البنية الفوقية والبنية التحتية: المفاهيم المستترة والمعاني الحقيقية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مقدمة لابد منها
تسلمت قبل يومين فقط، رسالة من شخص مجهول يريدني ان اخصص بعض المقالات لتوضيح معاني بعض المصطلحات الشائعة فضلا عن المفاهيم والمفاهيم ذات التضاد التي يزداد اللغط العربي حول مدلولاتها ومضامينها الحقيقية نتيجة استخدامات عربية خاطئة لها من قبل بعض كتابنا ومفكرينا ومثقفينا العرب وحتى البعض من ذوي الاختصاص – ويا للاسف الشديد - الذين هم من ابعد الناس عن التحّري والتوغل في الثقافات الحية والتمحيص من خلال الموسوعات والمعاجم والانسكلوبيديات.. ولكن الغريب ان يختتم المراسل رسالته بمصطلح طالما استخدمه الحزبيون المتأدلجون في القرن العشرين، وكأن مثل هذه المصطلحات والمفاهيم لا يستخدمها الا اصحاب فلسفات وايديولوجيات وثقافات معينة.. وهذا يعني من قريب او بعيد ان ثقافتنا العربية تعيش ضيقا شديدا في التكوين وعتمة مظلمة في الرؤية، بحيث يعتقد الناس ممن لا يدركون ما الذي جرى في السنوات العشر الاخيرة من القرن العشرين ان من يستخدم مثل هذه المفاهيم الحديثة كان قد فقد كل اصوله ومواريثه وكل وجوده واصالته وغدا لا يلتصق الا بالثقافة الغربية المعاصرة التي اضحت عدوا لدودا حتى لمن يسمون انفسهم بمثقفين ومفكرين عرب!
نحن العرب وثقافات الاخرين!
ومن المضحك المبكي ان العرب والمسلمين قاطبة لا يمكنهم البقاء في مثل هذا الزمن الصعب المعقّد على قيد الحياة لساعة واحدة من دون معطيات الغرب ومنتجاته ومصنوعاته وابتكاراته وادويته ومكتشفاته واجهزة اتصالاته ومعارفه في كل مناحي الحياة واولها هذا الاعلام العربي الذي لم تحركه الا ثورة الستالايت والمعلومات والاتصالات الحديثة عبر الاقمار السابحة في الفضاء! ومن اوهى التفكير وسذاجته عند التقليديين والسلفيين والاصوليين وحتى الشوفينيين والمتطرفين والمتعصبين.. ما كنا ولما نزل نسمعه حتى هذه اللحظة اننا لابد ان نأخذ ما يفيدنا ونترك ما يضرنا.. واذا ما سألت عما يضرّ اجابوك : ثقافة الغرب التي لا يحصرونها الا في المرأة والجنس والعيب والشرف اي فقط في العادات والتقاليد.. من دون اي اهتمام بما تتضمنه الثقافة الغربية من فلسفات وادبيات ومذاهب نقدية ومسرحيات وموسيقى وروايات واشعار وقوانين ومناهج وتربويات واساليب عيش وفولكلوريات وكلاسيكيات وابداعات تشكيلية ومهرجانات وكرنفالات وفنون واصول معاملات واحترام زمن ومواعيد وحسن تصرف وجودة اداء ومنح شهادات وخبرات.. الخ
وهنا، فأنا متأكد بما لا يقبل مجالا للشك ان مجموعات وكتل واسعة ستتهمني أنني من المعجبين بالثقافة الغربية والمندهشين بها والمناصرين لها.. وهي تهمة اصبحت ممجوجة كاسهل وسيلة تلصق بكل من يريد اصلاح الامة على اسس الانفتاح بين الثقافات واستمزاج الخصال، علما بأن الشيخ المصلح محمد عبده قال قولته الشهيرة قبل مئة سنة عن الغرب عندما رأى هناك ما لابد ان يجده هنا، ووجد هنا ما لم يره هناك.. من دون ان تفقده منزلته كمفتي للديار المصرية! وعليه، دعوني اقدم في هذا " المقال " بعض المعاني الحقيقية لما يحتاجه تفكيرنا العربي المعاصر، وخصوصا هذا الذي يعشش في عقول متحجرة لدى بعض كتابنا ومثقفينا من الذين يستعرضون عضلاتهم تحت مسميات وصفات المثقفين والمفكرين، وهم ابعد ما يكونوا عن فهم ابسط المفاهيم التي نجدها في المراجع القريبة فهي من مستحدثات الغرب شئنا ام ابينا..
