هيثم الزبيدي: الصحافة الإلكترونية ديمقراطية ومثيرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
خلال حديثه عن عصر الإعلام المعاصر
هيثم الزبيدي: الصحافة الإلكترونية ديمقراطية ومثيرة
وعلّق الزبيدي ذلك الأمر بتجربته الصحافية بقوله: "مما لا شك فيه، وانطلاقا من تجربتي الخاصة، فإنهم سيجدون عالم الصحافة الإلكترونية أكثر سعة وأكثر إثارة، وبالتأكيد أوسع انتشارا، من عالم الصحافة الورقية".
وأضاف "العالم اليوم يقرأ الصحف الإلكترونية بشكل متزايد. وليس من قبيل المبالغة القول إن صحافة اليوم والغد القريب هي صحافة إلكترونية. ليس فقط لأنها "ببلاش" أو لأن الملايين من البشر يقضون الساعات الطويلة أمام شاشات الإنترنت، ولكن لأنها مختلفة جوهريا عن الصحافة الورقية"، ذلك خلال إلقائه محاضرة تجسّد عصر الإعلام الالكتروني بمدينة دبي الإماراتية نهاية الأسبوع الماضي.
التاريخ المعاصر للصحافة
قال هيثم الزبيدي في حديثه حول تاريخ الصحافة: "لعل أهم ما يميز الصحافة المعاصرة هو سرعتها في نقل الخبر. الخان المغولي الكبير لم يعرف أن جيوش ابن أخيه هولاكو اجتاحت بغداد إلا بعد أكثر من شهر على الحدث. وكان للجيش المغولي أفضل نظام بريد أقيم في عصر ما قبل الآلة. لكن رغم ذلك كانت الأخبار تأخذ وقتها حتى تصل".
واستطرد قائلاً : "اليوم نحن نعرف ما يجري في العالم بطريقة شبه آنية. وهذا الأمر أصبح حقيقة منذ انتشار البريد البرقي. الناس حول العالم تعرف ما يدور من حولها، وفوق ذلك تهتم به. وحتى وقت قريب كان الراديو مصدر الخبر السريع. لكن هذا الخبر بقي مقتضبا وغير شامل، وخاضعا لسلطة ادارات اعلامية تختار ما يلائم تصوراتها فقط، وكانت "ثورة الترانسستور" كافية لان تقرب العالم من بعضه على نحو لم يسبق له مثيل. وكان كافيا بالنسبة للملايين ان يتجمعوا حول جهاز الراديو ليستمعوا الى خطاب هذا الزعيم او ذاك، ولعل خطابات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر واحدة من اشهر تلك الخطابات، او ليصغوا الى اخبار هيئة الاذاعة البريطانية، وليصدقوها على الفور، او لتكون حافزا لتغيير مجرى حياتهم، وبمقدار ما يتعلق الامر بالصحف، فقد ظل من الضروري الانتظار الى اليوم التالي لنعرف ما حدث بالأمس".
- الصحف والمجلات: كيف تتلقى أخبار العالم بعد يوم أو أسبوع أو شهر؟
تأقلم الناس على أن الأخبار تأتيهم في الغد مطبوعة على صفحة الجريدة: تذهب إلى باعة الصحف وتأخذ صحيفتك المفضلة المبوبة إلى أقسام. هذا خبر محلي وذاك إقليمي والآخر عالمي. ومن يريد المزيد عليه الانتظار ربما لأكثر من يوم حتى يدلي المحللون بآرائهم.
الصحف، رغم وفرة ما تقدمه، لم تكن كافية. فالنهم للمعلومة صار يتزايد بشكل طردي. كلما توفرت الأخبار، صرنا نريد معرفة المزيد منها وعنا. ونشأت بالنتيجة صناعة موازية هي صناعة المجلات، تلك "الجرائد" التي لا تهتم بالخبر بل تمعن في التحقيقات والتحليلات وتحلق فيما وراء الخبر وتداعياته.
كبرت الدائرة ولم يعد يكفي الخبر وما وراء الخبر في مجلة ذات اهتمامات عامة. صرنا نقول نريد المزيد من ذلك المزيد. جاءتنا المجلات الشهرية المتخصصة. وتلك الأكثر تخصصا. ويكاد لا يوجد اهتمام بشري لا يحظى بعدد لافت من المجلات: السياسيون يريدون مجلاتهم مثلهم مثل هواة الطوابع او الصقارين.
- التلفزيون: الأخبار على مدار الساعة أم نشرة أخبار الساعة التاسعة؟
التلفزيون كانت له حصته في تغيير آلية وتقنيات وصول الخبر. ومثل الراديو، كان هناك سرعة في توصيل الخبر. لكن المشاهد كان يواجه معضلات متعددة، منها أن الخبر يتأخر بعض الشيء، ومنها ما يتعلق بأن القنوات الأرضية في زمن البث التماثلي (الذي يختلف كثيرا عن البث الرقمي) ليست كثيرة وتحتاج أن تعطي حصصا لاهتمامات المشاهدين. كانت تقول للمشاهد ما معناه: تريد أن تشاهد أخبار اليوم؟ عليك بالانتظار حتى تحين نشرة أخبار الساعة التاسعة مساء.
بقي تأثير البث التلفزيوني على الخبر محدودا، ولأسباب عديدة، بعضها تقني بحت، والآخر يتعلق بالسياسات التحريرية التي تتبعها المحطات الأرضية الوطنية. ولم تتغير هذه الصورة على مدى عقود حتى حل بنا عصر الفضائيات.
الصحف العربية والفضائيات الإخبارية
وعن الصحف العربية والفضائيات الإخبارية قال الزبيدي: "التسعينات من القرن الماضي كان مفصلية في مسيرة الإعلام. فحتى قبل انتشار البث الرقمي، صرنا نشاهد محطات السي ان ان أولا بالإنجليزي ثم بدأت المحطات الفضائية العربية بالظهور شيئا فشيئا. ولعل من اللافت أن أغلب المحطات التي كانت تظهر، كان الاهتمام بها يتناسب مع ما تبثه من أخبار أكثر مما يبث من برامج ترفيهية. ولم يمر وقت طويل حتى كنا في عصر فضائيات الأخبار العربية التي لا يمكن إنكار أنها غيّرت الوجه السياسي للمنطقة العربية".
وأضاف " أمام هذا التحدي الجارف، طورت أغلب الصحف العربية من طرقها في تناول الخبر. وصارت أكثر جرأة في تناول الممنوعات، الاجتماعية والسياسية والدينية، لكنها كانت ترتكز على "حصة" مهمة وهي أن الفضائيات تبقى آلة بصرية وأن التفاصيل والتحليلات والمقاربات الشاملة تبقى حصرا على الصحافة المطبوعة. ويمكن القول إن الفضائيات غطت الكثير من فجوة الوقت التي صاحبت انتشار الخبر المطبوع، لكنها لم تتمكن من معالجة هوة النوعية. فمن الصعب بمكان أن يقدم الخبر المسموع كل التفاصيل، وعادة ما ينجرف المتحاورون بعيدا عن النقاط الأساسية التي كان بالإمكان تناولها لو كتبت ودققت. ولم تحس الصحافة المطبوعة بالتهديد الكبير".
انطلاقة الإعلام الإلكتروني
خلال حديث الزبيدي الطويل تطرّق الزبيدي إلى ثورة الإعلام الإلكتروني فقال: " لم تكن شبكة الإنترنت حدثا عابرا في التاريخ الإنساني المعاصر. فهذه الأداة التقنية المتميزة وفرت للمرة الأولى في التاريخ التواصل اللحظي بين أطراف الكرة الأرضية. وهي إن كانت قد بدأت لأغراض بحثية وعسكرية، إلا أن العالم سرعان ما اكتشف أهميتها للجميع، انعكست الإنترنت إيجابيا على آلية توصيل الخبر. فستون بالمائة من العالم الغربي يتلقى أخباره عبر الإنترنت، والعالم العربي يجد في اتباع هذا النمط".
وأضاف "قارئ الألفية الجديدة صار يريد الخبر، بالتفصيل، في أي وقت وأي مكان. وليس هذا فحسب، بل أصبح يريده مجانيا أيضا. وهذا بالضبط ما تقدمه الإنترنت من خلال المواقع الإخبارية، الإعلام الالكتروني العربي صار بمتناول الجميع. وحققت المواقع الإخبارية العربية السبق في استخدام تقنيات الإنترنت الحديثة في إيصال الخبر إلى المتلقي. وأصبحت مواقع مثل ميدل إيست أونلاين وإيلاف ومحيط مصادر رئيسية للخبر على الرغم من أنها لم تكن موجودة قبل عام 2000. فبنقرة على فأرة الكمبيوتر تكون أمام أخبار مفصلة وصور وتعليقات".
وذكر الزبيدي أن " المواقع أتاحت ميزة إضافية للأخبار هي الترابط المتشعب والأرشفة. فالخبر مهم. لكن خلفياته ووقعه وتداعياته، التي لم تكن لها حصة في الصحافة المطبوعة "الجامدة"، صارت بأهمية الخبر نفسه. وبدلا من غبار غرفة الإرشيف التقليدية أو ظلام المايكروفيلم، صار بوسع القارئ الرجوع إلى خلفية الأخبار من الموقع نفسه أو من المواقع الأخرى البديلة".
وفي مجموعة أسئلة أجاب عنها الزبيدي من خلال التالي:
منْ هم المستهدفون من الإعلام الالكتروني؟
الجميع. موقع مثل ميدل إيست أونلاين يبدو بسيطا من النظرة الأولى. لكن بعد لحظات من التصفح يدرك القارئ/المتصفح أنه أمام مبنى بطبقات متعددة، كل طبقة تقوده إلى عمق تخصصي: ثقافة، إعلام، علوم، تقنية، بوابات للدول، آراء، سيارات، اقتصاد، وهكذا. وعلى عكس الصحف المطبوعة المقيدة بالأبعاد العملية للصفحة طولا وعرضا، فإن مقال الإنترنت يمكن أن يمتد ويتشعب دون حدود تقريبا. والفن هنا في أن المحرر المسؤول، مثله مثل الكاتب، عليه أن يجد التوليفة المناسبة بين حجم المقال وعدم خسارة اهتمام القارئ بدفعه إلى الملل مما يقرأ.
واذ تسارع المحطات الفضائية، مثلها مثل مواقع الانترنت، على نشر الخبر، فان الفضائيات لا تمتلك ترف التحليل لانه "يأكل" الوقت ويكون على حساب الاخبار الاخرى. اما الاعلام الالكتروني فعلى بعد نقرة ثانية من الخبر، ثمة تحليل يتطور بشكل متواصل للخبر وتداعياته. لا حاجة هنا لذكر ان فكرة السبق الصحفي هنا ضاعت
هل ثمة ما يميز مواقع الأخبار العربية عن مواقع الدردشة والأخبار الخفيفة؟
للأسف انطلاقة المواقع الإخبارية الجادة تصاحبت مع انطلاقة الكثير من مواقع الدردشة والأخبار الخفيفة والفضائحية والسياسية الموتورة. ولعدة سنوات وقعت الكثير من المشروعات الجادة في هذا المطب من خلال تقديم خليط من كل شيء وأي شيء.
وقاست بعض هذه المواقع نجاحاتها بعدد الزوار أو بعدد النقرات. ولا حاجة هنا لذكر أن عددا من أكبر مشروعات المواقع العربية تبخرت من على الإنترنت بعد أن أُنفق عليها الملايين وتفرق معها شمل جمهورها.
لكن فوضى من نوع آخر حلت. فكل شاب طموح كتب موضوعا مرة أو مرتين في صحيفة، اعتقد أن بامكانه أن يطلق موقعا إخباريا. وإذ لا نرى ضيرا من ذلك من حيث المبدأ، إلا أن الكثير من المعايير الصحفية الحقيقية والمهمة ضاعت في هذه الفوضى. ولفترة، أصبح كل ما ينشر على الإنترنت "حقيقة" لا تقبل الجدل مهما كانت مصداقية المصدر. لكن هذا تراجع اليوم بعض الشيء وإن كان لم ينقطع بشكل كامل.
قلق أباطرة الإعلام
في نظرك، على ماذا انعكس الانتشار الواسع للإعلام الالكتروني؟
استفز الانتشار الواسع للإعلام الإلكتروني العديد من المؤسسات التلفزيونية والصحفية التقليدية. ولتقدير آثار هذا الاستفزاز، يمكن استخدام صحيفة نيويورك تايمز كمثال. هذه الصحيفة الأميركية من أهم الصحف العالمية. وبعد تسيد على الخبر واحتكار لمصادره وأرباح كبيرة تتحقق من مبيعات الصحيفة، وجدت الصحيفة أنها تخسر 10-30% من قرائها سنويا. ماذا تفعل؟ بعد فترة من التردد بل والتخبط، اقتنعت الصحيفة أن مستقبلها يكمن في تطوير موقعها الإلكتروني على الإنترنت. وهنا نشير إلى أن موقعها قبل الحالي لم يكن موقعا بليدا أو قاصرا. لكن حجم التحديات لم تترك مجالا لأنصاف الحلول. ووضعت استراتيجية تطوير باعت من أجلها حصصها في 8 محطات تلفزيون محلية لتستثمر في موقعها على الإنترنت والذي كلفها 100 مليون دولار.
يمكن وصف الخطوات التي اتخذتها صحيفة نيويورك تايمز بالهجوم المضاد الذي شنته الإمبراطوريات الإعلامية التقليدية على منافسيها الجدد. ولم يقتصر الأمر على الصحافة المطبوعة، بل تعداها حتى إلى القادمين الجدد، أي المحطات الإخبارية الفضائية التي لم تتم 10 سنوات أو أقل من عمرها.
الهجوم المضاد أخذ عدة أوجه. فالفضائيات "التقليدية" سارعت إلى تذكير القارئ / المتصفح بوجودها من خلال البث التلفزيوني المباشر. كانت تريد أن تقول له إن المستقبل الإعلامي الذي يوحد عبر الإنترنت النص والصورة والفيديو، صار الآن بين يديك. ومن خلال توفير الخطوط ذات السعة الكبيرة (برودباند)، صار البث التلفزيوني عبر الإنترنت حقيقة. وصرنا اليوم ندخل المكاتب في الغرب لنجد شاشة تلفزيون صغيرة على ركن شاشة الكمبيوتر.
