فن الترجمة

إستفتاء (3): هناك طريقة روبان الثالثة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

استفتاء:
كيف يترجم الشاعرُ شاعرا

يكاد أن يُجمع جل المترجمين العرب على مقولة صلاح الصفدي، كما وردت في كشكول العاملي: "للترجمة في النقل طريقتان إحداهما أن يُنظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات الأجنبية وما تدل عليه من المعنى فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه... الطريق الثاني: أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويُعبّر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها".
بصفتك شاعرا ومترجما في آن:
أولا: أتعتقد أن هناك طريقة ثالثة، ما هي، وأيٌّة هي الأفضل في نظرك، لإنجاز ترجمة ناجحة؟
ثانيا: ألا تعتقد أن ترجمتك لشاعر ما قد تؤثر على قولك الشعري diction، ثم ألا تخشى أن يؤثر الإكثارُ من الترجمة في أسلوبك الخاص؟
ثالثا: يقينا أنك تترجم شعرَ الآخر لإفادة القارئ العربي... لكن هل ثمة دافعٌ (شخصي – شعري) غير هذه الخدمة الثقافية، يدفعك إلى ترجمة هذا الشاعر وليس ذاك؟
رابعا: كيف تأتي إلى الشعر المراد ترجمته - هل تستفيد مما كتب من دراسات عن هذا الشعر وصاحبه..؟
خامسا وأخيرا: كتب عبد القادر الجنابي في العدد الثاني (2001) من مجلته "ارابويتيكا" الفرنسية ما يلي "الشعر العربي المعاصر مدين إلى ما تراءى من نماذج عبر ترجمات مجلة "شعر" أكثر مما هو مدين للإنتاج الأدبي العربي الحديث نفسه"... ما رأيك في هذا التصريح؟

3- إسكندر حبش: هناك طريقة روبان "الثالثة"

ج1- قبل الحديث عن طريق ثالث، اسمحوا لي بأن أشير إلى أمر أساسي، شخصي، أجده قد لعب الدور الحاسم في تكويني الثقافي. صحيح أنني أكتب بالعربية، لكن تكويني "المعرفي" كان ينتمي إلى ثقافات أخرى، ولعل أبرزها الثقافة الفرنسية. مثلما هو معروف، يتيح لنا النظام التعليمي في لبنان، دراسة اللغة الفرنسية وآدابها منذ دخولنا إلى المدرسة، من هنا، وجدت نفسي ضمن إطار هذه الثقافة بكل تجلياتها، كذلك كانت الطريق إلى اكتشاف آداب أخرى وكتاب آخرين. إذ لا نستطيع أن ننفي بالطبع قلة الأعمال المترجمة إلى العربية من لغات لا نزال نجهل عنها الكثير.
لم أبدأ فعلا بقراءة الأدب العربي، وبشكل جدي، إلا في مرحلة متأخرة من شبابي. حين قررت أن أكتب، حسمت خياري بالكتابة باللغة العربية، إذ لم أقتنع بجدوى الكتابة بلغة أخرى في محيط عربي، مع العلم أنني لست أبدا ضد الكتاب "الفرنكوفونيين"، وبخاصة العرب منهم. قلت يومها، لا يجوز لي أن أكتب بالعربية، وأن أدعي بأني كاتب، من دون الإطلاع الحقيقي على آداب هذه اللغة.
ما أريد أن أقوله، إن هذه النقاشات العربية في الثقافة وحولها، لم تشكل أساسا فعليا لهذه النظم العقلية التي تربيت عليها، دائما كنت أشعر أنني أجيء من مكان آخر. إذا، مقولة صلاح الصفدي، لم تكن مطروحة يوما، بهذا الوضوح والتبسيط، في صوغي لمفهوم الترجمة، بالأحرى لم يكن "الفكر العربي" جزءا من الثقافة التي تربيت عليها (ولست نادما البتة، لا تعرفون كم أنا سعيد بذلك).
ربما، تجد طريقتي في الترجمة، صداها، في السؤال الذي طرحه ذات يوم الشاعر والمترجم الفرنسي "أرمان روبان". تساءل روبان ذات يوم بالقول "ما معنى الترجمة"؟ واعتبر، كجواب، هذا العمل "بمثابة طريقة أساسية في مواجهة الذات". ولعل أوضح اعتراف قاله روبان في الصفحة السابعة من مقدمته لكتاب "أربعة شعراء روس" (الذين ترجمهم إلى الفرنسية – منشورات "Le Temps qu'il fait " )، يقول: "برهبة أقدم هذه الأشعار الروسية التي ترجمت فيها نفسي".
هل بهذا المعنى تشكل طريقة روبان "الطريق الثالث" الذي يطرحه سؤالكم؟ هكذا أفهم الترجمة، وبخاصة الترجمة الشعرية، بالأحرى، أستطيع القول إنني أميل إليها. من هنا، أترك الصفدي وشأنه. هي نظرية من هذه النظريات، لم أتوقف عندها، وإن كان لها معادل في ثقافات ولغات أخرى.

