العرب وعقلية التدمير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يقول آر. جي كولنغوود أن الأحداث التاريخية المتعاقبة التي يسردها المؤرخون هي الجز المرئي من النشاط البشري عبر التاريخ وهو نتيجة للنشاط الفكري الذي يعتبر القوة الدافعة للأحداث التاريخية. لذلك فكل التاريخ هو عبارة عن تاريخ الفكر. (الترجمة من الإنكليزية بتصرف). وعليه، فما يجري في عالمنا اليوم على أيدي الإرهابيين العرب من فضائع هو نتيجة للأفكار التدميرية التي تغلغلت في تلافيف أدمغة شريحة واسعة من العرب، تحولوا إلى أدوات للقتل والتدمير بدلاً من البناء والعمران والسير في ركب الحضارة البشرية والتعايش مع العالم بسلام وانسجام.
إن عقلية التدمير هي التعبير الآخر للسادية، مرض عضال يجد المصاب به سعادته بارتكاب الجرائم والتلذذ بقتل وتعذيب الآخرين. ويبدو أن هذه النزعة العدوانية متوارثة في البلاد العربية عبر الأجيال منذ الجاهلية الأولى وإلى يومنا هذا حتى صارت جزءً مهماً من ثقافتنا الاجتماعية الموروثة culture ، نعتز ونتغنى بها ليل نهار على أنغام الموسيقى، فكلنا يتذكر صوت أحمد سعيد وهو يلعلع من إذاعة صوت العرب (أمجاد يا عرب أمجاد!!). ولم يستطع الإسلام تخليص القبائل العربية من التقاليد والأعراف الجاهلية، بل بقيت هذه التقاليد واكتسبت قوة القداسة دينية.
إن ثقافة الموت والعنف هذه ورثناها من السلف منذ أكثر من 15 قرناً متمثلة بقول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم:
إذا بلغ الفطام لنا رضيع
تخر له الجبارة ساجدينا
ومروراً بالمتنبي الذي قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
والجواهري الذي قال: وطن تشيده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهدم
والشاعر البعثي سليمان العيسى الذي قال:
ولما سلكنا الدرب كنا نعلم
إن المشانق للعقيدة سلم
وهكذا بقينا نراوح ثقافياً في مكاننا منذ العهد الجاهلي وإلى الآن دونما تغيير يذكر. فمهما تغيرت الأزياء والمظاهر الخارجية، من البداوة إلى الحضارة فالجوهر هو ذاته. فقد ربطنا معاني الشرف والقيم والاخلاق والعقيدة وبناء الأوطان بالعدوان والدم والمشانق والجماجم...دم ..دم ولا شيء غير الدم. أوطن هذا أم مجزرة؟ وما قيمة الأوطان إذا ما تحولت إلى أهرامات من جماجم شعوبها؟ وماذا نتوقع من شعب أن يكون هذا هو غذاءه الفكري والروحي من المهد إلى اللحد؟ أليست هذه هي القيم البدوية منذ العهد الجاهلي ولحد الآن؟ ولماذا يريد العرب ذبح العراقيين؟ ولماذا يرفضون تسمية ضحايانا بالشهداء أسوة بضحايا العدوان في كل مكان؟ ولماذا يسمون الإرهابيين في العراق مجاهدين وفي بلدانهم إرهابيين؟ فإلى أين تقود هذه العقلية ومتى ينتبه (الأمجاد ياعرب أمجاد)؟
لقد أدمن العرب على ثقافة الموت والعنف وكراهية الآخر ولذلك لا نستغرب إذا صاروا أشد الناس عداءً للأجانب والادعاء في احتكار الحقيقة وإلغاء الآخر. السبب هو لأنهم لا يقرأون إلا كتب السلف وهم أقل الناس في العالم قراءةً للكتب التنويرية الحديثة وخاصة الإطلاع على ثقافات الشعوب الأخرى، بل يكرهون الكتب وشعارهم (السيف أصدق أنباءً من الكتب). ولهذا السب هناك كساد في عالم الكتب في البلاد العربية. فالكاتب العربي وحتى المحترف، لا يستطيع العيش على نتاجه الفكري كما يعمل نظيره في الغرب. فأشهر روائي عربي مثل نجيب محفوظ قضى معظم حياته موظفاً صغيراً في الدولة ليكسب معيشته إلى أن تكرمت عليه لجنة جائزة (نوبل) في شيخوخته. وحتى في شيخوخته هذه لم يسلم من محاولة الاغتيال على أيدي حملة الفكر الظلامي.
ففي بداية القرن العشرين وعندما كان تعداد كل الشعوب العربية لا يتجاوز 28 مليوناً، وأغلبهم أميون، كان الناشر يطبع حوالي ألفي نسخة من كل كتاب جديد. وبعد مائة عام ورغم الانفجار السكاني حيث بلغ تعداد العرب الآن حوالي 300 مليون نسمة ورغم انتشار المدارس وتقلص الأمية إلا إن نشر الكتاب العربي بقي في حدود ألفي نسخة.
نعم الأحداث هي التعبير المرئي عن الأفكار. يدعي البعض أن المنفذين للعمليات الإرهابية هم أقلية يحاولون تشويه سمعة العرب والمسلمين، ولكن لو تأملنا جيداً وتغلغلنا في أعماق المجتمع العربي وتصفحنا ما يكتبه المثقفون العرب، علمانيون أو إسلاميون، وما تكشف عنه استطلاعات الرأي لوجدنا أننا أمام فضيحة كبرى وهي أن أغلب العرب يتعاطفون مع الإرهابيين فيسمونهم مجاهدين ويباركون لهم أعمالهم الإرهابية ويسمونها جهاداً ومقاومة. فالمجازر المستمرة في العراق ضد شعبه هي جهاد في سبيل الله. والجريمة المروعة التي ارتكبتها جماعة المجرم الأردني أبو مصعب الزرقاوي والتي أودت بحياة أكثر من 45 عراقياً بينهم 37 طفلاً وحوالي مائتي جريح في حي العامل غربي بغداد يوم 30/9 المنصرم يعتبرونها مقاومة وجهاداً في سبيل الله وباسم العروبة والوطنية والإسلام ويتعاطفون حتى مع قطع رقاب المختطفين من المدنيين الأبرياء. أقول ذلك ليس بدافع العاطفة أو المبالغة، بل إليكم بعض الأرقام التي تكشف فقط غيظاً من فيض من العقل العربي.
فقبل أيام قامت قناة (الجزيرة) باستفتاء مشاهدي برنامجها (الرأي المعاكس)، أعلن حوالي 96% من المصوتين تأييدهم للمجازر التي يرتكبها الإرهابيون العرب في العراق. فإذا كان هذا الرقم صحيحاً فهو يكشف عن بؤس الفكر العربي وإذا كان غير صحيح فيفضح الإعلام العربي في نشر الكذب والتضليل، خاصة قناة الجزيرة التي يشاهدها أكثر من 50 مليون عربي حسب بعض التقديرات. وأنا أميل إلى تصديق الرقم لأن هناك أرقاماً أخرى لا تختلف كثيرا في إعطاء صورة بائسة عن استفتاء الجزيرة عن موقف العرب مما يجري في العراق. فهذه صحيفة إيلاف الإلكترونية أجرت استفتاءً لقرائها للإجابة على السؤال: هل قطع الرؤوس في العراق من أعمال المقاومة؟
فجاءت الإجابات من مجموع الذين صوتوا 15435 (لحد كتابة هذه السطور مساء 2/10) كما يلي:
نعم 52.4%، لا 44.5% ولا أدري: 3% . ومعنى هذا أن أكثر من نصف العرب يؤيدون الأعمال البربرية في العراق. فلو اطلعت الشعوب الديمقراطية المتحضرة على هذه النتائج لاعتبرتنا من الشعوب المريضة نفسياً أي سابيكوباثيين Psychopath .
وفي استفتاء آخر لإيلاف أيضاً على سؤال: أتعتقد أن ج ل المفكرين العرب أداة طيعة بيد الأنظمة الحاكمة ؟ فكان الجواب: نعم: 84.7%، لا 14.8، لا أعلم 0.5% ، مجموع المصوتين: 772. فهذا هو وضع الفكر العربي والمثقف العربي.
ولِمَ الاستغراب من هذا التدهور الفكري، فرجال الدين هم الذين يسيطرون على كل مقدرات الفكر في البلاد العربية، وهم الذين يقررون ما نقرأ وما نكتب، فالإبداع عندهم بدعة صاحبها في النار، والفن حرام والرياضة مضيعة للوقت والويل لمن يعترض عليهم، فسيف الفتوى والتكفير جاهز لقطع الرقاب وحرق الكتاب، ناهيك عن تسلط الحكومات العربية على حرية التعبير، مما أرغم جل رجال الفكر أن يصيروا أداة طيعة بيد الأنظمة الحاكمة كما كشف استطلاع الرأي أعلاه. ولهذا السبب نرى خيرة المفكرين العرب أما فروا بجلودهم وفضلوا العيش في المنافي حفاظاً على حياتهم وكرامتهم وشرف الكلمة ليرسلوا إشعاع الفكر التنويري للعرب من منافيهم، أو آثروا الصمت والعزلة درءً للمخاطر.