سبب غيبوبة المعاني الحقيقية
ولعل السبب الذي يجعل مثل هؤلاء الناس يحجبون انفسهم عن معرفة المعاني الحقيقية، انما يتمثل بكراهيتهم غير المبررة للثقافات الاخرى تحت حجج ودعاوى مختلفة.. ناهيكم عن خطورة الدور الذي يمارسه هؤلاء وهم كثر في تغييب الوعي عند الجماهير وخداع الناس وتضليل افكارهم باسم شعارات واهية وافكار غير حقيقية بحجة الاصالة بعيدا عن المعاصرة وما شابه ذلك! فتجد شبابا متفتحا ولكن بحاجة ماسة الى النضوج وقد غرست في تفكيره مفاهيم خاطئة او انه لا يريد ان يدرك المعاني الحقيقية بسبب بقائه وبقاء تفكيره متحجرا لا يتقبل للنصح ولا لتغيير الافكار.. او انه اذا سمع مفهوما جديدا، فلا يريد ان يقنع نفسه بما يخالف تفكيره وما غرس في ذهنيته من رسوخات من الصعب جدا تحويله عنها ويا للاسف الشديد.. فالمحنة اليوم قاسية جدا وخصوصا لمن يدرك ما الذي حل بالثقافة العربية اليوم التي تعتبر نتاج مرحلة تاريخية صعبة جدا شغلت امتداد النصف الثاني من القرن العشرين بكل مؤثراتها السياسية وانعكاساتها الايديولوجية وممارساتها الشوفينية والعصابية والتراجعية والتواكلية.. وكلها عززت فرص التخلف والانغلاق والبلاء بديلا حقيقيا عن التقدم والتنمية والنماء..
دعوني اذن احلل في مقالي اليوم مسألة ازعم انها في غاية الاهمية من اجل تخصيب التفكير بثمة معاني جديدة حول مفاهيم سادت من دون اي وعي وادراك بها.. وساتناول اليوم مسألة ( البنية الفوقية والبنية التحتية ) في كل من الدولة والمجتمع، وأعد القراء الكرام، انني ساحلل لاحقا مفاهيم متقابلة أخرى باتت اليوم بحاجة ماسة الى ان تدركها الاجيال الجديدة كونها ستنفض عاجلا ام آجلا ايديها من كل ترسبات وبقايا ما خلفته الثقافة العربية في القرن العشرين بكل تداعياتها المريرة.
موضوع " البنية الفوقية والبنية التحتية "
انه واحد من اهم الموضوعات التي لابد ان يعتني بها العرب ومن يشاركهم عالم الجنوب بمصطلح التقسيم المعاصر. لقد كنت قد قدمت قبل سنتين محاضرة اكاديمية في هذا " الموضوع " في مركز دراسات التنمية الاجتماعية بجامعة كيل، ونشرت في اكثر من مكان، ولما لم ازل اجد بأن الحاجة ماسة والضرورة قائمة لمعالجة هذا " الموضوع " عربيا، فانني ساعالجه ثانية على ضوء الملاحظات والحوارات التي جرت حوله وقت ذاك.. كما انني أجد بأن حياتنا الثقافية والاكاديمية والمهنية العربية لم تزل لم تراع هذا الجانب في صناعة القوى البشرية العربية مقارنة بما نشهد حصوله وبنتائج باهرة في بلدان ومجتمعات ودول اخرى.. لا تعتني ببنيتها التحتية حسب، بل انها تعتني قبل كل شيىء ببنيتها الفوقية التي من خلالها تحافظ على توازنها الاجتماعي والسياسي وتكافؤ الفرص المهني والعملي والوظيفي بين ابنائها وتستثمر قدراتها في بناء تقدمها وتطورها وازدهارها. فكيف نقّرب الرؤيا عربيا حتى يمكن لاكبر عدد من الناس استيعابه وتمثّله؟؟
