إفتتاحية تويني تزيد الدهشة بقوته
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تجاوز المأساة الشخصية داعياً إلى ثورة ثقافية في الدين
إفتتاحية غسان تويني تزيد الدهشة بقوته
"إيلاف" من بيروت: خصص غسان تويني افتتاحيته الأسبوعية الأولى في جريدة "النهار" البيروتية ، خلافاً لتوقعات القراء بعد اغتيال نجله النائب والصحافي جبران، للدعوة إلى "الثورة الثقافية" في الدين والابتعاد عن العصبيات المتطرفة ، بانياً على دعوة المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله إلى قبول الآخر والتنوع الفكري والثقافي . واستعجل تويني رئيس مجلس النواب نبيه بري إطلاق إصلاح وصفه ب "ثورة دستورية" تبدأ بقانون جديد للانتخابات النيابية وتسبق لائحة الإغتيالات. وتزيد الافتتاحية هذه رسوخ اقتناع بقدرة غسان تويني "التجاوزية" أو"التصاعدية" فوق المأساة الشخصية إلى هموم الوطن والعرب جميعاً والإنصراف إليها بما استقطب إعجاب متابعي رد فعل الصحافي الثمانيني ، أعتق رئيس تحرير في العالم، بقوته الذاتية وارتكازاته ، وهو من فقد قبل أسبوع ثالث أبنائه وآخرهم ولم تفقده المصيبة لحظة تماسكه وتحليله والإقتناعات.
وفي ما يلي نص الإفتتاحية :
"(...) أقول للبنانيين: ارحموا بلدكم. ولتكن للبنان قيمة الرسالة. وليكن لبنان رسالة تنفتح على كل قضايا الانسان. وليكن لبنان المحبة، ولا تكن طوائفكم منطلقاً للعداوة والبغضاء وتسجيل المواقف بعضكم ضد بعض، بل لتكن غنى للانسان. وليكن لبنان القاعدة التي ينطلق منها التنوّع الثقافي الذي يقبل به الانسان الآخر في خلافه معه، وبلد الاشعاع الروحي".
أوَلا يذكّرنا هذا الكلام لسماحة السيد محمد حسين فضل الله بكلام قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في الرسالة التي وجهها في الاول من ايار 1984، الى "أبناء لبنان"، اذ قال:
"(...) سنوات الحرب الطويلة هذه يجب الا تنال من ثقتكم بلبنان عينه. فهو قيمة حضارية ثمينة. ولنفكر في ما الانسانية جمعاء هي مدينة له به منذ عهد الفينيقيين البعيد، من غير ان ننسى تلاقي الاديان، والحوار الثقافي بين شرق وغرب، والمبادرات المسكونية، والحرية والتفاهم، والضيافة وانفتاح الروح. ان هذه كلها كانت القيم التي نهض عليها لبنان الامس، وهي في اساس لبنان الغد. وان مجتمعاً تنعشه مثالية ديمقراطية متعددة، له تراث ثمين لا يمكن احداً ان يسلّم بأن يراه في طريق الزوال (...)".
هذا فضلاً عن الرسالة الرسولية التي وجهها قداسته في 7 ايلول 1989 الى جميع اساقفة الكنيسة الكاثوليكية في العالم، داعياً الى يوم "صلاة شاملة من اجل لبنان"، بمسلميه ومسيحييه، وقال فيها:
"ان لبنان هو اكثر من بلد، انه رسالة حرية ونموذج في التعددية، للشرق كما للغرب".
***
وماذا لو وصفنا كلام فضل الله هو ايضاً بالإرشاد الرسولي وقلنا، بما "يجوز للشاعر"، ان هذا وذاك يلتقيان وكأنهما قبة مرتفعة في سماء لبنانٍ يرمّد لونها اليوم الحزن، انما محكوم لها ان تستعيد زرقتها اليوم بالذات وغداً، وقد اراد لها الله، عندما صاغ للبنان "الرسالة" بل الأعجوبة طبيعته وسماءه ان تكون لكل يوم زرقتها "القيامية"!