الصحف بدورها تحولت إلى مواقع: بعضها خجول يقدم أخبار الأمس بطريقة إلكترونية، وبعضها أكثر جرأة يعترف بأن خبر الأمس ذهب مع الأمس، وأنها بحاجة إلى أن تقدم خبر اليوم.. اليوم. صحف عربية في لندن على سبيل المثال حاولت أن تقدم بدائل إضافية. فلأن أخبار وكالات الأنباء والتحليلات المصاحبة لها تكون قد وجدت طريقها إلى القارئ بالأمس، فإنها تحاول أن تستعيد قارئها من خلال التركيز على الأخبار الخاصة بها أو عن طريق التعاقد مع الصحف الأميركية الكبرى وترجمة ما تنشره تلك الصحف ونشره بأسرع وقت. وكانت النتيجة متفاوتة في النجاح. فالصحف لا تستطيع تقديم خبر أو أكثر بخصوصية وأهمية كبيرة كل يوم. ولا يستطيع رئيس التحرير أن يذهب ويقابل الزعماء العرب بين يوم وآخر لتستقر المقابلة معهم على صدر الصفحة الأولى. ووقعت الكثير من الصحف في مطبات مانشيتات كبيرة لموضوعات تافهة. أما تلك التي اعتمدت الترجمة عن الصحف الأميركية فتحولت إلى صحف أميركية بلغة عربية وصارت تعالج الأمور من وجهة نظر قد تتعارض مع التوجهات العامة. كما وقعت في محظورات كثيرة: الصحف الأميركية مثلا تكتب دون قيد أو شرط عن تلك الدولة العربية الكبرى وتكيل لها الانتقادات. فماذا تفعل الصحيفة العربية الممولة من تلك الدولة العربية؟ فترجمة الموضوع ورطة وإهماله ورطة أخرى، خصوصا وأن العالم العربي صار يقرأ بالإنجليزية ويطلع على الصحف الأميركية ويقدر أن هذه الصحيفة أو تلك تتحاشى مسَّ الموضوعات الحساسة.
لا نبالغ إن قلنا إن بعض الصحف في هذه الفوضى والتردد ضيع طريقه وما يزال الكثير منها يحاول العثور على صيغة بديلة بعد أن "سرقت" مواقع الإنترنت الأخبار التي كانت تحتكرها الصحف ونشرتها 24 ساعة قبل الصحف.
الفضائيات بدورها انتبهت إلى فجوة الوقت رغم قصرها. فالمتلقي يريد أن يعرف ما يجري آنيا. والفضائية لا تستطيع فعل ذلك لأنها مرتبطة بجدول برامج وأخبار. فما العمل؟ قدمت الفضائيات حلولا جزئية. فبين حين وآخر تبرز على الشاشة رقعة حمراء تقول "عاجل" لتقدم خبرا عاجلا كان لحد سنوات قليلة ينتظر حتى موعد نشرة الأخبار في تمام الساعة. ولما يحقق هذا الحل النتيجة المرجوة، صارت الفضائيات تعرض أشرطة الأخبار. لهذا نجد صورة المذيع أو المذيعة أو الخبر المصور وتحته شريط لا ينقطع لعناوين الأخبار. ولكن بالطبع ينتظر المشاهد المزيد من التفاصيل التي لا يقدمها شريط العناوين الإخباري.
وجهات نظر؟ لا شكرا!
لكن الصحافة ليست أخبارا وحسب. فالقارئ للصحافة التقليدية ينتظر الرأي. وإذ ينعكس الخط التحريري للصحف على طريقة صياغة الأخبار، إلا أن أعمدة الرأي تضطلع بمهمة تشكيل وجهات النظر بالنسبة للقارئ.
من دون مبالغة، يمكن القول إن هذا الدور تراجع بل اضمحل. فقارئ الإعلام الإلكتروني يستمتع بالأخبار "الخام". يقلبها ويقارن بين ما ينشر هنا وينشر هناك سعيا لتكوين رأيه الخاص. وهذا الاستنتاج تؤكده البيانات التي نجمعها من المواقع عن القراء وما يقبلون على قراءته. فثمة جفاء متزايد نحو أعمدة الرأي يقابله حماسة للموضوعات التي تلامس الرأي لكنها تتحف القارئ بالمعلومات.
قارئ اليوم يقول لكاتب العمود الصحفي: منْ أنت لتقول لي ما هو الصحيح وما هو الخاطئ؟ وليزيد من احتجاجه يبادر إلى الرد بكل قسوة ما أن تتيح له فرصة الرد من خلال الموقع.