استهلال: النموذج السائد
ايام كنا طلابا في جامعة الموصل قبل ثلاثين سنة، كنا عصبة عصية على الانقياد من خلال تساؤلاتنا وتعليقاتنا وحتى نقداتنا الساخرة.. نلتهم الكتب التهاما والتنافس بيننا على اشده ضمن وسائل متنوعة، دخل علينا استاذ شاب وهو محاضر جديد كان قد تخّرج حديثا جدا في بغداد وهو مزهو بذاته كونه قد حصل على الماجستير في تاريخ المماليك بالعراق وقد نمق نفسه ودهن شعره وجهد بحمل حقيبته السامسونايت، فوددنا اختباره منذ الحصة الأولى قبل ان يختبرنا كي نتعرف عليه قبل ان يتعرف علينا.. بدأ محاضرته مثرثرا عن نفسه وسفراته ومغامراته وحياته الشخصية بلهجته الفجة القحة! فجرت بيننا طلبة وطالبات محادثة صامتة ساخرة كاملة من خلال استراقنا النظرات لبعضنا الاخر، سأله احدنا سؤالا ماكرا: ما هي الحضارة وهل نحن متمدنون؟ اجاب بلا تفكير: الحضارة هي البنايات الشاهقة والشوارع العريضة والأضواء الملونة التي نراها في الليل.. واردف يقول : طبعا نحن دخلنا المدنية من اوسع ابوابها لان عندنا عمارات وطرقات ونركب سيارات فارهة ونستورد أغذية ومعلبات ونعيش في بيوت مريحة.. الخ ثم رجع ليحكي لنا مغامراته ويتفاخر بذاته البهلوانية.. لقد انطلت على البعض احجيته، في حين سخر الاذكياء من كلامه حتى سماه زملاؤه بالحنقباز ( ومعناها بالعراقية : البهلوان ) فعاجلته معلقا لاقول: هذه ليست بنى تحتية حقيقية، فالتحضر عملية تاريخية معقدة تبدأ بصناعة البنى الفوقية المنتجة التي يمكنها ان تبدع في صناعة البنى التحتية، هكذا قال الفلاسفة المحدثون. لم يحر جوابا، فقال بعصبية متشنجة: انا لا افهم ما تقول من مصطلحات.. دعوكم منها.. تحتية وفوقية عيب هذا الكلام! فضحكنا منه وعليه. ولما وجد نفسه هزيلا بدأ يتّقرب من طلبته الاذكياء ليعينونه على القاء محاضرته الرثة وتصويب لغته الفجة والقاء معلوماته الصحيحة وحتى تعليمه كيف يكتب بحثا او مقالة! ولما مضت سنوات طوال صادفته في احدى الجامعات العربية، فوجدته بهلوانا ثرثارا كما كنت قد تركته قبل ثلاثة عقود من الزمن، بل ربما اتعس حالا لأنه لم يقرأ كتابا واحدا ولكنه قد حمل الدكتوراه من مصر ونال الاستاذية من العراق وغدا رئيسا لقسم اكاديمي، بل واصبح مثقف سلطة على العهد السابق وغدا من اصحاب المناصب الدبلوماسية وهو لا يدرك معاني ابسط المصطلحات! ومن عجائب هذه الامة ان يكون الاغبياء امثال هذا قد سادوا في اماكن الاكفاء على امتداد العقود الزمنية الاربعة الماضية في بلدان عربية عديدة! لقد اتيت بهذا المثل عن نموذج يمثل شريحة كبيرة تحتل غصبا وبالقوة وبالوساطة والعلاقات الشخصية والمحسوبيات والمنسوبيات مواقع البنية الفوقية في المجتمع وهي اخطر مكان يمكن ان يوّجه منه مصير الامة كاملة!
هل نجح العرب في بنياتهم التحتية?
نعم، هذا النموذج الذي حدثتكم عنه هو واحد من مربي مجتمع لم يكن في طور النمو حسب، بل في مرحلة التنمية وهي اخطر بكثير من طور النمو.. نعم، انه نموذج أسوة بعشرات بل مئات وآلاف النماذج المهترئة، وكان هذا الانموذج ولما يزل يحيا حتى اليوم بمثل هذه الأفكار الغبية وقد تخرج جيل كامل على يديه في الجامعات العربية.. فإذا ما سألناه اليوم: ما هو الفرق بين البنيتين؟ تلعثم او ثرثر او زاغ نظره قليلا كي يخترع من عنده أحجية بليدة وتافهة لانه لا يعلم ولأنه لا يقرأ ولأنه بالأحرى لا يفقه، ولكنه غدا - ويا للأسف - واحدا من الذين يعتمد عليهم في صناعة قرارات او التمثيل في مؤتمرات وبعثات ودبلوماسيات.. وببساطة، انه ضحية واقع عمره اكثر من خمسين سنة لم يفرق عمليا بين البنيتين التحتية والفوقية، والسبب، ان كلا من الدولة والمجتمع لم يعتنيا بما هو فوقي أبدا، وانما اعتنيا قليلا بما هو تحتي فقط! وحتى هذه البنية التحتية العربية نجدها مشوهة ومعتلة وغير متكاملة في اكثر البلدان العربية!
اين معنى البنية التحتية؟
فعلا، لقد بنيت العمارات الشاهقة وفتحت الشوارع الواسعة وازدانت بالاضوية الملونة الساطعة، على اعتبار الأخذ بقناعات مثل ذلك الاستاذ الابله! وكأن البنية التحتية تتمثل باستيراد الأغذية المعلبة والسيارات والألبسة وفنادق الدرجة الأولى والأبنية الشاهقة.. الخ وغاب عن العرب تشكيل شبكات سكك الحديد بدلا من تلك الخطوط التي كان المستعمر قد بناها على الارض العربية! وغاب عنهم المنتج الثقيل في التصنيع! وغاب عنهم أيضا ان يعتنوا باريافهم ودواخلهم الجغرافية بارقى المستويات وبنفس القدر الذي يمنحونه للعواصم! وغاب عنهم التخطيط العمراني المتطور لمدنهم العريقة اذ مازالت عشرات المدن العربية في كل من المشرق والمغرب العربيين كئيبة في حالة يرثى لها وكأنها خرجت توا من ظلام العصور الوسطي! وغابت عنهم ايضا صناعات عدة: الارض الزراعية والسياحة الفندقية المتفوقة والخدمات الصحية والبلدية والحدائق والطرق الممتازة، وغابت عنهم صناعة الخدمات المتنوعة وانظمة الاتصالات الحديثة وانظمة المرور والكباري والجسور والسدود والخزانات وسبل الري وهم من اقل البلدان بمياههم.. فشلت ويا للاسف الشديد مشروعاتهم الصناعية الكبرى في ابرز الدول العربية التي بدأت تلك المشروعات منذ عهد بعيد وغدت مصانع كبرى مجرد حديد خردة! هل يصدق المرء ان قرارات سياسية اصدرتها دولة نفطية كبيرة احرقت بموجبها الاف الهكتارات من بساتين الاعناب كيلا تبيع المنتجات الى فرنسا؟ هل يصدق المرء ان يتم في دولة نفطية اخرى تجفيف اهوار المياه العذبة بالاف الهكتارات لاسباب تافهة بدل تطويرها كجزء من البنية التحتية؟ هل يصدق المرء ان بلدان عربية عدة لم تزل تعمل في شوارعها سيارات مهترئة تعود صناعتها الى ايام الخمسينيات؟ واستطيع القول ان دول الخليج العربية لوحدها قد نجحت في بناء بنى تحتية مزدهرة.. ومن جانب اخر غاب عن العرب صناعة الفوقيات من اجل خلق التحتيات سواء في الاعتناء بالانسان المواطن افضل عناية وتشكيله من جديد من خلال النخب الحرة المثقفة والمتميزة والمبدعة وايضا تطبيق التربويات القوية والتعليم رفيع المستوى! نعم، لقد غاب عن العرب تشكيل بنية فوقية في المجتمع حتى يصبح المجتمع العربي له القدرة على مقارنة نفسه ببقية المجتمعات المتقدمة!
معنى صناعة البنية الفوقية والكذبات الكبرى
ولكن من الذي يخلق البنية التحتية في البلاد؟ انه ذاك الذي امتلك البنية الفوقية.. والاخيرة اصعب في تحقيقها من الأولى، لانها غير قابلة للشراء والاستيراد او للاستهلاك الرخيص.. انها باختصار : صناعة للقوى البشرية الفاعلة بما تمتلكه من خبرات وثقافة وتكوينات وتجارب وذهنيات وافكار وابداعات ومنتجات في كل ميادين الحياة العربية وحقولها. ومن نافل القول ان تقرير الامم المتحدة للانماء قد كشف ان كلا من البحرين والامارات قد حققتا اعلى النسب في مجال صناعة القوى البشرية في حين غدت دول عربية كان مشهودا لها بالتفوق البشري درجة تحت الصفر! لقد مرت المجتمعات البشرية المتقدمة بتجارب مريرة وصعبة وهي تتنافس في صناعة كل من بنيتيها، وخصوصا الفوقية فيها ولم تزل حتى اليوم تعمل على جذب الاذكياء في العالم واستقطابهم على عكس مجتمعنا في معظم دولنا العربية المعاصرة كان وسيبقى طاردا للعقول والاذكياء والقوى الفوقية! ومن أنكى التفسيرات الرائجة ان الاستعمار وراء كل هذا وذاك وغاب عنهم بأن كل الخلل العربي انما كان سياسيا داخليا جملة وتفصيلا سواء على مستوى الحكام والزعماء والقادة والمسؤولين العرب المتنوعين الذين اساؤوا بتخلفهم وضيق افق تفكيرهم صناعة قرارات مجحفة ومتخلفة اضرت بمصالحنا الفوقية والتحتية معا..
وماذا ايضا؟
وايضا على مستوى النخب والفئات والاحزاب السياسية العربية التي لم تعرف في تجمعاتها الا الوصولية والانتهازية والمحسوبية والمنسوبية والوساطة والعشائرية والقرابة الاجتماعية والعلاقات الشخصية.. ولم تعرف في خطابها الا الشعارات الجوفاء الاصلاحية او صناعة الاوهام الثورية باسم التغيير والانقلابية والحداثة. كم كذب الساسة والزعماء في اجهزة اعلامهم ودعاياتهم بخلق كذبات كبرى ونسج دعايات و(فبركة) خطابات وبث تزييفات? وكم توهم الناس ان بلدانا عربية اخترقت حاجز العالم الثالث فأصبحت دولا متقدمة؟! والحقيقة غير ذلك ابدا، فهي لم تحقق أية نسبة من التنمية والتقدم في بنيتيها التحتية والفوقية.. فالأمية طاغية على أبنائها والإنتاج ضعيف والتخلف يزداد بشكل مخيف والثروات تبدد بشكل جنوني! وهنا لابد من التوقف قليلا، فكثير من الناس يتوهمون عندما يقارنون أنفسهم بالالمان واليابان.. يقولون كان لابد ان نكون مثلهما عندما رجعت كل من المانيا واليابان بعد قرابة عشر سنوات من تحطيمهما في الحرب العالمية الثانية.. ولا يدركون الفروقات الجوهرية بين الالمان واليابان من طرف وبين العرب ومن يشاركهم بنيوياتهم الفوقية من مجتمعات اخرى! صحيح ان كلا من البنية التحتية الالمانية والبنية التحتية اليابانية قد تحطمتا ولكن كانت كل منهما تمتلك بنية فوقية وعالية المستوى جدا هي التي استطاعت ان تعيد انتاج نفسها من جديد بعد ان طورتها بسرعة خارقة وليس مشروع مارشال بذاته!
مشروع قهري وراء كل التداعيات!
