يفعلون، فأنا، على اية حال، من جماعة مانديلا الذي أرسي فكرة التسامح، كحل وحيد لمستقبل البشرية، ولا مفر من تضحيات جديدة.

* قلت ان اللعب قادك الى الجد؟ وما يعني الجد هنا؟
- يعني اختراق المحرم والسباحة عكس التيار، فالألعاب البريئة في الشعر قادتني، بالتتابع، الى اختراقات اخرى في الفكر والسياسة والسلوك والاخلاق، قادتني بالتالي الى ارتطامات مدوخة، واستطيع اليوم تفسير مراحل طفولتي ومراهقتي الصعبتين، على ضوء هذه الإرتطامات، فالعوارض التي صادفتني في الشعر هي نفسها التي وقفت في طريقي في الحياة، ومذاك أحسست بأهمية وخطورة تطلباتي الداخلية التي كانت تتعلق بالحرية كغريزة انسانية تحتاج، للدفاع عنها، الى تضحية ووعي ومعرف، لجعلها ممكنة وتخص الجميع. ان التوافقية المتجهمة التي هي فطرة ايديولوجية لكل مجتمع متخلف تفرض عسفاً وطغياناً على كل من يكشف عيوب تخلفها، وهي لذلك تقف بالضد وبوجه متجهم، تجاه اية محاولة للتغيير. ومثل ابناء جيلي تعين علي ان ادفع الثمن، اعتقالاً ومطاردة وتهجيرا، وما زالت الاجيال التي لحقت تدفع الاثمان الخاصة بها حتى الآن.

* تقول في الستينات حدثت تغييرات جذرية في السياسة والحياة الثقافية. كيف تحدد شكل ومضون التغيير الذي تعنيه؟
- التغييرات التي حدثت في الستينيات شكلت انعطافا جذريا، لا العراق فحسب، بل في كل العالم كله، وكما ان الثلاثينات شهدت انعطافاً في الشعر على يد عزرا باوند وإليوت شهدت الستينات شيئاً مماثلاً في العراق. الانعطاف حصل في الأفكار والسياسة والاجتماع والفن والادب، والسؤال كان كونياً: هل الحرية التي تأسست بثمن حربين عالميتين احتوت عدالة اجتماعية في النظامين الجبارين المتصارعين، الرأسمالي المتمثل بأميركا والغرب، والاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية؟ هل هذه هي حدود الامل الإنساني، أم ان هناك مخرجاً لحلم آخر تنتجه الحركات الثورية في العالم الثالث؟ على ايقاع مثل هذه الاسئلة كانت الستينات في العراق ايضاً، تسجل يومياتها، مستطلعة ومسجلة ومشاركة، بالنقد الموجه، لا إلى النظريات الكبرى كالراسمالية والاشتراكية فحسب، بل والى تجربة الاحزاب الوطنية، وخصوصاً الى نظريات الادب والفن القائلة بوحدانية الواقعية الاشتراكية . على مستوى عالمي ظهر يسار جديد ينتقد الستالينية والتروتسكية واللينينية، بل وظهر من تنتقد الماركسية، كونها كونها أقفلت على نفسها كدين وعقيدة بعد موت ماركس، وكونها قدمت نقدا فذاً للاقتصاد للرأسمالي، لكنها لم تقدم بدائل كاملة لنظام اشتراكي انساني للقرون التي تلت. وفي هذا السياق حفرسؤال روزا لوكسمبرغ الالمانيةعن معنى الحرية وحدودها في الهيكليات الفكرية العالمية وفي الجدار اللينيني بشكل خاص، فما معنى حرية تكون امتيازا لطبقة واحدة- طبقة البروليتاريا-ويتمتع بها حزب واحد فقط؟ وما معنى ان يفرض نفسه حزب واحد ليكون رباً يعبده الجميع؟ هكذا ناقشت روزا لينين، ولقد تسرب وقع السوال الذي تعمق بتقادم الزمن الى الحياة العربية المتوقفة عند حدود الاستبداد الشرقي والدكتاتوريات القومية، واشترك المثقف النقدي في اثناء الفراغ السياسي الحاصل بعد مجيء حكومة عبدالرحمن عارف، وأن بخجل، في النقاش الذي اثقلته مداهنات الاحزاب الوطنية، قومية كانت ام يسارية. وفي هذا السياق ظهرت ترجمات لغرامشي والتوسر وشارل بتلهايم وغارودي وماركوزا وسارتر وآخرون كثر، وفي اثناء الحرب الفيتنامية ظهرت حركات معارضة مثل الهبيز والليبيز عارضة تجديد الحياة تحت شعار "اصنع حباً لا حرباً"، كما ظهرت الجيفارية والماوية والفهود السود والألوية الحمراء والمقاومة الفلسطينية وبرزت الحركات الطلابية في فرنسا وأوروبا كقوة مؤثرة في العبة السياسية وتجرأت حتى على سارتر بقولها: إخرس ياسارتر! كما برزت شخصيات طلابية مثل جيري روبن في امريكا وطارق علي في بريطانيا ودوتشكه في المانيا وغيرهم. أما في حقل الفن والادب فقد ظهرت مدارس مثل الموجة الجديدة في السينما والرواية الجديدة في الادب ومسرح العبث في المسرح والبوب آرت في التشكيل، ولم يحدث ان تجمعت ارادة تغيير مؤكدة مثل هذه الارادة التي كانت تتوقع ظهور غودو آخر لا يستند الى نظرية يائسة، بل الى فعل ثوري يفتح باب الامل.
كل هذه التغييرات أثرت في العراق كما في البلدان العربية الاخرى، فانشقت الاحزاب وتتالت الانقلابات وتنوعت الافكار وجرت مراجعات لهزائم حزيران وتهافتات الخطاب القومي القومي وكل ما فكك الجسم الاجتماعي وخربت بناه التحتية في حروب متتالية عابثة. وهذا كله انعكس في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وكان طبيعياٌ ان ينعكس ذلك كله في الأدب والفن، وقد افتتح ذلك، في رأيي جواد سليم، خاصة في عمل "نصب الحرية" الذي اوصل الفن، حتى قبل الستينيات، الى بوابة الحداثة، مدخلاً التشكيل العراقي الى ساحة القرن العشرين .

* ألا نستطيع ان نقول أن الشكل بدأه الخمسينيون، ومن ثم جاء الستينيون ليكملوا الفكر الذي تلبس القصيدة الجديدة؟
- الخمسينيون أنجزوا شكلا خاصا بهم وحققوا انجازاً كبيرا في التشكيل والشعر. في التشكيل ذكرت جواد سليم ولأي الشعر اذكر السياب والبيات وبلند الحيدري، هؤلاء، كماهومعروف، هدموا العمود وفككوا هيكلية الشطرين وتجرأوا قليلاًعلى القافية والايقاع، وهذا بحد ذاته ثورة، لكن القصيدة نفسها بقيت تكرر سياقها البلاغي وايقاعها المماطل وتمسكها باليقين الخارجي. اما الستينيون فقد احدثوا تغييرا جذريا في الايقاع وفي التذوق. ادخلوا قصيدة النثر، عابرين من لغة الضواحي الى اللغات العالمية. اعتمدوا الكولاج الذي تحول في الادب الى تناص، وادخلوا تيار اللاوعي على المستويين الحار الافقي والعمودي، ودخل السرد في النسج واختلط الحار بالبارد واعيد الاعتبار لكثير مما كان محتقراً من قبل الخمسينيين، كمسألة المنطق، مثلاً، فقد لا يكون هناك منطق، لكن هناك قصيدة، وعليك كقارئ ان تعيد تشكيلها وان تفكر وتكتشف وما لم يكتب على السطح لكنه موجود ذهنياً، في الخلفية. كما استعمل التشكيل في رسم القصائد على مواد وخامات غير ورقية، وكانت قصيدة فاضل العزاوي التي رسمها ضياء العزاوي على فستان سالمة صالح في اثناء مهرجان المربد الاول حدثاً في ذلك الوقت، كما بدأ البعض رسم قصائدهم بأنفسم، انا نفسي فعلت ذلك في قصيدة هذا "قبر المرحوم" التي اتخذت شكل قبر ونشرت في مجلة "مواقف "، وغيري حاول الشيء نفسه مضيفاًعنصر الكولاج... هذه وغيرها شكلت مواشير تعكس جماليات القصيدة الجديدة وأهلت والمبدعين من الستينيين ان يزعموا بأن ادبهم ينفذ الى سطوح عديدة، والى ما هو غير مرئي، وله مواصفات ورؤي داخلية تعكس، بصدق اكبر، الحياة وتراجيديا الوجود الانساني. وطبعاً، وكما هو الحال في كل مرحلة تجديد، تظهر كتابات سيئة يسيطر عليها هوس التقليد والتأثر السطحي والمباهاة الطائشة، لكنهاتبطل وتنقطع عن الوجود بمرور الزمن، بسسب ضعف صلتها الابداعية بالموضوع، واذا راجعنا السجلات الحالية فسنجد ان كثيرا من هؤلاء تركوا، ليس الشعر وحده، بل والكتابة ككل.

* إلى أي مدى استطاع التطبيق الستيني لهذه الأفكار ان يصل بنموذج يصلح ان يكون مؤثراً حتى الآن؟
- ليست الستينيات نمذجة: انها مخيلة حرة وطاقة مفتوحة على كل الاحتمالات. ولأنها فكرة الجمال في متغيراته، فإني اعثر عل اللحظات الممتازة من الستينيات في الشعر الحالى المنشور هنا وهناك. ومثلاٍ، عندما أقرأ طالب عبد العزيز او عبد الزهرة زكي أو عبدالعظيم فنجان يزداد اعتقادي ان روح الستينيات مستمرة وانها ما تزال تحرك الحياة الشعرية بخصائص جديدة مضافة، سائرة بأسلوبها الخاص في مجرى الزمن الذي قطعه الشعر الحديث في العراق. واكيد ان هناك شباباً آخرين يضعوننا في الحالة الفنية المعقدة التي تربط الستينات وحاضر القصيدة الحالية، مثل مروان عادل حمرة وغيره، ممن لم اتعرف عليهم بعد.

(يتبع)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف