سهيل خالدي: الحرية أكذوبة وكلام الجرائد أرذل أنواع الكلام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حوار ساخن مع أحد رواد الصحافة الجزائرية سهيل خالدي:
الحرية أكذوبة... وكلام الجرائد "أرذل" أنواع الكلام
تابع ملف الصحافة العربية وفيه يعرض مراسلو إيلاف واقع الحريات الإعلامية في : الإمارات المتحدة، الأردن، اليمن، المغرب، سوريا، مصر
إيلاف تفتح ملف الحريات الصحافية العربية
جازية روابحي من الجزائر: لعلّ أقل ما يقال في الصحافة الجزائرية إنها أتت نتيجة كفاح طويل، وعلى الرغم من إنتهاء المهمة الوطنية ضد الاستعمار لهذه الصحف، فإنها اليوم بمواجهة مهمة وطنية أخرى تتجلى في محاربتها التبعية والإرتهان للسلطة. وفي بلد يعمل فيه الصحافي في إطار قوانين تشرع سجنه، يبدو واقع الصحافة مترديًا، خصوصًا وأن الصحف مجتمعة لا تبيع أكثر من 1500000 نسخة يومية، وهو رقم ضئيل مقارنة بالتعداد السكاني للجزائر.في عام 2000 تم تعديل قانون العقوبات بمصادقة نواب المجلس الشعبي الوطني بالغالبية الساحقة على ضرورة وضع ضوابط، وتشديد الخناق على الصحافة المستقلة، فالمادة 144 تنص على أن الملاحقة القضائية لنشرة يومية أو أسبوعية أو غيرها تتم ضد الصحافي وضد مسؤول النشر ورئيس التحرير، إضافة إلى تعرض الصحيفة نفسها لعقوبات. كما يعاقب بالسجن بين ثلاثة أشهر وسنة أو بغرامة مالية تتراوح بين خمسة ملايين سنتيم و25 مليون سنتيم أو بهما معًا في حالة الإساءة أو إهانة رئيس جمهورية، عن طريق الكتابة أو الرسم أو التصريح أو بأي وسيلة تبث الصورة والصوت أو أخرى إلكترونية أو معلوماتية، كما يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنتين وبغرامة مالية من ألف دينار إلى 50 مليون سنتيم كل من أهان قاضيًا أو موظفًا أو ضابطًا او قائدًا أو أحد رجال القوة العمومية بالقول أو بالاشارة او التهديد او ارسال أو تسلم أي شيء لهم بالكتابة أو بالرسم، وتباشر النيابة العامة في حالات ارتكاب هذه الجرائم ضد رئيس الجمهورية أو ضد رموز الدين، إجراءات المتابعة بصفة تلقائية.
وهكذا يكون هاجس الملاحقات القضائية متواجدًا في قاعات التحرير وخلال ملاحقة الاخبار... وقد عرف الصحافيون استدعاءات متكررة واعتقالات وأحكامًا بالسجن مع وقف التنفيذ وغرامات باهظة.
إيلاف التقت الكاتب والصحافي الجزائري الجنسية، الفلسطيني الأصل سهيل خالدي، الذي قضى حوالى أربعين سنة في الصحافة العربية. ويعد الخالدي من أوائل الصحافيين العرب الذين عملوا في صحافة المشرق- المغرب، كما إنه من أوائل الذين أدخلوا الصحافة الإقتصادية إلى الصحف الجزائرية المعربة في القطاع الخاص.
كما يعتبر الخالدي الصحافي الوحيد الذي عمل في صفوف اللجنة الوطنية للعفو الشامل كما يمتاز بغزارة الانتاج، فحتى الآن اصدر اثني عشر كتابًا في الأدب والسياسة والاقتصاد والرحلات والتاريخ والاقتصاد نذكر منها كتابه عن دور الجالية الجزائرية في بلاد الشام وانطباعات عائد من الكويت، حيث عمل في الصحافة الكويتية، إضافة إلى مراسلة السعودية، وله رواية الرقص من أول السطر، وغيرها. كما له عدة كتب تحت الطبع منها كتاب مهم عن اللغة العربية، ومسيرتها عبر القرون بعنوان تباريح الحرف العربي الجريح.
ايلاف حاورت الخالدي حول حرية الصحافة في الوطن العربي، فكان كعادته جريئًا صريحًا.. وفي ما يلي نص الحوار:
انتم تعتبرون أن الإعلام الفرنكوفوني زور تاريخ الجزائر، ما هي رؤيتك للحريات الصحافية في العالم العربي؟ و هل لوزارات الإعلام العربية دور في هذه الحريات ؟
في اعتقادي علينا أن نفهم موضوع حرية الصحافة في الوطن العربي فهمًا موضوعيًا ودقيقًا، الصحافة مهنة تعبر عن البورجوازية أو الطبقة الرأسمالية التي لديها مشروع مجتمع، وبالتالي فأجنحتها ومهما اختلفت تتيح هامشًا من الحرية للصحافة... لأنها طبقة لها مشروعها وتملك قرارها والصحافة تعبرعنه وعنها. ولكن في الوطن العربي لا توجد طبقة بورجوازية أو طبقة حاكمة أو رأسمالية تملك قرارها السياسي والاجتماعي، فهي افتقدته وتفتقده يومًا بعد يوم، فحكامنا اليوم ليسوا أكثر من رؤساء مخافر في الشرطة الأميركية، وليس لديهم طبقات تحميهم، فالرأسماليون العرب ليس لديهم أي مشروع واضح حتى الآن. إنهم مجموعة من أثرياء الصدفة أو اللصوص أو وكلاء المؤسسات الإقتصادية الدولية، وبالتالي فهذه الطبقة كأولئك الحكام ليس لهم أي مصلحة في صحافة متحررة أو غير متحررة... إنهم يبحثون عن نشريات تسبح بحمدهم مقابل الفتات الذي يتصدقون به على الصحافيين، لذلك فحرية الصحافة أو حرية التعبير في الوطن العربي هي أكذوبة يسوقها الصحافيون على بعضهم البعض ويسوقونها على مجتمع عربي لا يصدقها.
لا يزال المجتمع العربي يعتبر أن كلام الجرائد "أرذل" أنواع الكلام وأكذبه، وعلى الصحافيين العرب ومعهم رؤساء المخافر العربية أن ينظروا بجدية. فالإعلام الغربي أميركيًا وأوروبيًا الناطق بالعربية يعيش مع الإنسان العربي في كوخه وخيمته ... وهو يقول للصحافة على طريقة الفنان الكويتي عبد الحسين عبد الرضا باي باي يا عرب. علينا ألا نتحدث عن حرية الصحافة، قبل أن يتحرر حكامنا وطبقاتنا الثرية، ففاقد الشيء لا يعطيه.
هل تعتبر وزارة الإعلام الحامي أو الرقيب " القامع " لكل ما يقدم تحت ستار حرية التعبير وحرية الصحافة ؟
إن وزارات الإعلام وجدت لتقنين القمع وتشريعه، ولترث مكتب المطبوعات الذي أسسته قوات الاحتلال البريطانية والفرنسية في الدول العربية، وسنت قوانين القمع، فتطور القمع ليتحول الى ما يسمونه اليوم وزارة .
وأرجو أن يعي الجسم الصحافي العربي وخاصة الشباب منهم هذه الحقيقة، فأحدًا سواء كان وزارة أو غير وزارة لن يعطيهم حريتهم. فالقضية قضية حرية المجتمع العربي أو الأمة العربية جميعًا، وليست حرية قطاع فما معنى أن تكون لدينا حرية صحافة، وليست لدينا حرية اقتصادية أو حرية مرأة.
إن المعركة الجارية في الوطن العربي هي معركة قطاعات ضد قطاعات وجزء من حرب دول ضد دول أو قبائل ضد قبائل... حرية العرب جميعًا في خطر، وليست فقط حرية التعبير.
ماذا سيعمل هذا الشرطي البائس المكلف بالأوراق لدى رئيس مخفر لم تتعدَّ رتبته اكثر من ضابط صف لدى اسياده في اوروبا واميركا. وأما تسمياتنا نحن مثل حكومة ودولة ووزارة وملك ورئيس وجنرال، وما إلى ذلك فهي مصطلحات محلية لا قيمة لها ولا وزن عند أصحاب حلنا وعقدنا. اسيادنا هناك الذين يقنون لنا، وما علينا سوى السمع والطاعة ولا حقوق اخرى ، المعركة هنا بالضبط إنها معركة انتزاع العرب كل العرب حريتهم من المتروبول المتحكم بهم وفيهم .
يقال إن الإعلام لصيق السياسة... فهل صحيح أن كل ما يقدم في وسائل الإعلام اليوم هو ذو صبغة سياسية أكثر منها إخبارية؟
* الإعلام عمومًا هو جزء من اللوجيستيك السياسي لا يوجد شيء خارج السياسة، الإعلام هو جزء من الإدارة السياسية لأي عملية، فلا نستطيع أن نقول ما هو دور الإعلام في السياسة، وما هو دور السياسة في الإعلام؟ فهي عملية متداخلة.
السياسيون العرب يعطون أنفسهم هامشًا بأن يقولوا إن هذه أكاذيب أو تكهنات إعلامية، ودائمًا يحملون أخطاءهم على ظهرنا نحن الصحافيين باعتبارنا رقيقهم الجديد. أصبحت هذه الحكاية مقيتة فكل الناس في الوطن العربي يعتبرون الجرائد وسيلة من وسائل ترويج الكذب، والسياسي العربي هو الكذاب الأكبر. هذه هي الحقيقة كما يفهمها المواطن العربي، فالسياسي العربي فمه ليس له، والصحافي العربي مكسور القلم. الكثير من الصحافيين أصدقائي وزملائي ذهبوا ضحية وشايات وضحية أكاذيب السياسيين أصدقائهم أو ضحية محاولتهم أن يبروا قلمهم الكسير.
بصفتكم عملتم في الصحافة المشرقية، واليوم استقر قلمكم على صفحات بعض الجرائد الجزائرية... ما هي قراءتكم لراهن الصحافة في المشرق العربي والمغرب العربي؟ و ما الفرق بينهما ؟
*في الجوهر لا فرق، فكل الصحافيين العرب في المشرق والمغرب كالعيس في البيداء الماء على ظهرها محمول، كما يقول الشاعر العربي القديم. لكن في المظهر نرى صحافة المغرب العربي ذات مدرسة فرانكفونية رديئة يعني ليست المدرسة الصحافية الفرانكفونية التي في فرنسا؛ فالصحافة في المغرب العربي تلميذة غير نجيبة لصحف المستوطنين الفرنسيين في الجزائر وتونس والمغرب، لذلك هي اقل قيمة وأقل وعيًا وأقل قدرة على فهم الواقع المغاربي والمحيط العربي والأفريقي وفهم العالم أيضًا... بينما في المشرق العربي، تبدو الصحافة تتقدم بدرجة أو اكثر في الوعي والقدرة والقيمة، على الرغم من أنها في معظمها تتبع المدرسة ألأنجلوساكسونية. وما زالت في المجتمع المشرقي بقايا إحترام للصحافي، وما زالت لدى الصحافيين بقايا احترام لمهنتهم هذه البقايا هي التي ترينها في تحليلاتهم السياسية والفكرية للقضايا الكبرى سواء كانت عربية أم غربية، حيث قلّما نجد صحافيًا مغاربيًا متألقًا في هذه التحليلات. خلال العشرية السوداء التي مرت بها الجزائر اعتمد الإعلام الدولي على صحافيين اثنين احدهما لبناني "الطويل"، والآخر إيراني بريطاني "أمير الطاهري" فلم يستطع الصحافيون في المغرب العربي أن يقدموا تحليلات سياسية تقنع الإعلام الدولي بما يجري في المنطقة.
وهل تختلف الصحافة الجزائرية اليوم في عهد التعددية عن سابقتها في عهد الحزب الواحد؟
أنا لا أرى ذلك... فمن حيث الجوهر لا يزال الصحافي الجزائري لا يمللك المبادأة، انه ما زال ينتظر أن يأتيه الفاكس ليقوم بتغطية أي حدث وقلّما تجد صحافي ينفرد. بدليل أنك لو قرأت الخمسين عنوانًا عندنا كل صباح تجدينها كلها عناوين متشابهة، كل المانشتات متشابهة لا يوجد تمايز، ذلك يعني أن النظام في وقت الحزب الواحد كان يعطي الأخبار لصحيفة أو لإثنتين أو أربعة، واليوم يعطيها لخمسين، وما زال امهر وأكبر الصحافيين في الصحافة الجزائرية في التحليل السياسي أو الاجتماعي هم أنفسهم الذين كانوا في عهد الحزب الواحد، والصحافيون الشباب الجدد يهاجرون بالعشرات في صحافة المشرق العربي. لو كانت أحوالهم المادية والمهنية والأدبية جيدة في عهد التعددية لما رأينا قوافلهم ترحل على المشرق العربي، ويتركون صحافتهم للصحافيين الفرانكوفونيين الذين يتلقون اخبارهم بالفاكس من الضفة الأخرى للمتوسط.
على الرغم من أنك صحافي إلا انك ولجت أبواب التاريخ ونشرت كتابًا احدث صدى واسعًا في الجزائر ويتعلق بتاريخ الجالية الجزائرية في بلاد الشام، كيف كان ذلك؟
في الواقع أنا جزائري من هذه الجالية المهاجرة إلى المشرق العربي، فقد هاجر أبي بحضن جدي إثر ثورة المقرني ملتحقًا بقريبه جدي لوالدتي الذي كان قد هاجر مع الأمير عبد القادر، وولدت أنا في فلسطين، وبالتالي أعرف هذه الجالية وأعرف كيف هاجرت، ولأني أعرف، الوضع في الجزائر. أما الذين يقومون بتزوير تاريخها، فقد فاجأتهم بهذا الكتاب عن جالية حاولوا طمسها باعتبارها جزءًا من التاريخ الوطني والقومي العربي لأنها جالية سياسية هاجرت مع الأمير عبد القادر ثم مع المقراني وقامت بدور كبير في حركة التحرر القومي في المشرق، بينما الجالية الجزائرية في فرنسا هي جالية اقتصادية. الجزائريون هاجروا إلى فرنسا طلبا للرزق وليس هربًا من المستعمر المحتل، إضافة إلى انه كان هناك دائمًا التركيز على الجالية الجزائرية في فرنسا، فأنا شعرت بالمؤامرة فإغفال الجالية الجزائرية في المشرق العربي هو جزء من المؤامرة على الذاكرة الجزائرية، فعدت إلى اوراقي التي ورثتها عن جدي بخصوص الجالية وتحدثت إلى شخصيات من الجالية وجمعت هذا الكتاب وصولاً إلى أنني طرحت مطالبهم فكانوا يطالبون باستعادة الجنسية فسجلت ذلك.
وكانت النتيجة أنه قبل صدور الكتاب نشرت بعض المقالات في جريدة الشعب فاستدعتني رئاسة الجمهورية في ذلك الوقت، وطلب مني أن اشرح موضوع الجالية وشرحت ذلك مفصلاً، فحين ذهب الرئيس الأسبق اليامين زروال إلى سوريا أعاد للكثير منهم الجنسيات، وحين أعيد البرلمان صدر قانون يحمل مقاعد للجاليات الجزائرية في الخارج، وفتح القضاء صدره للنظر في طلبات الراغبين منهم لإستعادة الجنسية. وبالتالي فالجزائر تسترجع بعضًا من تاريخها الوطني والقومي... لقد انتصرت في هذه المعركة انتصارًا واضحًا تسبب في أن تعاقبني القوى الفرانكوفونية على هذا الموقف والمواقف الأخرى. ومع ذلك، فإن الدولة الجزائرية قامت بإعادة ربط الجزائريين في الخارج بطريقة أو بأخرى بوطنهم، وهذه هي صفات الوطن المتحضر فالفرنسيون لا ينسون مواطنيهم في جنوب إفريقيا مثلاً... كما أن بعض الدول العربية تنظر إلى مواطنيها في الخارج نظرة اقتصادية مثلاً المهاجرين اللبنانيين في العالم هم جزء من الاقتصاد اللبناني كذلك المصريين والفلسطينيين. الجزائر لم تصل إلى هذه الصيغة ولكن بما أنها اعتبرتهم جزء من العمل السياسي، فالأمور مبشرة، وأنا عن طريق احد السفراء الجزائريين في الخارج قدمت بعض الآراء لأن تكون الاهتمامات بالجالية من حيث السكن، ومن حيث المسألة الثقافية والفكرية لأنها توجد منارات جزائرية كبيرة في الخارج واعتقد أن وزارة الخارجية الجزائرية مهتمة بهذه المسألة.