ان تداعيات الحياة العربية لا اول لها ولا اخر وخصوصا عند اولئك الذين يصنعونها، اذ يبدو ان اغلبهم لا فهم لهم ولا ثقافة عندهم ولا ادراك متبادل لديهم.. لقد صنعتهم ظروف الحياة العربية المغلفة بكل اصناف الغرابة والتزييفات والمحسوبيات والمنسوبيات والتعاطفات والعشائريات والوصوليات والبهلوانيات ( وانعدام النزاهة في التقييم والاداء والامتحانات ) والشعارات والاوهام.. لكي تدفعهم نحو ميادين الحياة من دون أية مؤهلات قوية او امكانات حقيقية.. وما ان يصلوا مواقعهم حتى يقفوا ضد القوى الفوقية الحقيقية التي يمثلها عدد معروف وواضح من الاذكياء والمبدعين والمتميزين العرب من اجل النيل منهم وقهر مشروعاتهم وتحجيم ادوارهم وخلق المتاعب لهم واضطهادهم وبالتالي تهجيرهم، اي بمعنى هجرة زاحفة للعقول نحو العالم فافتقدت البلدان العربية ذات الثقل الحضاري الالاف من العقول على امتداد خمسين سنة، وكم اتمنى ان تصل الى ايدينا نحن المؤرخين اية احصائيات لعقول هاجرت من بلداننا على امتداد قرن كامل، فسيكون الامر مذهلا في نتائجه!.. ان الاغبياء والمعوقين والمهووسين بالجمود والمتكلسين بالتحنط والتخلف والتفاهة هم ببساطة: مشروع قهري في استلاب تطور الحياة العربية، ولكنهم يتمتعون بكل ما تنتجه البنى التحتية ولكنهم من ابعد الناس عن البنى الفوقية ومشروعاتها الحضارية المتمدنة.
لقد جمعني قبل شهور وفي إحدى المناسبات لقاء طويل مع واحدة من امهر الاعلاميات العربيات من اللواتي يقدمن برنامجا ذكيا على إحدى الفضائيات العربية.. وجرى بيننا حديث رائع بعيدا عن عدسات الكاميرات، وتطرقنا إلى تداعيات الحياة العربية التي لا يمكنها ان تعتدل ولو لمرة واحدة، كما يتمنى ذلك اصحاب الضمائر الحية لأن واحدا من اسباب وعلل المأساة انما يكمن في المشروع القهري الذي يمارسه الأغبياء الذين توارثوا امراضهم وصفاتهم السالبة من خلال سريان جيناتهم الوراثية المتخلفة أبا عن جد. سألتني تلك السيدة الذكية: وهل تعتقد ان الأمور لا يمكن اصلاحها سريعا؟ اجبت: لا أبدا، فالفرق كبير وشاسع اليوم بين من يريد بناء تحتيا من اجل مصالحه الآنية وبين من يريد بناء فوقيا من اجل انسان جديد ومجتمع جديد يمكنه ان يحيا ويواجه معضلات القرن الحادي والعشرين, علما بان المحصلة التاريخية ستكون للثاني لانه سيخلق بالضرورة بنيته التحتية، ولكن المشروع الاول مجرد نفخ طائش في الهواء.. اذ انني اّصوره كمن ادخل قطيعا من الابقار المتدافعة في (صالة) رائعة تعزف فيها (سيمفونيات) رخيمة من الدرجة الأولى!
اردفت تلك السيدة المثقفة تسأل وتقول: انسيت ما يفعله اغلب الحكام العرب الذين يعتمدون على بعض من المستشارين وحواشي الوصوليين والنرجسيين الذين ليس لهم الا ملء كروشهم.. انهم يزينون للحكام كل ما يرونه.. اجبت: صدقت ولكن المشكلة اكبر من ذلك، اذ لا يمكن ان يكون الحكام العرب سببا في كل المصائب! فثمة مشكلات معقدة مغروسة في نظامنا الاجتماعي العربي.. وثمة كتل وجماعات وأحزاب سياسية وعصبيات اجتماعية عربية لا تقبل ان تغير من انماط تفكيرها ابدا.. انه الرضي بالجهالة والتخلف والمقنع تحت شعارات شتى! وعليه، فالأمر ليس سهلا وهينا ان يسير العرب في ركاب العصر.. ومن أسوأ ما يتصفون به اليوم جعلهم المظاهر الكاذبة والخادعة والبراقة والعابرة بمثابة حقائق كبرى وتبنى عليها كل الاشياء. لقد عاش العرب ردحا طويلا من الزمن وهم يتوهمون الاكاذيب حقائق والاخيلة واقع.. اندفعوا ليقولوا بالبرجوازية العربية ولا وجود لها وادانوا واقعهم بادانات لا اصل لها وقالوا بالكومبرادور ولا وجود له عندهم وقالوا بالصراع الطبقي ولم يكن هناك طبقات بل شرائح اجتماعية تعيش في ظل الاستبداد الشرقي.. وقالوا بالوطن العربي الواحد وهو مجموعة اوطان متفرقة لا يجمعها الا القيم واللغة والاعتبارات العربية.. لقد سرقوا افكار وايديولوجيات اوربا وقالوا بالحرية والوحدة والاشتراكية ولا وجود لها ابدا، ثم استعاروا الفاشية والنازية وكل اساليبهما وتمثلوهما.. وقالوا بالتقدمية والطليعية والانقلابية والثورية والتحريرية والشعبية والديمقراطية.. وطبقوا الاشتراكية العربية ففشلوا فشلا ذريعا وعرضوا اقتصاداتهم النامية الى هزات ماحقة.. وكذبوا على الجماهير بخطاباتهم الرنانة واذاعاتهم الطنانة.. وقالوا بالدفاع العربي المشترك والسوق العربية المشتركة والقرار العربي الموحد والفكر العربي الموحد في جامعة الدول العربية واسسوا وزارات وحدة وهم اصلا لا يؤمنون بالوحدة .. ولا حياة او تطبيق لذلك كله.. الخ استعرضوا عضلاتهم باسم القومية العربية واكل بعضهم بعضا وغزا بعضهم البعض الاخر.. لقد اساؤوا الى العرب والعروبة بسبب من الاوهام القومية التي جعلت الناس تنفر منها عبر مراحل مضت! واليوم، يعيش العرب مرحلة من نوع آخر اذ تكثر فيها الاوهام والمخيالات ولكن على نحو كارثي وفي ظل شعارات ودعوات وايهامات من نوع آخر يتلمسه كل من يمتلك ذرة من التفكير الحاد والرؤية الخارقة.
من أجل بنى فوقية عربية وتكوينات جديدة
اعتقد اعتقادا راسخا بان صناعة جديدة للبنى الفوقية العربية كفيلة في تخليص مجتمعنا العربي عموما من معضلاته وازماته ومشكلاته التي يقف التخلف في مقدمتها.. ان نجاح أية مشروعات جديدة تستوجب ان يغير العديد من الزعماء والساسة والمسؤولين العرب من فهمهم للحياة الحديثة، وان تبدأ مشروعات حيوية وخصبة واستراتيجية دائمة من اجل منح العرب حرياتهم المتنوعة التي يفتقدونها مع تطبيقات صارمة لسيادة القانون وتكافؤ الفرص واصدار تشريعات ضد البلادة وضد القمع وضد الأمراض الاجتماعية وضد العادات البالية واعلاء شأن حقوق الانسان في عيشه وعمله ورزقه وحياته.. ناهيكم عن مشروعات تربوية وتعليمية وصحية وتضامنية عالية المستوى وان يستفيد العرب من تجارب غيرهم.. وتولي الاذكياء من المبدعين والمتميزين والنشطاء العرب مكانتهم الحقيقية وصناعتهم للقرارات وتنفيذها، وان تتغير الذهنيات الجامدة وتتغير القياسات في كل المعالجات من احادية المطلقات إلى التفكير النسبي بعيدا عن الانوية والمفاخرة والتنطع الفارغ وصناعة الأكاذيب والشعارات والعيش في مستنقعات الاوهام.. مع وجوب احترام مواريثنا واصالتنا ونقد تواريخنا وتقديس الشأن العام، وعدم المس بالمال العام والعمل من اجل الصالح العام.. نريد بنى فوقية من القوى البشرية الفاعلة لها القدرة على صناعة مستقبلنا وتطوير مصالحنا وتنجح في تسيير دفة سفننا العربية التائهة وسط بحر العواصف وما ينتظر اجيالنا القادمة.. فهل هناك من يسمع ويستجيب في بناء فوقيات تغدو لها القدرة على تطوير استراتيجيات عليا لنا تحت شمس القرن الواحد والعشرين؟ انني اشك في ذلك.