الدولة المدنية نقيض لجوهر الإسلام وللدولة الدينية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الدولة المدنية تستنكف أن تكون مرجعية التشريع إلى الوحي الإلهي.. فكيف نحقق جوهر الإسلام مع إقصاء الدستور؟!
سعد البريك
نشرت صحيفة الوطن بتاريخ 7 ربيع الثاني 1427 هـ مقالا مطولا كتبه أخي قينان الغامدي سجَّل فيه سبقا فريدا من نوعه في تفسيرٍ غير مسبوق لجملةٍ من المفاهيم السياسية حول الدولة المدنية ردا على مقالتي السابقة المنشورة في ملحق الرسالة بعنوان "الدولة المدنية".
وقبل الدخول في بيان باطلٍ أظلم من ليلِ المحاق؛ أود الإشارة إلى أن مفردات القاموس الشخصي التي استعملها أخي قينان ومنها "المصالح الشخصية" و"التعالم" و"المحفوظات" والتي لا تستطيع الصمود أمام "سهام الليل" بعد طول القيام تقبل الله من الجميع! هذه لن أعرج عليها لأنها بعيدة عن موضوع " الدولة المدنية" الذي لم يحظَ من رده إلا بقدر العقال من البعير.
لقد فتح هذا الرد أبوابا ظننتها لا تخفى على "العوام" فلا تحتاج إلى "مواعظ" في بيانها، لكن تبين أن بعض "العوام" محتاجون إلى مزيد من "المواعظ" عبر العامود الأسبوعي: "قال أوسطهم" في صحيفة المدينة (فذكرني الطعن وكنت ناسيا)، ولذا سأفرد "مواعظ" قادمة لبيان الأوهام الشمعية فيما يتعلق بالحقوق والواجبات في الدولة المدنية التي جاءت في نظر العلمانيين أكرم من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في العطاء وأحكم من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في التشريع وأوسع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في استيعاب الناس وشمول البشرية.
ونعود إلى رد أخي قينان على مقالة الدولة المدنية، فقد قام بتعريف الدولة المدنية تعريفا تجاوز فيه المعاجم السياسية وكتب السياسة وأبجديات الأسس العلمانية والليبرالية والتاريخ والواقع وكل المرجعيات التي لها علاقة من قريب أو بعيد بتحديد مفهوم الدولة المدنية.
والسبب يكمن في أن أخي قينان في معرض نقده للمقال السابق كان واثقا كل الثقة وهو ينتقد بشدة تعريفي للدولة المدنية ومعانيها لدرجة أنه اعتبر تعريفي لها مخالفا لما يعرفه "جمهور المثقفين "و"العوام ". وربما يرى أن له الحق في أن "يجتهد" في السياسة, أما أسلمة العلمانية أوعلمنة الإسلام فدونه ما يعلم.
وهنا أجد الحاجة ماسة لذكر أهم أقواله بهذا الخصوص كما جاءت بالحرف حيث قال ما نصه: "لم يسبق أن أحدا قال أو فهم أو استنبط أن الدولة المدنية تناقض الإسلام وتتصادم معه، لا من المنظرين المتخصصين في بلادنا أو العالم، ولا من العوام التواقين إلى دولة مدنية تحت ظلال الشريعة المحمدية السمحة، لم يفهم أو يستنبط أن الدولة المدنية تتناقض مع الإسلام إلا الدكتور سعد البريك الذي لا يستند في وعظه هذا إلى أية مصادر حقيقية أو وقائع منطقية، وإنما الشك في نوايا الناس". انتهى كلامه.
وخلاصة ما جاء في مقاله يتحدد في أن الدولة المدنية ليست نقيضة للدين (الإسلام) مطلقا كما يعرفها "خلق الله المنظرون لها والمتخصصون في السياسة والمراقبون، والعوام الذين يشاهدون ممارساتها على شاشات الفضائيات، وحين يسافرون".