مع انك عملت من أجل الجزائريين في الخارج، لكننا رأيناك تعمل من اجل الجزائريين في الداخل فقد علمنا أنك كنت عضوًا مؤسسًا في لجنة شعبية كانت تسمى اللجنة الوطنية للعفو الشامل سعت لتحقيق المصالحة، إثر عشرية العنف التي كنت الكاتب الجزائري الوحيد في هذه اللجنة أين كان الكتاب والمثقفون الجزائريون؟
نعم، فالرغم ظروفي الشخصية الصعبة التي كنت فيها عرض علي احد الأصدقاء المشاركة في تكوين لجنة شعبية للعفو الشامل فقبلت، ومن خلال هذه المشاركة عرضت الوضع على بعض المثقفين الجزائريين من اتحاد الكتاب الجزائريين، لكنهم ورئيسهم آنذاك عزالدين ميهوبي- المعروف بالحاج تبلعيط-رفضوا المشاركة في هذا الجهد الشعبي لمصالحة الجزائريين، المثقف الوحيد الذي قبل التعاون معنا هو الأستاذ الشاعر محمد لخضر عبد القادر ألسائحي وقد عملنا ونجحنا وها هم الذين رفضوا يعتاشوا بطريقة أو بأخرى من المصالحة الوطنية والعفو بعد أن صارت جزءًا من يوميات العمل السياسي والإجتماعي في الجزائر... ولم تعد مغامرة تحتاج إلى ابطال...
لكن لماذا لم يستجب هؤلاء ؟
وهل اكتفيتم بذلك وانهيتم عمل اللجنة .. ؟
لا.. فلما رأينا أن الأكلة تداعوا إلى القصعة وبدأوا يحرفون اللجنة عن مسارها نحو جيوبهم أسسنا لجنة اخرى أسميناها المنظمة الوطنية للمصالحة، والعفو يرأسها نور الدين سليماني ودعمها الرئيس الأسبق احمد بن بلا وواصلنا العمل وحين صدر ميثاق المصالحة قلنا في بيان علني إننا نؤيده، ولكنه غير كاف وهو ما يعترف به اليوم الجميع. المشروع كان ضروريًا، ولكنه لم يكن كافيًا، لأنه لم يلم بالجوانب النفسية والفكرية والاجتماعية للشعب الجزائري، كما أن المصالحة ليست مأدبة عشاء... "وتبويس لحى" كما يقول اهلنا في المشرق العربي، فالمصالحة الوطنية مصالحة حضارية عميقة الأبعاد في تاريخ الشعب الجزائري من جهة، وفي مستقبله من جهة أخرى. لذلك لا يمكن أن تكون دون أن نجيب على سؤال: ماذا نريد أن يكون عليه الفرد الجزائري بعد مئة عام؟ وهذا عمل أهل الفكر والثوابت الوطنية وليس عمل أهل التكتكة والبزنسة السياسية أو أثرياء الحروب. وقد أجاب الرئيس بوتفليقة على هذا الهم حين كان رده على محاولة اغتياله في باتنة في الفترة القصيرة الماضية ليس التهديد والوعيد، بل التأكيد أن ليس أمام الجزائريين سوى أن يصطلحوا آجلاً أم عاجلاً. وهو في نظري الطريق نفسه الذي امام العرب اليوم ولا طريق غيره. وفي الجزائر كما في البلدان العربية لا يوجد من يطرح هكذا سؤال... لذلك قلت لبعضهم، إننا نريد الجزائر وكل البلاد العربية وطنًا وليس مقبرة أو مخيمًا.