الفكر العربي منحط بشهادة تقرير الأمم المتحدة الذي أكد فيه أنه في الوقت الذي " يمثل العالم العربي 5 % من سكان العالم لكنه ينتج حوالي 1 % فقط من الكتب بينما ينتج ثلاث ة أضعاف الكتب الدينية التي ينتجها العالم . وإذا ما عرفنا أن معظم هذه الكتب الدينية هي سلفية تحريضية تحقر الحياة وتمجد الموت وتثير الكراهية ضد الديانات الأخرى والشعوب الغربية وثقافاتها وأننا وحدنا خير أمة أخرجت للناس، لعرفنا مدى تأثير هذه الثقافة على تشويه العقل العربي وقيادة الشعوب العربية إلى هذا المصير المأساوي.
إن معظم المثقفين العرب، إسلاميين أم علمانيين لا فرق، ساهموا بشكل وآخر في دفع الجيل الحالي إلى الإرهاب. ولا يختلف في ذلك المثقف الشيوعي مثل سعدي يوسف أو القوماني عبدالباري عطوان أو الفقهاء الإسلاميون مثليوسف القرضاوي وفضل الله وغيرهم. فكلهم حرضوا وأفتوا وما زالوا يحرضون على قتل العراقيين وتدمير مؤسساتهم الاقتصادية بحجة مقاومة الاحتلال الأمريكي. فكما أشار الشاعر والكاتب العراقي الأستاذ عبدالقادر الجنابي في إيلاف عن فضيحة معرض فرانكفورت للكتاب، حيث دعوا إليه من يتعاطف مع النظام الفاشي البعثي الساقط ويحمل العداء لبناء الديمقراطية وإعمار العراق. وعلى رأس هؤلاء سعدي يوسف الذي سقط في حضن عبدالباري عطوان مسخراً قلمه في تمجيد الإرهاب في العراق.
سعدي يوسف هذا والمصاب بداء (رجوع الشيخ إلى صباه) كما وصفه الشاعر عواد ناصر، نشر مقالة قبل سنوات في صحيفة عربية تصدر في لندن، يشتم فيها العراقيين في بريطانيا ويعيِّرهم لأنهم يقيمون في بلد استعماري ويستلمون المساعدات الاجتماعية. وبعد تلك المقالة بأسابيع قدم هو طلب اللجوء والمساعدات الاجتماعية في لندن "الاستعمارية" وحصل على ما يريد. وسعدي يوسف صار هو شاعر "المقاومة الباسلة" في العراق. هذا نموذج من مثقفينا العلمانيين.
فما الفرق بين هؤلاء المثقفين وعقلية الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي؟ فالزرقاوي يقتل الأطفال العراقيين بالعبوات الناسفة ورشقات الرصاص وسعدي يوسف وأمثاله يقتلون العراقيين بتحريض الإرهابيين وتمجيد أعمالهم وحثهم على مواصلة القتل والتدمير.
وإزاء هذا التضليل الذي يقوده المثقفون العرب، لا نعتب على الجماهير العربية المضللة وهي في حالة بلبلة فكرية والتي صارت تعادي من يريد لها الخير ومساعدتها على الخروج من هذا التخلف، صارت تتعاطف مع الإرهابيين وتعتبرهم مجاهدين باسم الله. فمن المؤلم والمحيِّر أن ترى أباً عراقياً مفجوعاً بقتل طفله، وبدلاً من أن يصب جام غضبه على المجرمين الزرقاويين الذين اعترفوا بمسؤوليتهم عن الجريمة المنكرة واعتبروها نصراً جهادياً ضد "المتعاونين مع الكفار"، راح الأب المفجوع يصب غضبه على الأمريكان متهماً إياهم بأنهم هم الذين فجروا العبوات الناسفة لقتل العراقيين. فكيف تقنع هذا الأب المنكوب؟ من هنا نعرف أن عقلية التدمير المهيمنة على العرب راحت تفعل فعلها المدمر، أشبه بالتفليق الذري، يمر عير سلسلة من الانفجارات المدمرة.
خلاصة القول، مهما كانت الصعوبات التي يواجهها الشعب العراقي بعد خلاصه من الفاشية البعثية، فإنه لا بد وأن ينتصر ويستعيد عافيته ويبني نظامه الديمقراطي المنشود. أما الشعوب العربية فهي مهددة بكارثة لا تبقي ولا تذر وهي تحث الخطى نحو الهاوية كنتيجة حتمية لهيمنة عقلية التدمير والانفجار السكاني ولن أرى في الأفق أي أمل من الحكومات العربية لأخذ أي إجراء صارم للحد من هاتين المعضلتين في المستقبل المنظور.
مقالات ذات علاقة:
عبدالقادر الجنابي: هل سيقاطع العراقيون معرض فرانكفورت للكذّاب
http://www.elaph.com/ElaphWriter/2004/9/12310.htm
عزيز الحاج: فرانكفورت وانحطاط الثقافة العربية
http://www.elaph.com/ElaphWriter/2004/10/13288.htm
ينشر بالتزامن مع عراق الغد