وقبل التعليق أحب أن يقف القارئ الكريم على تعريفي لمفهوم الدولة المدنية من خلال مقالتي السابقة في ملحق الرسالة الأسبوعي بصحيفة المدينة ليقف على ما فات أخي قينان الانتباه إليه وأحسبه لم يتعمد التحريف والمغالطة في رده على المقال, حيث جاء فيما قلته إن مفهوم الدولة المدنية يأخذ تعريفات عدة نظرا لغموضه فقلت في مطلع المقال بالحرف الواحد: "نجد أن هذا الاصطلاح:الدولة المدنية، هو مطاطي ينكمش في أحسن حالاته ليحاكي الغرب في كثير من مناهجه السياسية في الحكم مع الحفاظ على بعض الخصوصيات.... ويتمدد ليصل إلى أصل استعماله:دولة علمانية صرفة، تنهج في حكمها الليبرالية البواح!! وبين هذا المعنى وذاك يتلون ويتشكل في قوالب عدة."
وذكرت في المقالة تصريح بعض العلمانيين الأكاديميين ـ وليس الوعاظ بمفهوم أخي قينان ـ الذين يقررون أن الدولة المدنية نقيضة للدولة الدينية وعززتُ ذلك بتقرير عدد من الباحثين الأكاديميين على سبيل التمثيل لا الحصر لأنني لم أكن أتصور أن يوجد صحفي واحد فضلا عمن كان رئيسا للتحرير يوما ما يجهل هذا الأمر. وأخي قينان في رده يتساءل:... من قال بهذا؟.
وقلت في نهاية المقالة: "إن المساهمة الفعالة في تأسيس مؤسسات ترعى الحقوق وفق احترام الخصوصيات الدينية والسياسية وبمنأى عن إملاءات القوى الأجنبية لهي مطلب طيب وهم شريف يحمله كل صاحب عقيدة نقية ومبدأ رصين لكن هذا الإصلاح والتنظير والتأطير في مسيرة التغيير الهادف لا بد أن يكون مراعيا لأصالة الاصطلاح فكلنا نحمل هذا الهم ومنخرطون في مسيرته وهو سبيلنا (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)".
وهذا ما لم يذكره أخي قينان ولو ذكره لأدرك القارئ معنى آخر.
واحترازا من التعميم واحترازا لمن هم خارج الدائرة، أكدتُ على ما سلف في نهاية المقال بأن هناك من يوظف مصطلح الدولة المدنية بحسن نية، وقلتُ بأن المطلوب هو توضيحه لما تعنيه ونفي المضامين الغربية لهذا المصطلح حتى لا يُفهم من كلامه أنه يدعو لدولة مناقضة للدين. بل وأكدتُ على ذلك في مقالة أخرى مستقلة بعد مقالة "الدولة المدنية" نُشرت في ملحق الرسالة بعنوان: (هل ننتظر من العلمانية تحريرا للمصطلحات؟) وقلت فيها إن مصطلح الدولة المدنية يحتاج إلى تحرير حتى يزول اللبس.
لكن الأهم في ما كتبته أخي قينان هو النفي القطعي بأن الدولة المدنية ليست نقيضا لجوهر الإسلام , وادعاؤك بأن هذا لم يقل به أحد من السياسيين مطلقا، فقل لي بربك كيف تجمع بين التشبث بجوهر الإسلام وبين الدولة المدنية التي لا ترى للإسلام سلطة حاكمة في التشريع والأنظمة فضلا عن الأخلاق والسلوك؟!، إن هذا مما لا يستقيم إلا في حالة واحدة وهي اللعب في المساحات الفارغة في المصطلحات، وهذا مما أعجب لفواته على من يتصدى للردود بالأصالة أو الوكالة لاسيما والأمر مستفيض بين السياسيين والأكاديميين والباحثين, ولا يكاد يخلو موضوع تطرَّق لهذا البحث إلا وبيَّن القول بأن الدولة المدنية نقيض للدولة الدينية في أصل اصطلاحها الغربي وفي أكثر حالات المطالبين بها في الوطن العربي وبإجماع الغالبية الساحقة من الليبراليين والعلمانيين العرب. بل قامت في جارتنا الشقيقة مصر مناظرة اعتبرها المراقبون من أشهر مناظرات العصر بين التيار المطالب بالدولة المدنية من العلمانيين وجملة من المفكرين والسياسيين والذين اعتبروها مناقضة للدولة الدينية, وبين عدد من العلماء الشرعيين وكان عنوان المناظرة "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية " وحضر هذه المناظرة عشرون ألف مواطن من عموم الأقطار العربية وطبعت في كتاب متداول سنة 1412 هجرية أصدرته في طبعته الأولى ( الدار المصرية للنشر والتوزيع) والكتاب لا يزال موجودا في المكتبات التجارية والحكومية لمن أراد الاطلاع! وتصنيفه في مكتبة الملك فهد:(257.1م545ط2 (، وحتى لا أُفاجأ باستفسار منك أخي قينان... من أين لك بهذه المناظرة أو "الموعظة"؟! أرسلت لك نسخة من هذا الكتاب على عنوان صحيفة الوطن لعلها تنفعك وتنفع بها غيرك.
وإليك أخي قينان بعض ما قاله عدد من العلمانيين السياسيين والمفكرين، وأنتظر منك إما أن توافقهم وتتراجع عما كتبته في ردك، بسرعة تراجعكَ في عامودك اليومي في قضية أمينة، أو أن تخالفهم وتعلم وتعلن أن "مواعظهم الهشة" و"تعالمهم" و"مصالحهم الشخصية" وراء كتاباتهم التي سبقتك وفاجأتك بنقيض مفهومك للدولة المدنية. ويبقى أن تشاور الفريق أو من ترى للرد عليهم وكشف زيفهم والقارئ بانتظار شجاعتك المعهودة أو على الأقل أن تُسلط عليهم "سهام الليل".
يقول عبد اللطيف المناوي الكاتب ورئيس قسم الأخبار في التلفزيون المصري، في مقالة له نشرتها صحيفة الشرق الأوسط، معلقا على فوز الإخوان في الانتخابات في مصر: "هذا يقودنا إلى السؤال الآخر المهم: هل الدولة المدنية في مصر تواجه خطرا ما؟ أظن أن الإجابة هنا هي أن هناك قلقا وطنيا حقيقيا على الدولة المدنية، ولكنها ليست مخاطر على قواعد هذا المفهوم..."، وقال بعد كلام:"... الأكيد ـ كما أعتقد ـ أن ارتفاع نبرة شعار الدين السياسي، إنما يؤدي إلى حالة تراجع حقيقية في الممارسة السياسية الليبرالية". ( انظر صحيفة الشرق الأوسط الصادرة الخميـس 8 ذي القعـدة 1426 هـ الموافق 8 ديسمبر 2005 العدد 9872).
ويقول الدكتور الحبيب الجنحاني وهو مفكر تونسي ليبرالي معروف في كتابه (المجتمع المدني وأبعاده الفكرية، ص43): "لا غرابة أن يكون موقف الإسلام السياسي موقفا مناقضا لرؤية المجتمع المدني، فالرؤيتان متباينتان؛ المجتمع المدني مجتمع عقلاني، يحل مشاكله حسب قوانين وضعية، وتحاول فئاته الاجتماعية التوفيق بين مصالحها ومصالح المجتمع. أما المجتمع الإسلامي السياسي، فإنه يستمد شرعيته من السماء، ومرجعيته في ذلك نصوص غير قابلة للاجتهاد عندها".
ويقول في ص 53: "إن قوى التحرر والتقدم, قوى المجتمع المدني، عدوة بحكم رؤيتها للدولة الدينية".
وورد في شبكة الدفاع عن الحريات مقالة بعنوان:"حماية الحريات الأساسية هو حماية للحق في الحياة"، جاء فيها:"والدولة المدنية سواء كانت قديمة أو حديثة هي دولة لا عسكرية يقودها ويحكمها العسكر، ولا هي دولة دينية ينعدم فيها الفصل بين الدين والدولة". (انظر موقع شبكة الحريات الإعلامية على الإنترنت).
ويقول الدكتور عمرو إسماعيل، وهو كاتب علماني مشهور ومن دعاة الدولة المدنية، في مقالة بعنوان "الديموقراطية والعدل والإحسان" نشرتها "الحوار المتمدن" ما نصه: "هم يقولون الإسلام هو الحل وأنا أقول: إن الدولة المدنية هي التي تستمد شرعيتها من الشعب - وليس الله كما يدعون - هي الحل... الدولة التي تحترم كل الأديان وتعتبر أن الدين لله والوطن للجميع هي الحل".
ويقول أيضا: "الديموقراطية تعني الدولة المدنية وآلياتها من فصل الدين عن الدولة وحقوق المواطنة للجميع".
ويقول في مقالة: "الدين الرسمي للدولة والفوضى الدستورية" في الموقع نفسه:"والنص الرسمي على دين الدولة ليس موجودا في أي دولة مدنية محترمة في العالم.. قد يكون هناك نص أن الدولة تحترم جميع الأديان ولكن دون النص على دين رسمي لها".
ويقول أيضا:"إن الدولة التي ينص دستورها على دين رسمي لها ليست دولة مدنية.. بل هي دولة دينية". ( انظر مجلة الحوار المتمدن - العدد: 1188 - 5/5/2005م).
ما رأيك أخي قينان: هل نسميه "واعظا"؟
ويقول الدكتور شاكر النابلسي، وهو علماني معروف، ومن أبرز دعاة الدولة المدنية: في مقالة بعنوان "العَلمانية في العالم العربي:إلى أين؟" ما نصه:"أما الدولة المدنية فالصفة الأساسية لها هو طابعها العقلي. والدولة المدنية تحكم بموجب نصوص موضوعة مفتوحة متغيرة. وتُجسِّد الدولة هنا علاقة بشرية. والأولوية هنا للعقل المجنّح. ولا مكان لرجال المؤسسة الدينية في هذه الدولة حيث لا يفيدون شيئا وشرعية هذه الدولة تكمن في القانون".
ما رأيك أخي قينان: هل نسميه "متعالما"؟
ويقول الدكتور فؤاد زكريا وهو علماني في دراسته: "النهضة العربية والنهضة الأوروبية" ص28 ما نصه: "والدولة المدنية لا غرائز لها غير غريزة تعميق مفاهيم الحرية. فهذه الدولة هي دولة المؤسسات الدستورية فالكل في الكل. وتستطيع هذه الدولة أن تتعايش مع الدين فيما إذا الدين لم يُقحم نفسه في السياسة. فالدين في الغرب العَلماني ما زال هناك، وبيوت العبادة ما زالت قائمة".
ما رأيك أخي قينان: هل هذه من "المحفوظات الوعظية"؟
أخي قينان: هذا على صعيد التنظير للدولة المدنية أما على صعيد الممارسة السياسية لتأسيس الدولة المدنية بمفهومها النقيض للدولة الدينية فأسوق ثلاثة نماذج حية على سبيل التمثيل، وإلا فالحالات على صعيد رؤى وممارسات الحركات السياسية والأحزاب أكثر من أن تحصر في مقالة.
النموذج الأول: نموذج الدستور العراقي الحالي. فقد جاء في بيــان "لجنة دعم الديموقراطية"(10-8-2005) ما نصه:"بمبادرة من لجنة دعم الديموقراطية في العراق قدم أكثر من ثلاثين مفكرا وباحثا ومتخصصا عراقيا مقيمين في بريطانيا وأوروبا، سلسلة من البحوث ذات الصلة بأربعة جوانب للدستور العراقي..."، وجاء في الجانب الثالث الذي تناول موضوع الدولة المدنية ما يلي بالحرف الواحد: "الدولة المدنية نقيض للدولة الدينية".