ج2- أعتقد أن القراءة هي التي تشكل انحيازنا إلى أسلوب خاص بنا. هذه التجارب المتراكمة هي التي تأخذنا، إلى مواقع نجد أنفسنا فيها، وقبل الترجمة بكثير. ربما كنت من أولئك الذين ينتمون إلى هذه الفئة: كتبت لأنني قرأت، ومن ثم فكرت بالترجمة. ومع ذلك، لقد علمتني الترجمة الكثير من الأمور، لعل أبرزها، حذف هذا الإطناب السائد في الشعر العربي، التخلي عن هذه اللغة المنتصرة على الدوام. علمتني كيف أتواجه مع لغتي، كيف أتجنب اللجوء إلى الصيغ العربية المتواترة. في أحد نصوصه النثرية، يقول إليوت ما معناه بأنه علينا أن نعيد ترجمة القصيدة ذاتها كل عشر سنوات. أعتقد أنه كان يشير إلى تطور اللغة، وإلى أن ثمة كلمات مستعملة في حقبة معينة، تسقط في فترة لاحقة. علمتني الترجمة بهذا المعنى، كيف أسقط الكثير من العبارات الجاهزة، كيف أبحث عن بديل أكثر معاصرة للحقبة التي أعيش فيها. هل تجدون أن كلامي هذا يشكل اعترافا بأن الترجمة أثرت على قولي الشعري؟ لا بأس إن أردتم. لا يعنيني كثيرا أن أكون شاعرا عربيا، وأستعمل الكلمة بالمعنى التي استعملها عبد القادر الجنابي في كراس شعري صدر عن منشورات "النقطة"، بباريس، في ثمانينيات القرن المنصرم تحت عنوان "قصائد غير عربية".

ج3- لم تكن الترجمة، تشكل لي، في يوم من الأيام، مهنة بحثت عنها أو عملا رغبت في الاعتياش منه. أترجم ما أحبه، ما أجده يثير فيّ العديد من الأسئلة. لأقل أيضا أترجم ما يمنحني نوعا من النشوة، ولأني أحب أن أدعو أصدقائي لمشاركتي في متعتي، ولا أملك سبيلا إلى هذه الدعوة غير الترجمة. بشكل عام لا أترجم إلا الأشياء التي أحبها. أشعر بأنها - (هذه الأشياء)- تشكل جزءا مني. لاعترف: تعجبني بعض الكتب وبعض القصائد، وحين أرغب في ترجمتها، أشعر بأنني أريد أن أكون كاتبها لا مترجمها، لأقل أيضا، إنها القصائد والكتب التي لم أستطع كتابتها، وبما أنها صدرت بلغات أخرى، أعيد كتابتها بالعربية.من هنا لا أستطيع أن أترجم كل شيء. لست مترجما محترفا بهذا المعنى.

ج4- بالتأكيد أعود إلى أكثر من النص الذي أرغب في ترجمته. أحيانا أقرأ الشاعر بعدد من اللغات، لأرى كيف تم نقله إليها. بهذا المعنى، قد أكون أفهم الترجمة، كأنها نوع من التأويل. أقرأ هذه التأويلات المتعددة، وإن كنت أعتمد في النهاية على فهمي الخاص للموضوع. سأسمح لنفسي بالتحدث عن موضوع شخصي. في بداية التسعينيات، قرأت شاعرا بترجمة فرنسية، كنت أكتشفه للمرة الأولى. فصممت بداية على دراسة لغته، لأقرأ نصه باللغة الأصل. مضى اليوم خمسة عشر عاما وأنا أقرأ أعماله، وأنا أقرأ العديد من الكتب التي صدرت عنه، وأنا أقرأ تاريخ بلاده الأدبي. وقد ترجمت له مجموعة كبيرة من القصائد، سيصدر جزء منها في كتاب، قريبا. وهي الترجمة الأولى، للعربية، عن اللغة الأصلية. لقد تُرجمت بعض قصائده إلى العربية، لكنها كانت تأتي عن لغات أخرى وسيطة.
من دون شك، تتيح لي المراجع، إدراكا أكبر للمادة الشعرية التي بين يدي، لكن هذا لا ينفي ارتكابي لعدد كبير من الحماقات المتمثلة في ترجمتي لقصائد لا أعرف عن صاحبها شيئا. فقط تعجبني في مجلة أو في "أنطولوجيا"، وتكون جريمتي مضاعفة، حين أترجمها عن لغة وسيطة. وأقول لنفسي عندها، لا بأس، ربما يسامحني شغفي عما ارتكبت.

ج-5 بمعنى من المعاني اقترب أنا شخصيا مما قاله عبد القادر، وإن كنت قرأت هذا الشعر المترجم في "شعر" ببعض لغاته الأصلية، أكثر مما قرأت الشعر العربي. لغاية الآن أشعر "بضيق" من قراءة كل الشعراء العرب، قلة الذين يشدوني. لكن ليس معنى هذا أن كل الشعر الغربي هو شعر عظيم ويستحق القراءة. ثمة شعراء أتعس بكثير من "بريد القراء" عندنا.
على كل، رأي عبد القادر، موقف نقدي، وهو حقيقي، بمعنى أن الكثير ممن اصطلح على تسميتهم بالرواد (في القصيدة العربية المعاصرة) لم يقدموا شيئا يذكر، سوى تشويه النظريات الغربية التي أخذوا منها. المشكلة هي دائما نفسها: هذه التوفيقية مع "خزعبلات" العالم العربي بشقيّه، الديني والسياسي. بالتأكيد لعبت الترجمات في مجلة "شعر" – كما في غيرها من المجلات اللاحقة – في تحويل الذائقة الشعرية العربية. وربما كان هذا أفضل. ربما لأن جزءا لا يستهان به من الشعر العربي الحديث، لا يزال لغاية الآن- وعلى الرغم من مرور العقود على "إنجاز" الحداثة "الأولمبية" العربية – لم يستطع تحطيم كل الأرقام القياسية، بالأحرى لم يشارك بعد في كل السباقات والألعاب التي تقترحها علينا دورات الألعاب الأولمبية.

يتبع

1- سهيل نجم: ترجمة الشعر بين الاستحالة والأثر

2- سركون بولص: الترجمة الشعرية وسحر الإيصال

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف