عثمان حسين في الشعر وغزة وعشتار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حوار مع الشاعر الفلسطيني عثمان حسين
نصر جميل شعث من غزة: على الصعيد السياسي، بلا شكّ هذه غزة، شاغلة المجتمع الدولي، أمام جُمَل تاريخية وسياسية خطيرة ومهمة. وعلى الصعيد الإبداعي، فهذا التحوّل صارَ المحفّز والباعث الجذري على الخروجِ من قَدامةِ الجهل أوتجاهل التحولات الإبداعية إلى حداثة الالتفاتاتِ، إلى الكرنفالات المكتوبة عن " ربيع شعر غزة " باعتبار هذه الـ " غزة" موطناً بالصدفة أو بالأصالة لـ " قصيدة النثر". والإشارةُ، في هذا المقام، تذهب إلى سؤالٍ كانَ قد طرحَهُ القاصّ الفلسطيني زياد خداش - في جملة أسئلة حوارٍ جمعنا معنا " ونشرته إيلاف - مع الشاعر الفلسطيني باسم النبريص. وقد أظهرَ القاصّ، بالسؤال، شعورَه من رام الله المعزولة، لأكثر من ستة أعوام فلسطينية عن غزة، بأنّ قصيدة النثر تسكن الآن قطاع غزة، وأن أشباهها، في هذا المكان الوطني، ما هي سوى ظلال أو انعكاسات لها. متسائلاً: ما الذي في قطاع غزة من صفات تجعله ملجأً حميماً لهذه القصيدة؟ وكان قد عرّجَ بالسؤال على الدور الذي لعبته مجلة " عشتار " برئاسة الشاعر عثمان حسين ومعاونة خالد جمعة- والمساهمة، في كسر قانون السائد الشعري في غزة على الأقلّ"؟ كانت إجابة الشاعر الرفيعة أنه: " لا يُوجد في القطاع ما لا يوجد في غيره. فقط هي الصدفة التي جعلت من هذا المكان الفقير والمنسيّ مختبراً هائلاً لإنتاج وإعادة إنتاج الحالمين والممسوسين بالفنّ ومكابدة التجريب.
بمعزل عن همومنا السياسية، والميدانية. ليوقّع هذا الحوار نفسه، إذاً، كنص كونه نقاشًا في صلب المسائل الأدبية والإبداعية. بقي أن نذكر أن الشاعر عثمان حسين، من مواليد رفح ـ غزة عام (1963). مؤسس ورئيس تحرير مجلة عشتار الأدبية، مؤسس ورئيس جمعية عشتار للثقافة والفنون. شغل منصب رئيس القسم الثقافي في صحيفة الوحدة الظبيانية ـ الإمارات (1985 ـ 1989). وكذلك سكرتير اتحاد الكتاب الفلسطينيين (1991 ـ 1993)، كما شغل منصب المدير التنفيذي لمؤسسة بيسان للإعلام (1993 ـ 1997)، ويشغل حالياً منصب مدير الدائرة الثقافية في مركز التخطيط الفلسطيني.rlm; وقد أصدر الشاعر: " رفح.. أبجدية ومسافة وذاكرة " ـ بالاشتراك مع خالد جمعة (1992)، " البحار يعتذر عن الغرق " (1993)، " من سيقطع رأس البحر " (1996). " له أنتِ " (2000). " الأشياء متروكة إلي الزرقة " (2004).rlm;
- لنبدأ من مجموعتك الأخيرة: " الأشياء المتروكة إلي الزرقة ". قد يكون العنوان، بحد ذاته مقتربا خطيرا، من علاقة الذات بالله، وعلاقتها بالأشياء. ظاهر النصوص يبدي الحرص على الدعاء في خضم المكابدات. لكن تحت البنية، الذاتُ تقول: أنا لا دخل لي بما يحدث. هذا لفظ من ألفاظ التنصل. وقد يكون ما تعنيه تبرئة نفسك وتأييدك مذهب الجبرية بشأن المصائر.. ولكن قد نجد في المعنى النكوص أيضاً. ما تعليقيك؟
بينما كان العالم يرسم نشوته الغامضة في سماوات المدن الكبرى ابتهاجاً برأس الألفية الثالثة، كانت الآلة العسكرية تحتفل بطريقتها الخاصة وتربك ليالي المخيمات الموحشة بقنابلها المضيئة، منذرة رأس الألفية الضخم بالويل والثبور، كانت المخيمات المحاذية للأسلاك الشائكة، (الشريط الحدودي الفاصل بين قارتين عملاقتين) مسرحاً للوحوش الآدمية والمعدنية العملاقة. كان يرتكب جيش الاحتلال عظائم الأمور، مستخدما سياسة الأرض المحروقة بحق تجمعات عزلاء تسكن إلى أعشاشها بعد صلاة العشاء.
كتبت نصوص " الأشياء متروكة إلى الزرقة " أثناء تلك الاجتياحات، وهي لا ترصد الأحداث بقدر ما تتخبط في أتونها، أعترف بأن هذه النصوص آنية، انفعالية، مكتظة بالتناقضات، إلا أنها تضيء مرحلة صعبة كنت جزءاً منها. فأنا من ساكني هذا الشريط الحدودي في رفح، أعدو مع الهاربين ليلاً من سكاكين الجرافات، التي تذبح كل شيء أمامها، وأشارك في حمل الأطفال النائمين المنسيين في أعشاشهم، كنت على يقين بأن الإله البعيد عاجز عن فعل أي شيء. كانت النصوص تستنجد بالهيولي العظيم، وبجميع مساعديه من آلهة وأرباب، أنت تلاحظ ببساطة هذه التعددية في المسميات، وحين يرفع صائغ المصائر يده، مراقباً بألم، مستنكراً ما يحدث، ورافضاً تبدل المصائر التي خطط لها منذ الأزل ؛ فان الجبرية تفقد مفهومها. في الأشياء المتروكة إلى الزرقة برّأت نفسي- الضحية، وبرأت الزرقة من تهمة الانحياز.
- مجلة " عشتار " نقطة تاريخية وتجريبية، كان لها الفضل في خلخلة السائد واحتضان المختلف. تمردت على طمأنينة الشكل وتضامنت مع الشياطين الجدد. وكأي مشروع لاقت الرفض والقبول. لكنها وجدت طريقها لعموم فلسطين،العراق، الأردن، مصر ودول عربية كثيرة. ولو تحدثنا عن هذه التجربة، المكابدات والنجاحات، من كان يدعمها. قيل مكتب الرئيس الراحل ياسر عرفات؟
في مطلع التسعينيات كنت قد عدت من الإمارات إلى غزة، بهدف الاستقرار. وكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى تدنو من نهايتها، وأذكر أن مجلة الفجر الأدبي كانت تلوك السائد والعادي، حيث كانت هي الأخرى تدنو من نهايتها أيضاً. مركز شؤون المرأة، والسيدة اعتماد مهنا وقفا وراء إصدار العدد الأول من مجلة عشتار الأدبية في مايو 1993. وكانت الروائية سحر خليفة مؤسسة المركز قد باركت هذه الخطوات ودعمتها. أما الهدف من إصدار المجلة، فهو نشر نتاج جامعيات احتضنهن مركز شؤون المرأة، ووفر لهن الرعاية والدعم في محاولة لصقل مواهبهن الشعرية.
بعد العددين الأولين أنضم كل من الشاعر خالد جمعه، والتشكيلي فايز السرساوي إلى هيئة تحرير المجلة. وأخذت الأفاق تتسع والرؤى تتعدد. كانت " عشتار " صوتاً تبشيرياً حقيقياً ساهمت في تنشيط الحقل الأدبي، وفي بلورة ملامح المشهد الشعري الجديد تحديداً. وكانت قدمت العديد من الأسماء الشابة التي أثرت المشهد فيما بعد، كما استقطبت أسماء فلسطينية عربية معروفة. لقد شكّكت في اليقينيات والمسلمات الشعرية. وأعتقد أنها لعبت دوراً رئيسًا في رفد المشهد الشعري الراهن في الأراضي الفلسطينية، بالكثير من القيم الجمالية. بيد أنها توقفت بعد صدور عشرة أعداد ورقية وأربعة الكترونية ؛ لأسباب مالية. حيث ساهم الرئيس الراحل ياسر عرفات بتغطية نفقات أربعة أعداد، بينما " المركز الثقافي البريطاني " في غزه بعدد واحد. وهكذا كنا نبحث عن تمويل من المجتمع المحلي للاستمرار في إصدارها. إلا أن المجتمع المحلي دخل إلى أتون الانتفاضة الثانية الأكثر عنفاً ودموية من الانتفاضة الأولى. لقد أضاء عشتار مشهدنا طيلة سنوات ما بين الانتفاضتين.
- هناك من يرى بتأثر الشياطين الجدد بغيرهم من الآلهة القدامى، قد يكون هذا إدعاء باطل أمام امتلاك الشياطين مخيلة وذات سوريالية تنجح في خلق الصور والمفارقات الصادمة، غير المعهودة. انتباه الشعر لنفسه جعله يتحول عن إجابة ماذا وكم أكتب إلي كيف أكتب فلسطين. كيف ترصد حركة التجاوزات في الشعر الفلسطيني عموماً؟
السؤال مباغت لي كشاعر قياساً مع فضائه، وفي حوار بين شاعرين ! هل نستطيع رصد المشهد الشعري الفلسطيني جغرافياً، كي نتمكن من رصد حركيته؟ وما دمنا نستخدم مقولة " الشعر الفلسطيني " هل الشعر الفلسطيني ما يكتبه الشعراء الفلسطينيون في شتى المنافي، حتى وإن كتبوا بلغات غير عربية؟ أم أن الموضوع الفلسطيني هو الذي يفرض نفسه على المسمى المذكور، وإن كتبه شعراء غير فلسطينيين؟ أسئلة تلوك نفسها منذ عقود، إلا أن محاولات الإجابة هي التي ستفضي إلى مسالك وفضاءات مبهرة.
أما الراهن الشعري، فإنه خلاصة تجاوزات منسجمة إلى حد ما مع حركة التجاوزات في الشعر العربي خاصة، والشعر العالمي عموماً. وهذا الموقف لا أراه صحيحاً في ما يتعلق بموضوعه الرواية أو القصة القصيرة على سبيل المثال.
إن حياة الفلسطينيين بكل تناقضاتها، هي من تداعيات النكبة، في شتى مجالات الحياة ؛ إلا أن الشعر الفلسطيني منذ إبراهيم طوقان (مستشرفاً النكبة) مرورًا بأبي سلمى، وانتهاء بغسان زقطان أحد أهم عبدة الأصنام من جيل السبعينيات، لم يخرج ( الشعر) عن مجاله الذي فرضه واقع النكبة تاريخيًا وموضوعيًا. لقد تكلّس شعر الثيمة الواحدة بفعل التكرار والتنميط القبيح الذي مارسه الشعراء طيلة العقود السابقة.
وكان لابد من مفارقات، الأجيال اللاحقة التفتت إلى فضاءات متعددة، قائمة بفعل التداعيات التي لن تنتهي. هذه المناطق الجديدة تطلّبت لغةً جديدة، والتي بدورها ولّدت أنساقاً جديدة أيضاً.
- عمومًا، يتقاطع المجموع في سؤال: هل الشعر هنا في أزمة أم به عافية؟ هناك شيء لا نختلف حوله وهو أن التفاعل الذي يربطنا بالشعر، وحده يكون مع شعر لم تمسه نزعة تسجيلية أو إطار لفظي. أما الكتابة عن الوطن وأوضاعه المحزنة والمتبلدة، فباعتقادي أن نظرية المعادل الموضوعي لن تفرغ القصيدة من الوطن. إذن أين ترى موقع الشعر الفلسطيني الان؟
لا أرى موقعًا محدّدًا يمكن أن يحتله الشعر الفلسطيني على سلم الشعر العربي، فالعلاقة بينهما عضوية ؛ نظراً للمرجعيات المشتركة، دون نسيان مقولة " الشعر ديوان العرب ". وربما لا يصلح هذا القول عن علاقة الشعر العربي بالشعر العالمي، رغم تبادلية التأثير والتأثر بينهما عبر التاريخ، ونستطيع الحديث عن احتلال الشعر العربي لمواقع متقدمة في منظومة الشعر العالمي. كما أن الشعر الفلسطيني الراهن قد تجاوز ما كتبه الشعراء الفلسطينيون خلال الربع الثالث من القرن العشرين وما بعده بقليل. وبمعنى أخر، فإن الشعر الفلسطيني قد تجاوز نفسه، وهو دائم التجاوز. وأرى، أيضا، أن تجربة الكتابة الشعرية الجديدة للأجيال الشابة في عموم فلسطين التاريخية هي بمثابة بعث الروح من جديد في الشعر الفلسطيني المعاصر.
- ولكن، الرداءة هي الرداءة. أينما لمسناها في نصّ، نحكم عليه بأنه رديء. وهذه دعوة إلى التخلي عن التقسيم التقليدي اللفظي الذي يُتشدّق به، في أي مناسبة يأتمر حاضروها حول حلقة التقابل بين الشعراء المكرسين والشعراء الشباب. عند القراءة في نصوص الشعراء الشباب وغير الشباب، هناك كلمتان حاسمتان من كلمات النقد الحيادي: النص جيد ( أو ) النص رديء. وما بينهما مساحة للمجاملة والتشجيع. ويبدو أن حظ الأدب الفلسطيني من النقد بأقلام فلسطينية قليل، في حين أننا نعدّد أسماءً فلسطينية بارزة عملت وتعمل في النقد على مستوى عربي، أمثال: جبرا إبراهيم جبرا، إحسان عباس، فيصل دراج،.. وغيرهم؟ وهناك أمر يشكك في جماليات مراحل ما من المشروع الشعري الفلسطيني، إذ انكبّ كتّاب النقد العرب على تناول الأدب الفلسطيني، ولكن، ليس بمعزل عن الدافع الفلسطيني؟ إذاً، كتابة النقد، مثلها مثل كتابة الشعر، شابها الدفاع عن الدافع الفلسطيني، لا الجمالي والفني؟
بالفعل، لقد أسست كتابات هؤلاء لقيم جمالية محكومة بـ " الدافع الفلسطيني " كما تسميه. حيث فتنتهم ظاهرة شعراء الأرض المحتلة أو ما اصطلح عليه بـ " شعراء المقاومة "، وألهب خيالهم النقدي. ومنهم أيضاً رجاء النقاش، ومحاولات غسان كنفاني النقدية التي فتحت شهية الآخرين. لقد طوع النقاد مناهجهم لتتلاءم مع واقع الشعر المقاوم. قدموا شروحات نقدية تدور في فلك تلك الحالة الشعرية. وفي الكثير منها شروحات أساءت إلى نفسها، بقدر إساءتها إلى حساسية الشعر.
وكما لم يكن الجماليّ في وارد النصوص الشعرية المشحونة بالدافع الفلسطيني، فأن النصّ النقدي المكتوب في هذه النصوص الشعرية وعلى هوامشها، لم يعبأ، أيضاً، بجمالياته. وربما يكون طلاب الدرس لنيل درجة الدكتوراه على مستوى المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية والعربية على حد سواء، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، قد أضافوا الكثير الكثير إلى كتابات وشروحات هؤلاء النقاد حول نفس الظاهرة.
لقد ساهمت هذه الكتابات في تكريس أنماطاً شعرية ونقدية استغرقت النصف الثاني من القرن العشرين، ومازالت أصداؤها تتردد في جامعاتنا كما قلت. وأرى أنكم كجيل جديد قد تجاوزتموها بصعوبةٍ، وبعد إرهاصات قاسية من سابقيكم قريبي العهد.