وأؤكد أنه نتاج بحث أكثر من ثلاثين باحثا علمانيا وليبراليا عربيا يعيشون في الغرب وخمسين مفكرا متخصصا ناقشوا هذه البحوث. (انظر بيان لجنة دعم الديموقراطية: لندن: 31/7/2005).
ما رأيك أخي "قينان" هل هؤلاء من "خفافيش الإنترنت"؟
الثاني: نموذج حزبين سياسيين عربيين يقرران في برنامجهما السياسي أن الدولة المدنية نقيض للدولة الدينية.
الحزب الأول: حزب الوسط المصري وهو حزب فاعل على الساحة المصرية:
يقول أبو العلا ماضي أبو العلا - أحد أهم مؤسسيه - ما نصه:"نظرا للظروف المختلفة في العالم العربي ـ كما سبق أن ذكرنا ـ فالنموذج الأنسب في التعبير عن الدولة غير الدينية هو "الدولة المدنية"، فهي الدولة التي يحكم فيها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد... إلخ وليس علماء الدين بالتعبير الإسلامي أو "رجال الدين" بالتعبير المسيحي، وعليه فنحن (في حزب الوسط) لا نقبل نموذج الدولة الدينية كما عَّرفناها في أول هذا المقال من حيث حكم علماء الدين أو رجال الدين أو قيام دولة على أساس ديني محض في عضوية هذه الدولة، ولكن نقبل وننادي وندعم الدولة المدنية الحديثة القائمة على سلطة الشعب في التشريع وكما ورد بالنص في برنامج حزب الوسط الجديد في المحور السياسي " الشعب مصدر جميع السلطات التي يجب الفصل بينها واستقلال كل منها عن الأخرى في إطار من التوازن العام، وهذا المبدأ يتضمن حق الشعب في أن يشرع لنفسه وبنفسه القوانين التي تتفق ومصالحه".
الحزب الثاني: حزب التجمع الوطني التقدمي (المصري).
يقول الدكتور رفعت السعيد: رئيس حزب التجمع الوطني التقدمي (المصري): " وفيما يتجدد موضوع (الدولة الدينية) بعدما كان من تطورات أخيرة، وفيما تستدعي الذاكرة -أو تحاول- ما كتب حول هذا الأمر، كنت حَسَنَ الحظ إذ عثرتُ على كتاب فريد من نوعه، لشيخنا وزميلنا المرحوم خليل عبد الكريم، والكتاب عنوانه (الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية) ص13، ويخصص أستاذنا خليل عبد الكريم عديدا من صفحات الكتاب لنقد هذه المحاولات فيقول: "لم يعرف الإسلام الدولة السياسية، ونعني الإسلام الدين وليس الإسلام التاريخ أو الإسلام الحضارة، وهذا بديهي لأنه ليس من وظيفة الدين إنشاء دولة سياسية، وهذا شأن سائر الأديان السماوية".
ما رأيك أخي قينان هل هذا من التكفيريين أم من الصحوة؟
وهل تكفي هذه "المواعظ" أم أزيدك نماذج من المفكرين والسياسيين "الوعاظ" العرب؟!
أخي قينان:إذا كان المنادون بالدولة المدنية يقررون أن الدين لا حاكمية له في شؤون الحياة، وبعضهم يتنزل لتمرير المشروع ليقول بذلك مستثنيا العبادات الفردية وبعض الأحوال الشخصية، فهل هذا كافٍ للقبول بالدولة المدنية مع اتفاق المتعصبين لها والمتساهلين فيها على إقصاء حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في التشريع والتحاكم وكافة الشؤون ما عدا التعبد الفردي وبعض الأحوال الشخصية... هل هذا يا أخي قينان هو صميم الاتفاق مع جوهر الإسلام ؟!.
وماذا بقي من الإسلام إذا جردت هيمنته في أمور الحياة سوى ما ذُكر؟!.
وإذا كان ثمة أخطاء في ممارسة الدولة الدينية لبعض الأمور، فإن ذلك لا يبرر الانسياق اللاواعي وراء الدولة المدنية التي ربما ينخدع البعض فيها ببريق اللحظة وينسى شقاء الدنيا وعذاب الآخرة كما قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ضَنْكا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
ثم دعنا نتساءل عن حال كثير من الحكومات التي تبنَّت الدولة المدنية وحققت المساواة لكن في الفقر، وحققت الحرية لكن في كل ما يجلب سخط الله، والتسلط على كل من رفع بالدين رأسا وشرح بالحق صدرا في مجتمعات ترفع شعارات الآخر والتعددية ثم تضيق بمن التزم شرع الله في نفسه وأهله والأمثلة كثير.
وحاشاك أخي قينان أن تكون ممن يعني هذا قصدا ومضمونا، لأنك تعلم أن القول بأن الدولة المدنية مرآة لجوهر الإسلام، فإن ذلك يعني ضلالا بعيدا لا نزال نعيش فيه من قبل، بل وحتى بعد صدور نظام الحكم إلى آخر تصريحات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله وسدده التي تتردد صوتا وصورة على كثير من القنوات الفضائية وهو يقول حفظه الله:" وإني أعاهد الله ثم أعاهدكم أن أجعل القرآن الكريم دستوري"، ويقول:" إما أن نكون بالإسلام أو لا نكون".
والدولة المدنية تستنكف ـ كما نقلتُ لك ـ أن يكون الدستور ومرجعية التشريع إلى الوحي الإلهي... فكيف نحقق جوهر الإسلام مع إقصاء الدستور؟!.
أخي قينان: القول بأن ليس ممن بين أظهرنا أو مواطنينا السعوديين مَن يشكك في الإسلام أو يتربص بالوطن أو القيادة لا سرا ولا جهرا فهذه أمنية نتمناها، لكن واقعنا وعصرنا لن يكون أفضل من عصور سلفت هي أزكى وأنقى من عصرنا، ومع ذلك ظهر فيها ما ظهر, وأطمئنك بأن الجهات المعنية أدرى مني ومنك بهؤلاء ولا يخفاها عنهم شيء، إذ لم ولن يخلو وطن أو قيادة من عدو ظاهر وباطن... لكنك أخي قينان ممن يعلم أننا في بلد مسلم لا تزال الشريعة الإسلامية حاكمة مهيمنة على مؤسساته (وإن حاولت بعض المؤسسات التفلُّتَ من بعض الأحكام والواجبات، ولا يسوغ التكفير بها) وحسبك أن القضاء الشرعي لن يرحم من يدعو إلى إقصاء شرع الله عن أمور الحياة، وحُكْمُه معلوم لديك، وإلا فاتصل بي أخبرك به إن لم يكن من "تخصصك" ... ولو استشرت علمانيا ذكيا عن أفضل السبل لإقصاء الإسلام في مجتمع مسلم لنصَحَك بالمصطلحات التي تسعفك غالبا للوصول إلى ما تريد ويمنعك تأويلُها واحتمالات معانيها من اتهامك بالتشكيك في الإسلام أو التربص بالوطن.
وأما الاتهام بالعلمانية فالمقالة لم تتهم شخصا بعينه ومن اتهم فإما لريبة أحدثها من فعله أو قوله، ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل، وحقُّ من رُمي بها أن يبرأ إلى الله علانية منها وما تعنيه وما تَمُتُّ إليه، ولم لا وأشرف الخلق صلى الله عليه وسلم وهو الذي حاشاه أن يُظن به السوء قال للصحابيين اللذين رأياه يمشي مع زوجه صفية بنت حيي من معتكفه إلى حجرتها رضي الله عنها، قال:على رسلكما إنها صفية... فمن يأنف من الاتهام بالعلمانية؛ عليه من باب أولى أن يبرأ إلى الله منها ومن مفردات قاموسها لا أن يدافع عنها دفاع المستميتين وكأن المقالة سقطة في أسماء الله وصفاته وليس عن الدولة المدنية.