أوَلا يحق لنا أن نهلل ونقول انها "الثورة الثقافية" التي كنا نردد الدعوة اليها في "حوار الأديان"، داعين مع كثرة من العلماء والمفكرين والأئمة، فضلاً عن رجال دين أبرزهم البطريرك صفير والمطران جورج خضر والمطران غريغوار حداد، وصولاً الى المرحومين الأب يواكيم مبارك والأب ميشال حايك، والمفكرين المسلمين الطليعيين أمثال محمد أركون وعبد الوهاب مؤدّب وسواهما ممن يتكاثرون... وجميع هؤلاء يدعون الى الرجوع الى الأصول الروحانية في الدين حتى حدود الصوفية وعلم الكلام (كما مع القديس أوغسطينس الفينيقي، مطران أفريقيا في القرون الاولى، وابن عربي) بحيث يثري ذلك الحياة الدينية ويعمّق الايمان، فتتطهر "الطوائف" من قبليتها والعصبيات ويسهل إذذاك حوارها السياسي الاجتماعي الثقافي ويتيسر توافقها الديمقراطي الحر في الدولة المدنية (كي لا نقول العلمانية، فندخل سراديب السفسطات التي لا نهاية لها!).
***
ما هو المطلوب الآن؟
المطلوب في ظل "الثورة الثقافية" في الدين أن نحصّن عقولنا والقلوب ضد العصبيات التطرفية من أين أتت، وأن نشمّر عن سواعد الحوار ونهدم الأسوار التي تأسره وندفن الأنانيات التي تسربله... ثم أن نخرج من اقتراح المستحيل كالطموح الساذج او الخبيث الى "الاتفاق على كل شيء"!!!
أي "كل شيء" هو هذا الذي يدعي المنافقون حيناً والسذّج أحياناً جعله جدول أعمال العقلانية المعقولة؟ بل متى لم يكن، كما كان يقول ويردد جبران الشهيد الحبيب، "الاتفاق على كل شيء" مطلبا غير ديمقراطي؟... ذلك لأن الديمقراطية تفترض الاختلاف في الرأي، بل تستوجبه، انما في اطار التعامل الدستوري الطليق.
إذاً، هيا بنا الى الحوار الحر المفتوح على كل شيء، انما من دون شروط مسبقة، لا من أقلية ولا من أكثرية.
ولنتذكر أن الديمقراطية اللبنانية تتميز بأن الاكثرية فيها يجب أن تكون مركّبة من أكثريتين لكي تستقيم حقوقها، والأقلية كذلك، انما حتى ذلك لا يكسبها حق "الفـيتو" على ما تتوافق عليه أكثرية ما، أو لا تكون ثمة ديمقراطية بل "ديكتاتورية أقلية" كما هي ديكتاتورية الانظمة التوتاليتارية الطغيانية. نقطة على السطر ، هكذا بصراحة وكفى. وكفانا بدعٌ دستورية لا تقوم على قوس قزح.
***
ماذا يبقى لنا ان نفعل الآن؟
أولا ان ننطلق... وكم كان يكون مهماً لو كان الداعي الى الحوار هو رئيس الدولة، لو يخرج من تردده بين النفاق السياسي والاستزلام فيفرض صدقية تنقذ الرئاسة لا الرئيس الى ما بعد زواله الذي سيصير محتوماً اذا لم يستر كرامته ببقية من الصدقية، حتى لا نقول الصدق!
في غياب الدعوة الرئاسية التي تزداد استحالة (ولكننا نكرر لفخامته انها ليست بعد مستحيلة كليا اذا دفع حصته من الثمن، وهو يعرف ونرجو ان يتذكر ويفهم!!!).
في غياب الدعوة الرئاسية تعود الكرة الى "ملعب" الرئيس نبيه بري، نظرا الى رئاسته السلطة الاشتراعية وقد أودعها الدستور أمانة السيادة الشعبية، قاعدة الديمقراطية الأهم وجوهر السيادة الوطنية أي الاستقلال.
وهل نحن في حاجة الى ان نذكّرك يا دولة الرئيس بأن الاصلاح، بل "الثورة الدستورية" تبدأ بقانون انتخاب يجعل الغاء الطائفية ولو تدريجا، إصلاحاً ممكنا بدل ان يصبح مقبرة الحريات؟
"فعجّل عجّل يا ريّس"، عجّل يا أبا مصطفى واعلم انك في سباق مع شرّين كلاهما مميت: عودة الاغتيالات، وانت باللائحة، بل اللوائح اعلم... و"زوال لبنان" الذي قال البابا يوحنا بولس متنبئا ان العالم لن يسمح به.
وقال سماحة السيد محمد حسين فضل الله ما هو بمثابته.
فدونك واختيار من منهما تصدّق، وضع الجميع أمام أمر واقع الخيار، فنعرف من هم الدجالون ومن هم الذين يحبون الوطن ويساعدونك في انقاذه.
تلك هي المسألة، نقولها باسم الدماء التي تهرق.
وتلك هي الثورة التي صارت ممكنة، وهي تناديك.
غسان تويني