بل إن القارئ زاد من تمرده إلى حد "إعلان الاستقلال". فخلال السنوات الأخيرة برزت ظاهرة المدونات (البلوغز). فقارئ الإنترنت الآن لديه "صحيفته" الخاصة، ينشر فيها ما يشاء. والمثير في الأمر أنه يلقى تجاوبا كبيرا حول العالم. ولن أدخل في تفاصيل المدونات التي تسرق الأضواء من الكتاب التقليديين في العالم، لكني أذكر بعض الحوادث المرافقة للغزو الأميركي للعراق. فرغم كل ما كتب وقيل عن الموضوع، أخبار وآراء، قرر مئات الالوف من القراء اللجوء إلى المشاهدات الشخصية لكاتبي مدونتين عراقيين مجهولين (أحدهما كشف عن شخصيته لاحقا). فمدونة "أين رائد؟" سجلت مرحلة قبل الغزو وساعاته الأولى والتحولات الكبيرة التي شهدها العراق بعين كاتب المدونة واستقطبت إقبالا قياسيا. ولم تكن مدونة "بغداد تحترق" لكاتبتها "ريفربيند" أقل نجاحا. فالمدونتان الآن تحولتا إلى سلسلتي كتب تحققان مبيعات كبيرة.
صحيفة عريقة مثل الغارديان البريطانية توصلت إلى قناعة أن لا فاصل يفصل بين ما يكتبه كاتب محترف وقارئ ملم، وصارت تدعو ما ينشر من قبل الاثنين "مدونة" بدلا من تسميته عمود رأي. الثورة الاعلامية الالكترونية مشروع لـ"دمقرطة" الخبر والتحليل، حيث اصبح الكل يشارك في اعداد وتقديم وتدقيق المعلومة بل وتحدي "الخبر الرسمي" وكتابة الرأي عنه.
ماذا حلَّ بصنعة الصحافة؟
ما هذه الفوضى؟ قراء يكتبون أعمدة رأي، وصحف لا تعرف ما تقدمه للقارئ، وتلفزيونات عبر الإنترنت، بل عبر الهاتف، ومؤسسات بعمر الزهور وبميزانيات بسيطة تتعملق على مؤسسات كبرى تقف خلفها دول.
هذا بالضبط ما يحدث الآن: الهيكل الصحفي التقليدي تمزق. ولصحفي تقليدي "نوستالجي" يعيش على الذكريات، تبدو صنعة الصحافة وقد طوح بها. أين ذهب محرر الصفحة الذي يشغل مرؤوسيه على خبر طوال النهار؟ للأسف لم يعد له وجود إلا في المؤسسات التي ترفض التغيير وتصر على القديم. فمحرر واحد يجلس الآن على مكتبه هو منْ يقرر الأخبار والعناوين والصور لمؤسسة إعلامية كاملة. وبينه وبين ورود الخبر من المصدر (أكان مراسلا أم وكالة أنباء) دقائق لا غير، تتحول بعدها المادة الإخبارية الخام إلى خبر على موقع الصحيفة الإلكترونية لتتلقفه أعين القراء.
ونسأل ما هي أخبار اجتماع التحرير؟ حقيقة لا أعرف. فهذه الصيغة عفا عليها الزمن: كل محرر يأتي بما لديه ويجلسون حول مدير التحرير يقسم ويوزع الأدوار. منْ لديه الوقت لهذا وما معناه الآن؟ إن اجتماع التحرير اليوم يدور في عقل المحرر الذي يطل على القارئ مباشرة من خلال الموقع. ثم هل نسينا ان الخبر متحرك بشكل دائم ومتغير حتى يستحيل الامساك به بصيغة متجمدة يعتمدها اجتماع التحرير.