وأما رغبتك في أن أسمي من يشكك في الإسلام من مواطنينا، فلا بد أن تعلم أننا متبعون لا مبتدعون، والقرآن الكريم قد ذكر المنافقين بأوصافهم وسماتهم ولحن قولهم كما قال تعالى (وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنهُمْ فِي لَحْنِ الْقَولِ)، فلم يسمهم بأسمائهم، وعدم تسميتهم لا يعني عدم وجودهم، فقد كانوا يمشون على الأرض والصحابة يعرفونهم، ولو جعلتَ مع " سهام الليل " مزيدا من تدبر القرآن وتلاوته لأدركتَ ذلك.
والسؤال الذي يطرح نفسه ما دمنا على بساط واحد: لم لا نبرأ إلى الله من هذه المسميات الحمالة أوجه المتقلبة ونرضى بما رضيه الله لنا (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا)؟.
فهل يكفينا هذا الاسم سعة ورحمة أم نراه شقاء ونقصا نكمله بالمصطلحات العائمة من علمانية ولبرالية والمسلم يفرح بما يفرح به الله ويرضاه ولا يتمنى تحقيق ظن السوء في إخوانه, وإذا لم يكن بين المتهم والبراءة إلا التصريح بنبذ اللبرالية والعلمانية والاكتفاء بالإسلام سماء في علوه وأرضا في سعته وبحرا في كنوزه وهواء في بركته على البشرية؛ فلم يصر بعضنا على الدفاع عن مصطلحات العلمانية واللبرالية والدولة المدنية.
فهل عرفت أخي قينان من هذه "الموعظة" أن الدولة المدنية نقيضة للدولة الدينية... وإذا عرفت؛ أدركتَ أن الأعداء الوهميين الذين "نستنبتهم" ونرد عليهم مظلومون ومغلوبون على أمرهم أمام الأعمدة الصغيرة والزوايا التي لا ترى بالعين المجردة في ملاحق الصحف حيث لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم.
فلا جريدة يومية تأذن لهم بالنشر ولا مجلة أسبوعية يستطيعون الكتابة فيها ولا قنوات فضائية تبث حواراتهم وأفكارهم.
وانطلاقا من "المواعظ" وخوفا من "سهام الليل" يجب أن نتراجع عن القول بأن المجتمع يشهد تحولا سلبيا في شأن المرأة وتحرير الطريق للوصول إليها وتوسيع دوائر الاختلاط بها ورفع الولاية الشرعية عنها وفتح مجالات العمل بلا ضوابط في شأنها... وأخشى أن يكون سماحة المفتي (عند هؤلاء) مبالِغا أو مخطئا فيما قاله من "مواعظ" عن الزج بالمرأة في تحول متسارع لم تشهد له مثيلاً وكأن هذا العام نهاية التاريخ والسنة اليتيمة في الدنيا.
يجب أن تتراجع " المواعظ " أمام " سهام الليل " حتى لا نقول إن في عالمنا العربي فريقا فكريا يواجه تيارا عقديا لكنهما غير متكافئين، فالثاني يملك العدد والقدرة وولاؤه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم لكنه لا يجد الوسيلة رغم أجواء الانفتاح والسلامة من الإقصاء واحترام المخالف! والأول يملك الآلة والنفوذ ولا ندري ولاؤه لمن!.
ولو كان في المقام متسع يسمح بالمزيد لأفضتُ فيما يجب جلاؤه بوضوح ولكن أعِدُ القارئ أن يجد بقية المناقشة "المواعظ" عن هذا الموضوع في ملحق الرسالة في جريدة المدينة إن شاء الله تعالى.