ولماذا ترى المصالحة فعلاً حضاريًا له ابعاد مستقبلية، وقد اتفق كثيرون على انها مسألة اتفاق سياسي مرحلي؟
* بسبب هده المرحلة التكتيكية تعرقلت المصالحة، فالذين نظروا وينظرون إليها تكتيكيًا هم أنفسهم الذين يعرقلون، وهم أنفسهم الذين يوقظون الفتنة بين فترة وأخرى تحت هذا الشعار أو ذاك وباسم هذه الفئة أو تلك. فالمصالحة الوطنية الحضارية هي جزء من الاجابة على سؤال ما هو مستقبل الجزائر الثقافي؟ الذي لم يجرؤ احد على طرحه حتى الآن؟ وهو ما احاول الأجابة عليه في كتاب أتمنى أن يصدره الناشر قريبًا، وهو بعنوان : بوتفليقة والمصالحة الوطنية-قراءة في مستقبل الجزائر الثقافي؟ فلو سألتك: متى عرفت مصر نفسها؟ بالتأكيد أن ذلك كان بعد كتاب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر، على الرغم من أن طه حسين لم يكن قوميًا عربيًا، بل كان فرعونيًا فرنكوفونيًا؛ إلا أنه كان وطنيًا مصريًا قبل أي شىء آخر، فأحسن التشخيص وأكد أن التعليم حق للشعب المصري كالماء والهواء. والتعليم هو الضمانة الأكيدة لأي شعب بألا يضيع؛ فهذا هو شعبنا العربي الفلسطيني، على الرغم ممّا يعانيه من محن وضعته في صحراء التيه والذوبان... ولكنه لم يته ولم يذب، فهو بسبب ارتفاع نسبة التعليم فيه اكثر شعب من شعوب المعمورة ؛ يعرف ماذا يريد. فهو مثلاً أول من انجز موسوعة، وتكاد الموسوعة الفلسطينية أن تكون الموسوعة العربية الوحيدة المحترمة علميًا على المستوى الدولي. وأما نحن في الجزائر فلا زلنا لا نعرف ..هل نحن عرب أم بربر، هل نحن فرنسيون اوروبيون أم أفارقة مغاربيون ؟ إذن كيف تقام مصالحة وطنية بين أناس لا يعرفون أنفسهم ؟ وبين أجيال لا تعرف ماذا تريد ؟ المصالحة تبدأ من هنا، من مواطنين في وطن يعرفهم ويعرفونه، وليس من سكان مقبرة أو مخيم. وهذا بالضبط لا يريده السياسيون في الجزائر لأنه طرح لا يكسب منه الإنتهازيون وهواة السياسة شيئًا، وقديمًا قيل أخطر ما في السياسة هواتها لم يقنعوا الشعب، وفي الجزائر شكل هواة السياسة والانتهازيون أكثر من خمسين حزبًا لمن ترشحهم للانتخابات البلدية القادة في نهاية نوفمبر تشرين ثاني الجاري، فقامت اسماء أموات وأسماء سجناء جنايات اجتماعية .
- يقال إنه بسبب صراحتك الجارحة هذه وإصرارك على دعم الاستثمار الخليجي في الجزائر وعلى الثقافة العربية في الجزائر حوصرت فلا سكن ولاعمل، حتى لجأت إلى دار المسنين ولم تخرج منها إلا بسبب الأمراض التي ألمّت بك... لماذا كل ذلك وأنت بلا حزب يحميك، ولست من أهل السياسة ؟
- لست مع هذا الرأي، فقد سبق وأن قاله بعضهم وسألني حوله بعض الزملاء الصحافيين. ولكني بالفعل وقفت مع المستثمرين العرب في الجزائر وألفت كتابين حولهم الأول وهو الذي تشيرين إليه كان حول ما جرى للمستثمر الإماراتي بعنوان علي الشرفا رائد الستثمار العربي في الجزائر، والثاني لم يصدر بعد . وقد فضحت في الاول الحملة التي شنتها الصحافة الفرنكوفونية وخاصة صحيفة لوماتان الفرنكوفونية ضده وضد المستثمرين العرب ، وقد أثبتت الأيام صحة تحليلاتي من أن الإستثمارات العربية التي هي في العادة لا ترفق بشروط سياسية علنية ومتخفية، وليس لديها اساليب اقتصادية معقدة تضر الاقتصاد والمجتمع ، والقدرة على الدفع لشركات التكنولوجيا العالمية هي في نهاية التحليل الأجدى لخطط التنمية الجزائرية إقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا.
وقد أغضب ذلك طائفة الفرانكوفون ومجموعة استثمارات في صناعة الحلويات والجاتو... والآن الاستثمار العربي هو الذي حل ازمة الاتصالات الهاتفية في الجزائر عبر شركة اوراسكوم العربية . السعوديون والاردنيون يستثمرون في صناعة الدواء والإماراتيون والقطريون يشيدون البنية التحتية للاقتصاد الجزائري والفرنسيون يبحثون عن كروم العنب لصناعة الخمور... هناك فرق طبعًا.