- للنشر الالكتروني مآخذ وحسنات. مثلاً، بشأن كتابة النصوص مباشرة على الشاشة، وتلقيها. هناك فجوة بين كتابتين وقراءتين للنص. فلحظة كتابة أو قراءة النص، مباشرة من على الشاشة، قد تقع ككاتب وكقارئ، تحت تأثير وإغراء الشاشة ؛ فتأخذ موقفاً ايجابياً تجاه النص. وعندما تقرأ النص ذاته مطبوعاً على ورقة، قد يحصل التراجع. وربما هذه الملاحظة، بدورها، تقود لمسألة يكون الكلام حولها ضرباً من ضروب التفلسف تحت عنوان: النصّ الشعري بين إشراق المخيلة وإشراق الشاشة. قد نجد نصوصاً تتخذ من اللغة، المرصوفة على بياض الشاشة، بطلاً سرعان ما يشير إلى تورط النصّ في التهويمات، وهذه الأخيرة يمكن العثور عليها لدى بعض التجارب. ولكن من محاسن النشر الالكتروني أنه أحدث تراجعاً لكلمات وأوصاف رائجة مثل " الشاعر الكبير "، و " المكتبة الخاصة " لصالح انفتاح الشعراء الشباب على النشر. أصبحنا نقرأ نصوصاً لشعراء، أينما كانوا، أهم شعرية مما يكتبه شعراء معروفون، وينشرون إصدارات أو في ورقيات فاخرة. أود أن تحدثني، في ضوء ما تقدم، عن موقفك من النشر الالكتروني، وسبب إحجامك عنه لغاية الآن؟
أدخل، من آن إلى آخر، بعض المواقع والمنتديات الأدبية الالكترونية.. أتابع عن كثب، وأنشر، أحيانًا، جديدي هناك. لكنني لستُ مكرساً في أروقتها، ولا أسعى إلى ذلك لأسباب أجهلها الآن. وهذه السهولة في الوصول إلى الآخرين، ووصولهم إليك ؛ أغرت الكثيرين بالاندلاق في فضاء الشاشة. النقلة نوعية وسريعة، لذلك هي مربكة. لاشك أنّ هذا المعطى الجديد قد قلب المعايير، وأدخل الكاتب والقارئ سويًا إلى نفق مشترك يفضي إلى معلوم غامض، وأحياناً يبدو شبحيًا. على الصعيد الأدبي، فإن مادة هائلة تتسكع في طرقات ومجاهيل هذه الشبكة العنكبوتية، دون حسيب أو رقيب. ليس على المستوى اللغوي أو الجماليّ، بل على مستوى الصياغة، وهذا أضعف الإيمان. لا بأس، ليجرب الجميع، وليدخلوا مجاهيل هذه الشبكة. وأعتقد أن القارئ هو سيد الموقف كما كان دائما.
- الرواية، المسرح، القصة القصيرة، الفن التشكيلي.. أجناس لا حظّ، أو بهجة لها ؛ أمام حضور الشعر. كيف تفسّر ندرة وتراجع وتواضع هذه الأجناس في أدب الداخل؟
بيئة الداخل الفلسطيني غنية بتفاصيل ذات معنىً، وصالحة جداً لحضور روائي مهم. تحديدا الرواية. والواقع المعاش يقول ذلك صراحة، وبوضوح. إلا أن ما قدمه الروائي الفلسطيني وما يقدمه إلى الآن مازال بعيدًا عن كنوز اليومي والمسكوت عنه. وباستثناء اميل حبيبي المُختلَف عليه، وغسان كنفاني الإرهاص، فإن الرواية الفلسطينية ما زالت في البرزخ، المنطقة الواقعة بين محاولات التجريب والاحتراف.. ولم تتجاوزها إلى الآن. ومن الطبيعي أن يحتل الشعر موقعًا متقدمًا على سلم الأجناس الأدبية الأخرى، إبان النكبة وما بعدها من سنوات، أو حتى عقود، بحكم طبيعة الشعر وانفعاليته. لكن ليس من الطبيعي مرور أكثر من نصف قرن على ضياع وطن بكل تفاصيله الجغرافية والتاريخية والإنسانية ولم نر عملاً روائيًا واحدًا بقامة باب الشمس للناقد والروائي اللبناني إلياس خوري. كل مقومات العمل الروائي متاحة حتى التخمة. الغائب الوحيد هو الروائي.
أعتقد أن حظ الأجناس الأخرى في المسرح والقصة القصيرة والفن التشكيلي ليس بعيدًا عن الرواية. إلا أن هذه الأجناس، بالفعل، قد تجاوزت إلى حدّ ما سكونيتها في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وقدمت أعمالاً تستحق الوقوف أمامها قليلا.
أما تراجعها أمام الشعر، فأعتقد أنه يعود إلى انغلاق المجتمع الفلسطيني على نفسه بحكم الاحتلال لعقود طويلة، وبالتالي فقد نشأت أجيال من المبدعين لمختلف الأجناس حظهم من الثقافة والوعي محدود ومتواضع.