هل بقيت ثمة حاجة لرئيس التحرير؟ نعم، على الأقل إلى أن انتهي من دفع أقساط البيت، واحال على التقاعد. ولكني أعتقد أيضا - وهذا ليس تحيزا لوظيفتي - أن رئيس التحرير هو المايسترو في هذه الأوركسترا على حد وصف أحد الزملاء. ولكنه مايسترو من نوع مختلف: يجب ان يكون ملما بالكثير من السياسة والاكثر من الثقافة والفكر والتقنية والعلوم. إنه ليس ذلك الإنسان الذي يضع خطة خمسية لما يجب أن تكون عليه الصحيفة، بل شخص قادر على التقاط الحس الشعبي وجس نبض الاهتمامات بشكل يومي ليحولها إلى تعليمات مبسطة يقدمها للمحررين لكي ينفذوها بطريقتهم. إنه أيضا محرر يشمر عن ساعديه ويعمل مع المحررين حين تدعو الحاجة. وهو شخص ملم بأدق التفصيلات الفنية التي عادة ما تغيب عن كثيرين.
دعوني أصف لكم بسرعة حال ما يجري في "صالة تحرير" ميدل ايست أونلاين. ما يجري من حديث بين المحررين، وأنا منهم، هي أحاديث ترويحية في أوقات الاستراحة. كل ما يخص العمل نتحادث به عبر المسنجر. لماذا؟ لأني ببساطة أريد أن أتحادث مع محرري. ولن يتم ذلك وأكثر من نصفهم غير موجودين في لندن، بل يعملون وفق ساعات متفاوتة من شرق البحر المتوسط ووسطه وغربه. ولا أذكر حقيقة كم كلمة عبر الهاتف تداولت بها مع مدير التحرير الذي يجلس في عمان. بل ربما سأستثير البعض بالقول بأني لم التق يوما وجها لوجه بمدير التحرير الذي أعرفه ونعمل سوية منذ سنوات. هذه حقيقة لا تشمل مدير التحرير، بل العديد من المحررين الذين يعملون معنا.
سأرد الآن على سؤال أين صالة التحرير؟ في لندن، عفوا أقصد في عمان، أم هي في أبوظبي؟ والله نسيت!
من أين تأتون بالدخل؟
نحن لا نمتلك صحيفة مطبوعة، نعم. يعني ذلك أننا لا نطبع ونوزع وننتظر إيرادات من المبيعات. فللأسف لا توجد لدينا مبيعات. وكل المحاولات التي سعت إلى الحصول على دخل من مبيعات لصحافة إلكترونية باءت بالفشل. لكننا أيضا نصرف أقل. فالنفقات الأساسية في الإعلام الإلكتروني هي البشر: لا ورق ولا حبر ولا شحن ولا توزيع ولا مرتجع.
كيف نعيش إذن؟ المهمة في البداية كانت صعبة. الصحافة الإلكترونية في البداية كانت مهمة "انتحارية". فلا يوجد لديك "عدد من الجريدة" تأخذه للمعلن المحتمل. لكن كان هناك دائما أشخاص ينظرون إلى إبعد من الحاضر. هؤلاء منْ وقف إلى جانبنا حتى صار أمام المعلن المحتمل شاشة كمبيوتر يتصفحها ما أن تدخل إليه لتحادثه. وزاد الاهتمام الآن بالإعلام الإلكتروني، وزاد معه عدد من يرعون صناعته الناشئة ويدعموها.
في هذه الموازنة الحساسة بين الدخل والإنفاق كنا نربح دائما. ليس ماديا، بل من جيش الكتَّاب المشاركين. أولئك الناس الذين يرفدون الإعلام الإلكتروني بالآلاف من المقالات والمشاركات سنويا دون أن يطلبوا مقابلها أي شيء غير مشاهدة أفكارهم والأخبار التي تهمهم على مواقعهم المفضلة.
الصحافة بلغتين
حول اللغات المستخدمة في عالم الصحافة قال الزبيدي: "تقنية توصيل الخبر بسهولة فتحت الباب إلى محادثة الآخر، الناطق بالإنجليزية أو التي يعتبرها لغة ثانية له. فالعالم العربي يكاد لا يصل إلى الغرب إلا بصورة مشوهة. والكثير منا يذكر حوادث عديدة للقائه بأناس، أثناء السفر مثلا، يرددون أمامه قصصا وصلت عن طريق الإعلام الغربي المتحيز لا يمكن وصفها إلا بسخيفة ومجافية للواقع، ثمة عناصر كثيرة تجمع وتفرق الخبر بالعربية والإنجليزية. فما يصلح للغة العربية لا يصلح بالضرورة للإنجليزية. الخبر بالعربية مليء بالتفاصيل لأن قارئه مهتم بالتفاصيل لكنه قد يتجاوز عن ذكر بعض الحقائق التي تعد من البديهيات في المجال الإعلامي العربي. بينما بالإنجليزية يكون الخبر مكتوبا بطريقة أقل تفصيلا من الناحية الخبرية لكن أغنى بالخلفيات عن الموضوع. وإذ تحفل اللغة الصحفية العربية بالصفات والإطالة، ينبغي أن "يمشط" المحرر الخبر بالإنجليزية ويتأكد أنه يحاكي النمط الغربي في الكتابة والمعالجة".
هذا عدا الفكرة من التوجه نحو الغربي. هل تريد أن تعلمه بما يجري؟ هل تريد التأثير عليه؟ هل بوسعك دفعه لاتخاذ صفك؟
للأسف، لا يوجد رد حاسم على هذا الموضوع. ولكن خبرتنا في هذا الشأن تقول إن أية مبالغة في عرض القضية، عادة ما تنتهي برد فعل معاكس. فالسقوط في مطب الدعاية (البروباغاندا) سهل جدا. ولأطقم صحفية عربية تعودت على الكتابة بصيغة المبالغة والتضخيم والتفخيم، فإن دفعها نحو الموضوعية والكتابة بلغة أبسط ولكن بأثر أكبر وأعمق ليس بالمهمة السهلة. ولعل هذا يفسر إلى حد كبير عدم انتشار الكتاب العرب في البيئة الإعلامية الغربية سواء عبر الكتابة المباشرة أو الترجمة.
الإعلام الإلكتروني
هل يستحق الإعلام الإلكتروني كل هذا العناء؟
من الصعب الرد على تساؤل إن كان الإعلام الإلكتروني يستحق كل هذا العناء بغير نعم. ليس فقط لأن جميع المؤسسات الصحفية التقليدية من تلفزيون وجرائد ومجلات تتسابق إلى إطلاق مواقعها، بل لأنه حقيقة شيء مختلف. هذه الآنية وهذه الحرية وهذا التجاوب وهذه المشاركات وهذه الآفاق التقنية - الفكرية المتداخلة كلها مؤشرات لعصر إعلامي جديد ربما من العبث الوقوف في وجهه. ولا أحد منا يريد أن ينتهي به الأمر كعمال الغزل اليدوي في بدايات الثورة الصناعية ودخول المكننة لصناعة الغزل والنسيج، أو كوراقي القاهرة حين دخلت المطابع في زمن نابليون، أولئك من الأجيال التي وجدت نفسها بلا عمل وخارج حركة الزمن.
فإذا جاز لي أن أوجز ميزات الإعلام الإلكتروني بكلمات فهي:
" انه إعلام ديمقراطي بدرجة لا تقبل الشك.
انه إعلام الآن واللحظة.
انه إعلام يتجاوز كل القيود والمحاذير والرقابة.
انه إعلام مفتوح للجميع.
انه إعلام معرفي شامل.
انه إعلام أقل كلفة وأكثر انتشارا وبلا حدود.
انه إعلام أكثر عملية وتوافقا مع تعقيدات الحياة المعاصرة.
انه إعلام قد يبدأ بصفحة هي واجهة المبنى، إلا إن طوابقها يمكن أن تكون أعلى من ناطحة سحاب".