وانا رجل كاتب وعلي واجب نحو الوطن العربي كله ونحو فلسطين والجزائر والكويت والأردن والإمارات والسعودية وقطر والعراق وليبيا، فكل راية عربية هي رايتي سواء أحب الفرانكوفون أم كرهوا، وفي ثقافتنا العربية إن ابن رشد في المغرب نكبته السلطة في فاس والإمام أحمد بن حنبل نكبته السلطة في بغداد ومعاناة المتنبي مع مجموعة الضغط التي حول سيف الدولة في حلب معروفة .. إن واجب المثقف أن يقف مع مصلحة شعبه الحقيقية أي المصلحة الاستراتيجية الضاربة جذورها في حضارته والضامنة لنضارة مستقبله. اما تأييد مصالح المنتفعين سواء من الدين يريدون صلب شعبنا على أبواب روما أم شنقه على أسوار التراث، فهذا لا يفعله المثقف، ويدفع ثمنه حياته في كثير من الأحيان... لذلك فمعاناتي في الفترة الماضية التي امتدت سنوات بلا سكن وبلا عمل، ولم استنجد حتى بأصدقائي من الدول العربية... ليست سوى الثمن البسيط الدي يدفعه المثقف العربي الذي يستحق شرف هذا اللقب.
وبصمودي وعدم استنجادي باحد انتصرت على الفرنكوفيين مرة أخرى فلم يتمكنوا من كسر قلمي ولجم فمي .. فها هو لساني كما ترينه طويلاً وقلمي ما زال حادًا، وما زلت على قمة الدنيا وحيدًا بلا حزب بلا مال ، ليس لدي ما أخسره لذلك كما قلت لهم ذات مرة ما زلت أنا القيصر، وهم العجزة، فأنا اليوم لست ملحقًا بثقافة غير جزائرية وغير عربية وغير إسلامية، والجزائر ليست ملحقة فرنسية... إنها تبتعد عن فرنسا، وعن الدول الاستعمارية يومًا بيوم تبتعد اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا... وأنت نفسك دليل قوي على ذلك، فقد منع الحاكم الفرنسي ذات يوم الصحافي الجزائري عمر بن قدور من مراسلة صحيفة اللواء المصرية، فهل يستطيع أحد منعك من مراسلة الموقع الذي تراسلينه اليوم ؟؟؟؟
لماذا الجزائر قيثارة العرب ؟
لأن الشعراء العرب حدوا الثورة الجزائرية 1954-1962 وغنوها كما لم يتغنوا بثورة أخرى ، فقد غنوا لها ولقيمها ولأبطالها ومعاركها ولجيشها جيش التحرير الوطني أول جيش يؤسسه العرب بأنفسهم وبعقيدتهم السياسية والدينية والعسكرية ، وغنوا القيادات الجزائرية والمرأة الجزائرية المجاهدة وتغنوا بالجبال الجزائرية معاقل الثوار، فقد كان الأوراس عنوان العرب جميعًا في ذلك الوقت، حيث لقيت الثورة ضد المحتل الفرنسي إجماعًا عربيًا غير مسبوق في التاريخ منذ سقيفة بني ساعده... وفي الإستقلال سيطرت القوى الفرنكوفونية على الإعلام والحياة السياسية والثقافية والاقتصادية الجزائرية، وتحكمت بالجزائريين فأنستهم حتى أسماءهم وتاريخهم، ونشأ جيل جزائري لا يعرف للجزائر امتدادًا عربيًا أو إسلاميًا ولا يعرف من وقف معها ضد الإحتلال ووصل التزييف والتزوير حتى إلى النشيد الوطني الذي كتبه الشاعر الجزائري المعروف مفدى زكريا .. وكنت قد تطرقت إلى هذا الموضوع اي موضوع وقوف الشعب العربي مع الثورة الجزائرية في كتاب اسمه جيل قسما - تأثير الثورة الجزائرية في الفكر العربي المعاصر الذي اصدرته بإهداء لكل من سمو أمير قطر الذي كان يجمع التبرعات للثورة الجزائرية وهو تلميذ في مدارس الدوحة، وإلى معمر القذافي الزعيم الليبي الذي سجن وهو على رأس المظاهرات المؤيدة للجزائر حين كان تلميذًا ... والآن لي كتاب قد يصدر قريبًا عن دور الشعر العربي في تأييد هذه الثورة وإيراد نماذج من هذا الشعر الذي تغنى بالثورة والكتاب بعنوان // الجزائر قيثارة العرب // ، فقد أرادت الفرنكوفونية بكل تلاوينها كسر هذه القيثارة فزورت ونهبت وقتلت وارتكبت كل الموبقات ضد الأجيال الجزائرية مستقبلها وماضيها كما هو حاضرها.